السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أبوظبي.. الانحياز للثقافة

أبوظبي.. الانحياز للثقافة
9 ابريل 2014 10:50
المدن محجوبة بأسرارها، لا تنفتح إلا للعشاق الهائمين على أرواحهم في صبابات ليلها التاريخي العتيق. المدينة بنت امرأة عتيقة، تحمل على كتفيها آلاف السنين التي نسميها حضارة. هي كتابنا المفتوح على السلالة، نقرأ فيه ما يتجلى من أرواح من سبقونا، وما تركوا لنا من الحنين غافياً في تربة ذاكرة تنتظر من يوغل فيها ويقرأ روحها، يفك الرموز، يرتب البهاء، يرصف التواريخ، يوثق الأحداث، يروي الأخبار المكتومة، يدوزن الإيقاع ليرسم في النهاية حالة الناس في لحظة تاريخية وجغرافية بعينها. بكليّتها، باتساعها الروحي، بقلبها الوسيع، تطل أبوظبي عليك.. تدوزنك على إيقاع حلمها الناهض في مشهدها الثقافي الكلّي. ربما ترى فيها شيئاً من الغربة حين تطالعها في ثوبها الموغل في الحداثة.. لكن في التفاصيل، تشعر كم أنها حميمة، وشفافة.. تتسلل إليك بهدوء مبالغ فيه.. بحنوّ يأخذ بمجامع روحك.. ومرات تستطيع هذه المدينة أن تبكيك فرحا مع نهوضك اليومي من الحلم تشاركك هناءك.. ومع فزعك من كابوس أرّقك في منامك تمدّ يدها لتمسح على قلبك.. ربما تهبك شيئاً من فرح عتيق شعرت به في طرقاتها، فتبدل حزنك سروراً وفزعك طمأنينة. ها هي تنسرب بين الحروف مثل عروس تستعصي على الزينة.. توصّفها فتحار من أي غبطة ستدخل إليها.. تكتبها بمداد القلب لا الحبر.. تخلع عنها وجهها النهاري وتسحبها من قلبها إلى بيتك.. تسقيها فنجالاً من القهوة العربية الأصيلة حتى تأنس إليك.. عندها، تجلس إلى روحك، تكتب في حضرتها شيئاً من ذهب تاريخها القديم.. تفرح بما كتبت.. توقع بالحروف الأولى من اسمك.. تتذكر أنها هي، لا أنت، من فتح قمقم الكتابة وأطلق المارد.. ها هي تمتد أمام ناظريك.. يزينها الهوى من كل صنف ولون، تجمع بين جناحيها نماذج من البشر يختلفون في جنسياتهم وسحناتهم وهوياتهم ومشاربهم الحضارية والثقافية، لكنهم يتعايشون فيها بسلام واسع يستوعب اختلافاتهم ويحترمها. أبوظبي.. تردد نغماً عالمياً من دون ادعاءات ولا تنظيرات فارغة.. ببساطة وعفوية وتلقائية تترجم درسها من دون أن تدير رأسها الأسماء الكبرى أو تلقي بالاً لما يترجمه المثقفون عن مشهدها؛ يسمونها كوزموبوليتية وتعددية و... و... فيما هي تمارس فطرتها التي فطرت عليها منذ البدء.. تفتح قلبها على ثقافات العالم وتحافظ على روحها البهيّة.. وتزداد اخضراراً مع طلعة كل شمس. لا يكمن سرّ أبوظبي في تعدديتها وتنوعها الثقافي فقط، بل في رهانها على الإنسان أولاً وآخراً. به وبتنميته تزهو... وبتوفير سبل العيش الكريم له تختال... مدينة كريمة في إنسانيتها، اختارت الانفتاح على الآخر شعاراً لها. والأمثلة على ذلك حاضرة يوميا في شوارعها وفي مشروعها الثقافي على الأخص... في انحيازها للثقافة والوعي تكمن قوة هذه البلاد، لقد اختارتهما في عالم تضاءل منسوب إنسانيته حتى يكاد يجف.. حروب وقتل وضغينة وحقد وخلاف وسعار وراء المكاسب