الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مفارقات الخطاب الليبرالي

8 يوليو 2008 01:15
الخطاب الليبرالي، أو ''الليبرتاري''، كما تبلور في الغرب، يَشتبه بالدولة ويتوجس طغيانها على سائر مناحي الحياة، لا سيما الاقتصادية منها، هل بوسعه أن يصبح كونياً، شامل السريان والنفاذ، منطبقاً، في أوج تبلوره ذاك، على كل ظرف وعلى كل حالة، في أرجاء هذا العالم؟ مساءلتنا للخطاب ''الليبرتاري'' لا تنطلق من مسبقات ''ماهوية''، على ما للخصوصيات الثقافية من بعض أهمية، بل هي مساءلة من قبيل تاريخي، على قاعدة الاشتباه بأن الخطاب ذاك استُخلص مما بلغته الدولة في بلاد الغرب، من تطور واستحكام· فالصفة الأساسية للخطاب ''الليبرتاري'' في الغرب، أنه ينطلق من الدولة القوية أو الناجزة كمعطى ماثل، ليرتد عليها بالنقد، جاحداً عليها- على سبيل المثال- تدخلها في الحياة الاقتصادية، وناكراً عليها الاضطلاع بتوجيهها· وهو يُقر باستقلالية أوجه الحياة الاجتماعية والنشاط البشري ومناحيهما عن بعضها البعض، لا يتقدم أحدها على سواه ولا يطغى عليه ولا يستتبعه، فتباينت حقولاً، ثقافة وإعلاماً وديانات وما إليها، لا يعدو السياسي أن يكون أحدها، بل انقسم هو نفسه، سلطات ومراتب كلاسيكية مستقلة ومعلومة، هي التنفيذية والتشريعية والقضائية· الفكر ''الليبرتاري'' الغربي قام بالضد من دولة استكملت مقوماتها كدولة، مسيطرة أو تنزع إلى السيطرة، سواء تمثلت في ''الملكية المطلقة'' التي قامت الثورات البورجوازية لتجهز عليها، أو في أصناف أنظمة الاستبداد التي استحكمت ردحاً من الزمن في الغرب خلال العصر الحديث، من توتاليتاريات فاشية ونازية وشيوعية· وذلك تحديداً ما قد يستوي تحديا أمام الفكر ''الليبرتاري''، وأمام نزوعه الكوني، وهو نزوع يبقى شرعياً من الناحية النظرية، ولكنه يبقى مشروطاً بالظرف التاريخي، الذي يعني في هذه الحالة، وجود الدولة· لكن هل من معنى للخطاب الداعي للحد من سلطة الدولة وتدخلها في المجال الاقتصادي أو في سواه في بلد مثل الصومال تفكك إلى عناصره (القبَلية) الأولى، أو في العراق الذي أدى سقوط نظامه السابق إلى زوال دولته، مع أنه يُفترض في النظام والدولة، أن يكونا متباينين، تباين الجوهر الثابت عن العرض الزائل، وقس على ذلك الحال في أفغانستان؟ وكثيراً ما لا تعدو دولـــه ما أن تكون مجرد ''سلطات'' أمرٍ واقع في الغالب، فاقدة للشرعية، لا تنهض بتجسيد كيــان ولا يتألف حولها إجماع شعب، إجماعاً طوعياً أساســه الارتضاء· ولعل ما سبق يمثل توصيفاً لما أسمته بعض الأدبيات، في أعقاب الحرب الباردة، بـ''الدول الفاشلة''· والدول تلك تواجه لُبسا يكاد يبلغ مبلغ الإعضال، فهي في نظر القانون الدولي دول-أمم، تحظى بالاعتراف بصفتها تلك وتتمتع بعضوية الأمم المتحدة وسواها من الهيئات الناظمة للحياة الدولية، ويسري عليها ما يسري على سائر الدول الأخرى، من حيث الحقوق والواجبات· وذلك اللبس هو ما قد يكون شكّل ''خدعة بصرية'' وقع فيها الخطاب الليبرتاري الوافد من الخارج (أما ''نظيره'' الداخلي فلا يزال كسيحا في الغالب، غائماً تبسيطياً) والذي سلط على تلك الدول غير الناجزة أو غير المكتملة أو الفاقدة لمقومات الدولة· محصلة كل ذلك أن الخطاب الليبرتاري أضحى، في مثل تلك الحالات، وهي قد تكون الأغلب عدداً على صعيد العالم، خطاباً مفارِقاً لا ينطبق على واقع قائم، حتى من حيث وظيفته النقدية، لفرط ما يبدو سابقاً على هاجس أكثر إلحاحاً، هو بعث الدولة إلى الوجود، في مناطق عديدة لا تزال في وضع ما قبل الدولة أو ترتدّ إلى ما دونها، على ما تدل أمثلة كثيرة، لا سيما في المنطقة العربية، حيث لا تكاد تحظى ''الدولة''، أو ما يتسمّى باسمها، باعتراف من يفترض أنهم مواطنوها، يتجاوزونها نحو أمّة ما، عربية أو إسلامية، أو يناكفونها باسم انتماء دوني، عضوي، إلى الطائفة أو الإثنية أو العشيرة· لكل ذلك، على الخطاب ''الليبرتاري'' ألا يكون، في أوضاع عينية كتلك، مجرد ناقد للدولة، بل عليه أن يكون مساعداً على استيلادها، أي عليه بمعنى من المعاني أن يعيد صياغة نفسه· صالح بشير- كاتب تونسي ينشر بترتيب خاص مع خدمة مصباح الحرية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©