الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

توابع الطلاق

23 مارس 2012
(القاهرة) - منذ جئت إلى الدنيا لا أرى أبي إلا ساعات قليلة كل عام، حيث يأتيني ببعض الملابس الجديدة والهدايا واللعب، خاصة الدمي التي كنت أعشقها وقد أخرج معه أحياناً في نزهة وحدنا من دون أمي، ويتكرّر الأمر كل عام إلا أنني بعدما بلغت مرحلة الإدراك بدأت أسأل عمّا يدور حولي وبعيداً عني وبعد تكرار وإلحاح علمت الحقائق المؤلمة وأخبرتني بها أمي وقد عجزت عن التماسك وغلبتها دموعها رغماً عنها ففهمت أنها غير راضية بالحال التي نحن فيها أو أن هُناك ما يزعجها أو يضايقها وان كنت غير قادرة بالضبط على توصيف حالتها. وعرفت من أمي أن أبي يعمل خارج البلاد وأنه طلقها منذ كنت رضيعة ولم تذكر لي الأسباب ولم أسأل عنها ولم أهتم بذلك، إلا أنني فهمت فيما بعد أنهما لم يكونا متفاهمين، وكانت بينهما اختلافات في الطباع إلى حد التنافر وأنه بعد ذلك ترك الشقة لي ولها، والتزم بإرسال مبلغ من المال شهرياً يكفي احتياجاتنا وهذا هو السر وراء عدم التقائهما عند حضوره في الإجازات وأنه لا يصعد إلى المسكن حينما يصطحبني للخروج وكل وسائل الاتصال بينه وبين أمي مقطوعة تماماً ولا أعرف أقارب أبي ولا حتى أخوتي الذين رُزق أبي بهم من زوجته الثانية، وكل ما يحدث أن أبي يحدثني عنهم ويخبرني بأنهم يحبونني، لكن لا أجد تفسيراً لعدم التعارف أو العيش في أسرة واحدة إلا بعد أن عرفت بطلاق أبي وأمي وأنه لا يجوز عرفاً ولا ديناً أن يلتقيا. لم تكن الساعات القليلة التي أقضيها مع أبي كافية لإشباع حاجتي من عطف وحنان الأب، كنت أشعر بالنقص الشديد في هذا الجانب وأحسد صديقاتي وزميلاتي وقريباتي على أنهن يعشن مع آبائهن وأمهاتهن مع أن أمي تبالغ كثيراً في تدليلي وتستجيب لكل مطالبي ورغباتي ولا تتوقف عن الثناء على جمالي حتى أصابتني بالغرور والتكبر على قريناتي إذ أدركت في طفولتي المتأخرة أنني فعلاً جميلة ومحط الاهتمام والنظرات التي كانت توجه إليَّ تؤكد ذلك، ومع أن أمي تبذل كل ما في وسعها وأكثر لتجعلني سعيدة ولا أشعر بأي نقص ولا تكون هُناك توابع لغياب الأب إلا أنني أصبت بعقدة نفسية لم تصل إلى حد المرض، لكنني كنت أعاني التفكير فيها، خاصة أنني أقيم أنا وأمي وحدنا وكل ما نفعله أنني أذهب إلى المدرسة كل صباح وأتناول الغداء مع أمي بعد العودة واستذكر دروسي ثم أشاهد التلفاز وأنام وهو جدول يومي ثابت يصيب بالملل ولا نخرج أنا وأمي إلا مرّة كل أسبوع لزيارة جدتي المريضة. ارتديت الحجاب في سن مبكرة تقريباً في بداية المرحلة الإعدادية عن قناعة ومبادرة مني خاصة أن أمي ومعظم صديقاتي محجبات، وفي الجامعة كنت متميزة بين زميلاتي بجمالي الذي يلقى الكثير من الإطراء وأحياناً الغزل، وفي الحقيقة كان ذلك يسعدني ويرضي غروري داخلياً وان كنت أدعي عدم الاهتمام به ظاهرياً وفي السنة الأخيرة من دراستي الجامعية