المادية وتراجع لكل ما هو روحي وإنساني.. خراب منتقى، مشغول على نار هادئة، يضرب في مفاصل الكوكب.. الكوكب الذي يعاني من احتباس حراري واحتباس إنساني.. العالم المأزوم بـانخفاض الأوزون وانخفاض مستوى الروح، في وسط هذا كله، تختار أبوظبي أن تنتصر للثقافة وأن تعليها في فضاءاتها وتغدق عليها المال والرعاية والاهتمام.. تختار ذاكرتها الحيّة وتسير إلى مستقبلها مخفورة بالآمال الكبيرة... وإن قصرت في شيء.. وإن غاب عن بالها شيء.. هل نتنكر لها أم نجد العذر.. ونقترب من قلبها، ونهمس لها بأن تعتني في المرة المقبلة. أبوظبي مدينة اختارت أن تصنع حداثة معقولة تمزج بين القديم والجديد، وتوازن بين الحاضر والتراث، لم تذهب في الحفاظ على الموروث والماضوي إلى حد العزلة والانطواء، ولم تركض إلى سراب حداثوي يحمل من الضرر أكثر مما يجود بالمنافع، لقد وجدت لها مكاناً وسطاً جعلها تتميز بهذا الزخم الحضاري والثقافي، لا سيما في عصر الثقافة العابرة للقارات والسماوات والفضاءات التي لا يبدو من السهل فيها تحييد أو سلخ أي مسلك بشري أو منجز تكنولوجي من مهمته الثقافية. هذه الحال التعددية التي تشهدها الإمارات هي وسيلة تواصل ثقافي، ربما لا يتجلى في أشكال المثاقفة التقليدية لكنه على المدى البعيد يمارس هذا الفعل بهدوء وليونة. فثمة ثقافات تمارس حضورها عبر ركائز بصرية أو لغوية تحمل سيمياءها وعلاماتها وحمولاتها ومخاطرها وتهديدها للهوية أيضاً.. وهي، على الأغلب، واحدة من الأنساق الثقافية الجديدة التي تفعل على نحو خفي ومستتر في الوعي والذاكرة، في الإنسان والمكان، وربما لن تظهر آثارها الآن على مستوى الدراسات الاجتماعية المعمقة. جذر تاريخي بيد أن هذه التعددية وهذا التنوع ليس جديداً على الإمارات ولا على أبوظبي، فقد عرفَتْها منذ زمان قديم، ومارست فضيلة التعايش مع الآخر على مرّ القرون. فبسبب موقعها الجغرافي وانفتاحها على البحر، اكتسبت كما كل المدن البحرية، سمة التنوع وفضيلة المثاقفة بوصفها مكاناً تلتقي فيه جنسيات كثيرة.. تقلّ وتكثر، حسب الظروف الاقتصادية وعوامل الجذب التجاري. من يبحث عن جذور هذا التنوع سيجده في دورها الحضاري القديم، حيث لعبت دوراً وسطياً أيضاً في نظام التجارة العالمي القديم، وهو دور يحتاج إلى قراءة جديدة حسب البروفيسور (دانيال. تي. بوتس) الذي يدعو إلى استخدام واتباع أسلوب التحليل متعدد المستويات لفهم تاريخ الإمارات بشكل أفضل وأوسع ليكون جزءاً من التاريخ العالمي الأوسع، أي النظر في ماضي الإمارات من خلال (التاريخ الأكبر)، وهو ما قام به لرصد 8000 عام من التطور لدولة الإمارات العربية المتحدة. وتناول بوتس، وهو بالمناسبة أستاذ كرسي آثار الشرق الأوسط في جامعة سيدني، ومتخصص في الآثار والتاريخ القديم لإيران، والخليج، وبلاد الرافدين، والحدود الهندية الإيرانية، وآسيا الوسطى، في بحث مقدم في مؤتمر “مفاهيم جديدة في تدوين تاريخ الإمارات” الذي نظمه المركز الوطني للوثائق والبحوث ست حالات من الماضي الأثري الثري للإمارات العربية المتحدة، منها سكان الإمارات الأوائل، واتصالهم ببلاد ما بين النهرين فيما يسمى بفترة العُبيد (بضم العين) أي حوالي 6000-4000 ق.م، وفي الفترة المعروفة باسم جمدت نصر (حوالي 3000 ق. م)، وموقع الإمارات في نظام التجارة عبر القارات في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، ومشاركة الإمارات في ظل مناطق نفوذ الآشوريين الجدد والإمبراطوريات الأخمينية الفارسية في منتصف الألف الأول قبل الميلاد. وأخيراً مشاركة الإمارات في القرن الأول الميلادي في مجال التجارة عبر القارات، التي امتدت من غرب أوروبا وحوض البحر المتوسط حتى الصين وجنوب شرق آسيا. وحسب الباحث، “لا ينبغي إغفال مغزى تلك التطورات؛ فالمؤرخون وعلماء الآثار المقيدون بشدة بمجال عملهم، والذين ينظرون إلى جهودهم نظرة ضيقة لا يخدمون الإمارات وماضيها. إنهم مسؤولون عن توضيح كيف ولماذا حدثت تلك العمليات التي شاركت فيها الإمارات عبر التاريخ؟”. لقد لعب الإماراتيون القدماء دور الوسيط التجاري بين شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط وشعوب المحيط الهندي، كما أسهم الموقع الجغرافي المتوسط للإمارات، ووقوعها على ساحل الخليج العربي الغربي، وإطلالها على المحيط الهندي عبر بحر عمان، في جعلها شريان حياة للتجارة الدولية في العصور القديمة والحديثة. ولم يكتف سكان الإمارات باستيراد البضائع وإعادة تصديرها سواء بين بلاد الرافدين أم حوض نهر السند في أواسط آسيا، بل كانت لهم منتجاتهم الخاصة بهم خاصة مواد الصيد البحري. وفي العصور الوسطى لعبت الإمارات الدور نفسه، فعلى الرغم من وجود طرق عدة برية وبحرية لنقل منتجات الشرق إلى أوروبا إلا أن طريق الخليج العربي كان هو المفضل، وكان من نتائج ذلك أن ازدهرت موانئ الخليج العربي، بكل ما يحمله الازدهار الاقتصادي من حراك مجتمعي وثقافي وإنساني. إن هذا وغيره لا يؤشر فقط على المكانة والدور المهم لأبوظبي تاريخياً، بل يدلل أيضاً على نوع الثقافة التي عرفتها أبوظبي منذ القدم، تلك الثقافة المنفتحة التي تتميز بها عادة المدن الواقعة على البحر أو على خرائط الطرق التجارية والمهيأة لاستقبال تجار من دول شتى وجغرافيات متعددة. وهي ثقافة تنعكس في سلوك أهلها، طيبة وتسامحاً واحتراماً للآخر، ومن يقرأ شهادات الرحالة الأجانب، المتقدمين منهم والمتأخرين، يقع على فقرات طويلة تصف أهل المنطقة وحبهم للضيف وكرمهم وغير ذلك. إن السفر في ذاكرة الإماراتي القديم يعود بنا إلى آلاف السنوات، ومختلف العصور التي عرفتها الإنسانية مما لا يتسع المجال لإيراده، لكن قراءة متأنية في روح سيدة الرمل وجارة البحر، يكشف عن حضارات تنام في أعماقها، وقد كشفت أحدث الحفريات في المنطقة الغربية، على سبيل المثال، عن وجود آثار ترجع إلى العصر الحجري القديم الأوسط. أي أن عمرها يقدر ما بين 35 ألف عام و150 ألف عام. أما مدلول هذا الاكتشاف، فهو إضافة جديدة في عمق النشاط الإنساني على أرض أبوظبي، والذي تبين أن جذوره الأولى ترجع إلى العصر الحجري القديم وليس إلى