ارتبطت عاطفياً بأحد المعيدين بالكلية التي أدرس بها وتقرب مني وأبدى إعجابه بأخلاقي والتزامي وشعرت بارتياح نحوه، فهو جاد وطموح ومحترم وشخصيته جذّابة، لكن كنت حريصة في التعامل معه فلم أسمح لعلاقتنا بأن تزيد على اللقاء بين الزملاء في الجامعة حتى لا أعرِّض نفسي للقيل والقال، خاصة أن مجتمع الجامعة مليء بالنميمة والكلام عن هذه العلاقات. لم أدع لهذه العلاقة فرصة للتأثير على دراستي وان كنت أخبرت أمي بها كي تكون على علم بكل ما يحدث، وقد رحبت بالارتباط به إذا تقدَّم رسمياً، وكنت أستعد كي يفاتحني في الموضوع بعد أن انتهيت من امتحانات السنة النهائية وأنا على وشك توديع الدراسة، وبالفعل طلب مني أن نلتقي لنضع النقاط على الحروف ونتعرف على بعضنا وبدأ بنفسه وأخبرني عن عائلته وتفاصيل كثيرة عن حياته وظروفه التي كانت كلها جيدة ولا غُبار عليها وليس لي أي تحفظات وحدثته عن نفسي قليلاً حتى وصلت إلى أن أخبرته بطلاق أبي وأمي وانتفض كأنه تعرَّض لصدمة كهربائية مفاجئة وأدرك أنه جرح مشاعري وحاول أن يتظاهر ويسيطر على أعصابه، لكنه لم يستطع فأنهى الحوار على وعد باللقاء لاستكماله. لم يخف عليَّ أن له تحفظات على انفصال أبي وأمي ولا أرى أن في ذلك عيباً أو ما يشين ولا أعرف كيف هي نظرته لهذا الأمر، لذلك لم أبادر بالاتصال به حفاظاً على كرامتي وبعد حوالي أسبوع جاءني الخبر اليقين بأنه يعتذر عن عدم الاستمرار في علاقتنا ويأسف لتراجعه لأسباب تخصه محاولاً أن يخفف عني الصدمة، وكانت هذه أول توابع زلزال انفصال أبي وأمي وأول ما جنيته منه وتحملت نتيجته بلا ذنب وهربت إلى النوم ليلاً ونهاراً من هذه الصدمة الشديدة وانقطعت عن العالم كله وقاطعت الجميع بمن فيهم أمي التي وقفت عاجزة عن فعل شيء وأحياناً يلعب الشيطان برأسي فأفكر في الانتحار وسرعان ما أفيق واستغفر الله من هذا الشطط واليأس حتى بعد أن مرّت عدة أشهر على هذه الواقعة لم أشف منها وتركت في نفسي جرحاً عميقاً لم يندمل وقررت ألا أتزوج حتى لا أكرر تجربة أبي وأمي. خرجت إلى العمل في شركة كبرى خاصة، وانغمست فيها وأخرجت طاقاتي المكبوتة والأمور تسير بشكل جيد وإن لم تنسني الماضي المؤلم الذي ما زال يعيش معي وداخلي ومرت ثلاث سنوات لم يتقدم لي أحد خلالها ولم يلمح شخص بخلاف ما كنت عليه طوال عمري وشعرت بالقلق أكثر وزادت همومي ووجدت أنني متناقضة مع نفسي، فكيف أكون غير راغبة في الزواج وأفكر في عدم الخطبة واكتشفت أني أُغالط فما حدث كان مؤلماً فعلاً وما زلت أُعاني منه، لكنه لا يجوز أن يكون سبباً فيما وصل إليه تفكيري وأمي تعاني أكثر مني ولا تعرف كيف تتصرف حتى أنها عرضت عليّ أن أخلع الحجاب مؤقتاً لكي يظهر جمالي وأحظى بعريس مناسب سريعاً، فالشباب في النهاية يغريهم الجمال ويبحثون عنه وان كان كلامها فيه بعض المنطق، لكنه ليس صحيحاً كله فهُناك أيضاً من الشباب أو معظمهم من يبحث عن الفتاة الملتزمة