العصر الحجري الحديث قبل 7500 عام كما كان يعتقد. وفي طبقات أرض جزيرة أبوظبي دلائل كثيرة على كونها ربطت بين الحضارات القديمة وكانت جسراً بين الثقافات القديمة، تماماً كما هي اليوم جسر بين ثقافات العالم المعاصر. حكاية أبوظبي على حواف الصحراء بدأت سيرة المدينة. ويحكي الباحث محمد حسن العيدروس في كتابه “دولة الإمارات العربية المتحدة من الاستعمار إلى الاستقلال”: “إن زوال النفوذ البرتغالي كان له أبعد الأثر في هجرة العديد من القبائل العربية إلى سواحل الخليج العربي الغربية والشرقية، ومنها “بني ياس” الذين قدموا من منطقة “ليوا” إلى جزيرة أبوظبي على شاطئ الخليج العربي عام 1761”. أما كيف حدث ذلك، فالشائع روايتان يوردهما كلود موريس في كتابه “صقر الصحراء”: “الرواية الأولى تقول إنه عندما كان شيخ القبيلة يقوم بالصيد، وصل إلى جزيرة في الشاطئ تغطيها طبقة رمادية من سديم الفجر، ولما زال هذا السديم رأى ظبياً، واكتشف في مكانه نبع ماء عذب، فرجع إلى قومه في الداخل، وقال لهم: الجزيرة هي جزيرة أبوظبي ويمكن الوصول إليها إبان “الجَزْر” أي (عندما ينحسر ماء البحر أثناء عملية المد والجزر)، ويمكن الدفاع عنها من الغزاة دفاعاً حسناً. والرواية الثانية تقول: إن صياداً طارد ظبياً في الجزيرة، فلما أدركه وأمسك به كان الصياد والظبي قد تعبا وعطشا، فذهب الصياد بالظبي إلى بئر ماء فوجدها جافة فهلك الاثنان عند البئر، فسميت الجزيرة بأم ظبي ثم أبوظبي”. ويذكر الباحث الدكتور فالح حنظل أن “اكتشاف الماء تم في عام 1761م وأخذت جماعات من بني ياس بالهجرة من منطقة الظفرة الصحراوية لتقطن في هذه الجزيرة البحرية، وبدأت تلك الجماعات شيئاً فشيئاً تمتهن مهن البحر كالغوص وتجارة اللؤلؤ وصيد الأسماك وصناعة السفن. ويورد في كتابه “المفصل في تاريخ الإمارات”: “ذكر قصة اكتشاف الماء في أبوظبي الضابط الانجليزي الملازم هينيل الذي اصبح فيما بعد نقيباً (كابتن) وتسلم منصبا مدنيا بصفة مقيم سياسي في الخليج حيث كان يتنقل بين سواحل إيران والسواحل العربية، وفي عام 1831 كتب تقريراً عن (قبيلة بني ياس) أورد فيه قصة اكتشاف الماء في أبوظبي. كما أورد تسلسل حكام بني ياس وعلى ذلك التقرير اعتمد المقيم السياسي لوريمر الذي كان مقيماً سياسياً في بوشهر عام 1914 حينما كتب موسوعته “دليل الخليج” الذي اعتمد عليها بعد ذلك كل من أرخ وكتب عن أبوظبي والخليج عامة”. التفاصيل باتت معروفة للجميع، أمر الشيخ ببناء برج يحمي الماء، ثم هدته حكمته إلى الموقع الاستراتيجي التي تتمتع به الجزيرة فقرر الانتقال إليها، وبدأت الحياة تدب في أوصال المكان بسرعة (يذكر هينيل أن عدد البيوت في الجزيرة قد تزايد خلال عام واحد من عشرين إلى أربعمئة بيت). وولدت في قلب الصحراء مدينة فريدة في تجربتها التنموية والإنسانية، وفي حكمتها التي مكنتها من توفير الأمان لمئتي جنسية تمارس حواراً، يومياً، في قالب من العيش المشترك، وتحت قوس واسع من التعددية والتنوع والتسامح والانفتاح على الآخر. وكلها عوامل تضفي على التجربة طابعاً عالمياً وإنسانياً وفاعلية خلاقة. “النخّي” وعبد الناصر يرتبط التاريخ الثقافي لأبوظبي بثلاثة ملامح أساسية هي: التعليم ونشأة المدارس، والمجالس، والقهوة الشعبية، وقد ساهمت كل منها بشكل ما في توعية الناس وتثقيفهم. التعليم والمدارس: يرتبط التعليم بتاجر اللؤلؤ المعروف خلف العتيبة، الذي عرف بالكرم واحترامه للعلم والعلماء. وبني أول مدرسة في أبوظبي عام 1903م، كما يذكر عطا الله إبراهيم العموش في كتابه “تاريخ التعليم في الظفرة”: “تشير رواية أخرى أن تاريخ إنشائها كان عام 1911م، وعلى عادة المدارس في تلك الفترة اهتمت المدرسة بالتعليم الديني واللغة العربية. ومن معلميها الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل مبارك وهو من أبرز علماء الإحساء، كما درَّس فيها الشيخ عمر السالك الملقب بالشنقيطي، والشيخ عبد العزيز المبارك، وعبد الله الرستماني، وراشد المبارك. وكانت المدرسة مبنية من سعف النخل، وعدد طلابها يتراوح ما بين 20 إلى 25 طالباً، وقد استمرت حتى عام 1962م. كما أنشأ درويش بن كرم مدرسة أهلية عام 1940م. أما تعليم المطاوعة فكان منتشراً في مساجد أبوظبي. وخلال فترة حكم الشيخ حمدان بن زايد (1912 -1922) قدم إلى إمارة أبوظبي عدد من العلماء منهم: محمد علي أبو زينة والشيخ محمد الكندي وعبد اللطيف المبارك، وتولوا التدريس في المدارس وكانوا محل احترام وتقدير حكام أبوظبي. وقد بدأ التعليم النظامي بمفهومه الحديث عام 1958م بإنشاء المدرسة الفلاحية، وكان فيها عدد من المعلمين تم إحضارهم من الأردن، لكن المدرسة أغلقت أبوابها مع نهاية العام الدراسي 1958/1959 وعاد المعلمون إلى بلدهم. وفي عام 1960م ذهب وفد مكون من: عبد الجليل الفهيم ودرويش بن كرم وخليفة اليوسف إلى الأردن وأحضروا ستة مدرسين وأعيد فتح المدرسة من جديد. وفي مدينة العين أنشأ الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “رحمه الله” المدرسة النهيانية ثم توالى افتتاح المدارس في أبوظبي. أما في منطقة الظفرة فقد كان التعليم يتم على يد المطاوعة الذين كانوا يعلمون القرآن والكتابة والقراءة وبعض أحكام الدين، بالإضافة إلى أنهم كانوا يقومون بإمامة الصلاة والقضاء وإجراء عقود الزواج”. لقد عمل هؤلاء في ظروف قاسية، وبشكل تطوعي، ومن أشهر المطاوعة: عفراء بنت السندي المرر، ابن عبلان المزروعي، محمد بن إمحوش المزروعي، بدر بن يوسف البحريني، وأحمد بن سالم بن مساعد المنصوري، وسالم بن محمد بن فطيمة المنصوري، ومصبح الكندي المرر، وسالم بن أحمد المحيربي، وسيف بن حميدي المنصوري، ومحمد بن حوفان المنصوري، وأحمد سيف زعل الفلاحي ومبارك بن سعيد بن عبد المعين المنصوري ومبارك بن فطيس المنصوري وسالم بن خلفان بن فطيس المنصوري وخميس بن سعيد بن خميس القبيسي. وتقدم لنا سير هؤلاء الناس مرة أخرى وجهاً مشرقاً لرجل الأعمال، التاجر، المتنور الذي خدم العلم ويقوم بواجبه المجتمعي بشكل طوعي.. وهي ظاهرة كانت موجودة على كل حال في جميع الإمارات، ولا تزال