عند الزواج وكنت في حيرة من أمري وأبي غائب تماماً عن هذا كله ومشغول بأبنائه وزوجته ولا يهتم بحياتي إلا هذا المبلغ الذي اعتاد إرساله إلينا. في النهاية ضعفت أمام اقتراح أمي وخلعت الحجاب، لكن لم أتخل عن الملابس المحتشمة، فلم تكن تلك الخطوة عن قناعة وإنما ربما هي نوع من التغيير أو التمرد أو رفض الواقع ولا علاقة لها بالجانب الديني الذي لا شك أنه الصحيح، لكن توابع هذا القرار جاءت صادمة أيضاً، فقد تغيرت نظرة من حولي وكثر الهمز واللمز بالرغم من أن كثيرات من زميلاتي غير محجبات، بل وترتدين الملابس الساخنة التي تفتقد الاحترام، لكن نالني ما لم ينالهن من الشجب والاستنكار بالإضافة إلى القصص التي اختلقها زملائي والجيران أيضاً وكل واحد منهم ترك لخياله العنان ويتوقع ما يريد ولم يكن الكلام بعيداً عن أذني ولا عيني. لكن رئيسي في العمل كان له رأي آخر وهو الذي كان يتعامل معي مثل ابنته راح يثني على جمالي الذي وصفه بأنه كنز كنت أخفيه ولا يجوز لي أن أفعل ذلك وخطوة بعد الأخرى أبدى إعجابه بي وفي البداية كنت أتعامل مع كلامه على أنه نوع من المجاملة، فهو يكبرني بأكثر من عشرين عاماً إلا أنه صرح بإعجابه بي وتدرج في الحوار إلى أن أعلن أنه يريد أن يتزوجني وأنه نادم على عمره الذي مضى قبل أن يتعرف عليَّ، وكانت البداية ترضي نفسي وعوضتني عمّا افتقدت كثيراً والأهم أنها تعوضني عن الحنان الأبوي المفقود فعمره يقترب من عمر أبي. الرجل متزوج وله أولاد فتساءلت كيف أكون سبباً في طلاق امرأة أخرى وخراب بيت ويكون مصير الأطفال فيه مثل مصيري وعندما ناقشت الأمر مع أمي وجدت أنها لا تمانع في الزواج من رجل مثله وحاولت أن تبرر لي عدم مسؤوليتي عن التوابع، لكنني لم أقتنع بوجهة نظرها وبعدما درست الموضوع وقلبته من كل جوانبه قررت أن أقطع صلتي به تماماً وأن أنهي الأمر بكل وضوح إلا أن ما خفي كان أعظم، فقبل أن أخبره بقراري وجدته يقدم عروضه بأنه يريد أن نتزوج عرفياً واشترط مع ذلك أن يكون زواجنا سرياً ولا يعلم أحد به مهما كان لأنه يخشى لو علمت زوجته أن تتسبب في النكد عليهما وهو يريد أن يعيش معي في سعادة كاملة لا يكدر صفوها أي شيء وألقيت على رأسه بقراري بعدم قبوله من الأصل لا سراً ولا علناً. وكان من توابع قراري هذا أنه تفنن في مضايقتي بكل أنواع الضغوط ووضع أمامي العراقيل ويرفض كل ما أفعله ويحملني ما لا أطيق أو ما أعجز عن القيام به ليجد مبرراً لتوجيه الإهانات واللوم إليَّ وأعلم أنها كلها محاولات لإثنائي عن موقفي أو ما يصل إلى حد الانتقام لأنه شعر بأنني أهنته برفضي له ووصل الأمر في النهاية إلى أنني لم أستطع الاستمرار وتحمل المزيد فقررت أن أترك العمل نهائياً وبلا عودة لأتخلص من هذا كله وعدت إلى البيت لا أعرف ماذا أفعل. والآن أنتظر التوابع المجهولة القادمة ترى ماذا تكون هذه المرة؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©