حتى الآن. مجالس.. اليقظة المجالس: عرفت أبوظبي كغيرها من إمارات الدولة نوعا من المجالس الشعبية التي كانت تقوم بدور ثقافي، بوصفها مكاناً للحوار والجدل حول الموضوعات الحياتية المختلفة، لكن الهم الأساسي لروادها كان متابعة أخبار السياسة وما يجري في المجتمع من أحداث. كانت تلك المجالس تمتلك إمكانات التواصل البشري وتبادل المعلومات والأخبار والمعارف التي تحصلت لدى البعض من خلال قراءة الصحف والمجلات التي كانت تصل إلى البلاد مع السفن. صحف ومجلات ثقافية ذاعت في تلك الفترة المبكرة ومارست دوراً توعوياً وتثقيفياً مقدراً كما يروي الذين عاصروا تلك الحقبة التاريخية. ولعبت المجالس منذ بدايات القرن العشرين دوراً ثقافياً واجتماعياً بارزاً، فقد كانت مزاراً يومياً للصيادين والنواخذة وأصحاب الحرف ولجميع الناس باستثناء النساء والأطفال والفتيان الذين لم يدخلوا بعد في سن الشباب، يلتقون فيه ويتبادلون الأخبار ويعقدون الصفقات وينتظرون عودة محامل الغوص من سفرها الطويل. ونجحت تلك المجالس والمجلات في التخفيف من حدة العزلة التي ضربتها بريطانيا على منطقة الخليج لأهداف سياسية واقتصادية، لم يكن من فرصة للاحتكاك بالعالم الخارجي ومعرفة ما يدور فيه من أخبار وأحداث سوى الروايات الشفاهية التي يتقن البحارة والتجار العائدون من رحلاتهم التجارية سردها وروايتها على مجالسيهم. كانت بعض مجالس علية القوم الذين امتلكوا حظاً من التعليم أشبه بمنتدى ثقافي لكن مريديه أشخاص محددون يجتمعون للتباحث في شؤونهم ومعرفة ما يهمهم معرفته. ومع بدايات الطباعة صارت المجالس وسيلة المعرفة المكتوبة وتبادل المعلومات كشكل متجاوز للرواية الشفاهية او الخبر المفتوح على خيال الرواة الذي انتقل من الحكي الى المكتوب، ودخل في الهاجس المعرفي الذي كان يؤرق النخبة الاقتصادية المشغولة او المؤرقة بالتحولات العالمية سواء على صعيد متابعة أخبار اللؤلؤ الصناعي الذي هدد بضرب أكبر نمط تجاري عرفته المنطقة قبل ظهور الذهب الأسود، أو متابعة تفاصيل الحراك السياسي الذي كانت تشهده المنطقة، أو بالنسبة الى النخبة المتعلمة والمثقفة من أبناء البلاد الذين كانوا يتداولون فيه الآراء والكتابات ويترنمون بالشعر ويسمعون الغناء الأصيل ويمارسون اهتماماتهم واحتداماتهم الفكرية والأدبية. المقاهي الشعبية: يذكر كل الباحثين الذين ارخوا للحركة الثقافية والإعلامية في الإمارات، على اختلاف بسيط في التفاصيل الدقيقة، ومنهم الباحث عبد الله عبد الرحمن أن مصبح بن عبيد الظاهري (بنى في أربعينيات القرن الماضي قهوة شعبية، هي الأولى والوحيدة من نوعها، من سعف النخيل، وفرش حصران (جمع حصيرة كانت تصنع من سعف النخيل لتقوم بوظيفة السجادة). في هذه القهوة كان يجتمع شباب مدينة العين وشوّابها وربما انضم إليهم أهل البريمي والهيلي والجيمي والمعترض وأحياء ومناطق أخرى وكان أبرز مشروبات القهوة الشعبية هو (الشاي) الذي كان يعده صاحبها في (صفائح) معدنية بعد خلوها من (الكاز)؛ أي الكيروسين التي كانت تصل إلى المنطقة من عبادان فيقطعها نصفين ليعد في النصف السفلي من (الصفيحة) الشاي على مواقد من الحصى والحطب، ويحركها بقطعة خشبية. وعلى أكواب الشاي تلك كانت تدور السوالف بين رواد القهوة عن ظروفهم المعيشية وهمومهم العامة، وعن الشجاعة وذكريات الزمن السابق. في تلك البدايات عرف المجتمعون من أهالي العين ورواد المقهى مصبح الظاهري بصفته (كرانياً) أو (مطوعاً)، ذلك أنه إذا استدعت أحدهم حاجة لكتابة (خط) أي رسالة لقريب أو صاحب في منطقة أو إمارة أخرى أو في خارج البلاد لجأ إلى المقهى ليملي على (مصبح) كلمته. بعد أن يصوغ الرجل مقدمته التقليدية في كل رسالة). في هذه القهوة الشعبية سيتعاطى أهل العين مع أولى منجزات التكنولوجيا: الجرامافون (البشتختة بالدارجة الإماراتية) الذي سيسمعون من خلال أسطواناته أغاني محمد زويد، سالم الصوري، محمد فارس، ضاحي بن وليد، عبد اللطيف الكويتي، محمود الكويتي. لم يكن هدف الرجل لا تربية الحس الموسيقي لدى رواد قهوته ولا تثقيفهم غنائياً أو موسيقياً.. كل ما في الأمر أنه أراد أن يجذب رواداً أكثر وقد نجح في ذلك، لكنه في الوقت نفسه كان يقوم بفعل ثقافي جميل، سيعززه بعد ذلك بفعل صحفي أو إعلامي سيجعل بعض الباحثين في تاريخ الإعلام الإماراتي يطلق عليه لقب أول صحفي مارس الصحافة. ذلك العمل هو ما يعرف في الأدبيات الإعلامية بـ “صحيفة النخي”، والنخي هو الحمّص المسلوق أو (البليلة) بلهجة أهل مصر والشام (حماهما الله وخلصهما من شرور العنف والفتنة وأخواتهما)، أما الصحيفة فهي ورقة علقها الرجل على باب دكانه وكتب عليها مديحاً عالياً يمجد فيه “النخي” وقدراته مستعيناً بالشعر الذي يعرف مدى تأثيره على الناس. الظاهري نفسه، سيدخل الى العين “فتحاً تكنولوجياً” آخر، هو الراديو أو المذياع، الذي ما إن بدأ ينطق حتى ظن “الشواب” أنه شيء من السحر والخداع، لكن علاقتهم به تحولت 180 درجة عندما صار ينقل لهم أخبار الحرب العالمية الثانية، بعد أن كانوا تأكدوا من صدقيته.. بعدها، سوف يكون هو نفسه وسيلتهم الى صوت الزعيم عبد الناصر يأتي من صوت العرب. حيث كان الناس في تلك الفترة يعيشون حالة يقظة قومية، ويقفون في صف عبد الناصر. ولا تمنع الطبيعة الملتبسة والتبسيطية أيضاً لصحيفة (النخي) من القول إن هذه الخدمات الثقافية التي قدمتها تلك المجالس الشعبية، والتي كانت، رغم محدوديتها وبساطتها، في ظل تلك الظروف الصعبة، وفي تلك العزلة التي كانت تعيشها منطقة الخليج، تبدو متقدمة أفقاً وممارسة. فالظاهري فعلياً كان ينشر نوعاً من الوعي المبكر في (منشوره الصحفي هذا) بضرورة الاهتمام بالشأن الاجتماعي المحلي أولاً (كان ينشر في البداية أخبار مدينة العين والحوادث والأعراس والمواليد والوفيات ثم توسع في نشر أخبار الإمارات الأخرى)، والاهتمام بالشأن الثقافي وتربية التذوق ثانياً (خصص في مرحلة لاحقة مساحة للصور وابتكر ابواباً للمقامات الأدبية والشعر المتعلق بالفخر والغزل)، والاهتمام بالشأن السياسي ثالثاً حيث توسع في نشر الأخبار التي كان يرتبها حسب الأهمية، فيبدأ بأخبار الحاكم ثم أخبار القبائل كذلك إحصائية يومية بعدد القادمين والمغادرين من مدينة العين وإليها. كانت بدايات القرن المنصرم شاهداً على مرحلة تنوير ثقافي أسسها نخبة من الفقهاء وأصحاب الفكر والمتعلمين منهم على سبيل المثال: مبارك الناخي، إبراهيم المدفع، سالم العويس، مبارك العقيلي، عبد الله الصانع، وعلي رشيد وغيرهم ممن باتوا لدى المؤرخين أو الباحثين في شؤون الثقافة الشعبية من قامات الإمارات وأعلامها. وقد ترسخ حضور القهوة الشعبية في حياة المجتمع في فترة الحرب العالمية الأولي والثانية كما أسلفنا.. لكن القهوة الشعبية تخلت عن جزء من دورها الثقافي للمجالس التي اشتهر بها الإماراتيون، ولم تكن تلك المجالس سوى (صالونات ثقافية) بالمصطلحات الحالية، فقد كانت أشبه بالمنتدى الثقافي وقامت بدور تثقيفي كبير، وكانت تقام خارج البيوت، وحسب الشاعر الدكتور أحمد أمين المدني فإن “تطور وسائل النقل والمواصلات في الثلاثينيات، بعد أن كانت صعبة وبطيئة، قد أحدث آثاراً كبيرة في الحياة الثقافية بالإمارات أقل ما يقال فيها إنها وسعت دوائر الثقافة، وأصبح بإمكان الإصدارات التي تحمل نتاج الفكر العربي في السياسة والأدب والاجتماع والعلوم أن تصل إلى الإمارات من مصادرها في أيام معدودة. ومن بعض الصحف التي كانت تصل إلى أبناء الإمارات (العروة الوثقى) لجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده و(المنار) لرشيد رضا و(الرسالة) لأحمد حسن الزيات و(المنتدى) المقدسية و(الثقافة) المصرية وكثير من الصحف المصرية والعراقية التي كانت تصل عن طريق البحرين”. وفي مرحلة الخمسينيات والستينيات استعادت القهوة الشعبية حضورها، وشهدت حركة انتشار واسعة، وربما كان السبب المباشر فيها الأحداث السياسية التي كانت تعصف بالمنطقة العربية، حيث كانت الدول العربية تسعى للحصول على استقلالها وتكافح من أجل الحرية.. وكان الإماراتيون بالطبع في قلب الأحداث، حريصون على متابعتها أولاً بأول. وكانت المقاهي الشعبية قديما بمواقعها وأسمائها ذات دلالة للمكان والزمان والإنسان. ومكاناً للجدل ومواكبة المد النهضوي والثقافي في العالم العربي. وحتى أوائل السبعينيات من القرن المنصرم كانت المقاهي الشعبية هي مكان اللقاءات و(المنتديات الثقافية) في صيغتها الإماراتية، لكنها بعد ذلك سلمت دورها للأندية الرياضية التي أخذت على عاتقها الاهتمام بالجانب الفكري والثقافي والفني أيضاً، ليبدأ عهد آخر في تاريخ أبوظبي الثقافي مع تأسيس الدولة... عهد سيأخذ أبوظبي إلى وعدها الجميل ويفتح لها بوابات الفكر والفن والتمدن على مصراعيها... ربما تكون مصادفة تاريخية مثيرة أن تكون ولادة أبوظبي في الشرق 1761 قريبة جداً من ولادة اللوفر في الغرب، ففي حين أسست قبيلة “بني ياس” العربية الهلالية إمارة أبوظبي، كانت باريس تحتفل عام 1793 بافتتاح متحف اللوفر. لكن قرار تحويل جزيرة السعديات إلى منارة عالمية للحضارة لم يكن صدفة بالتأكيد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©