الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إبراهيم الجرادي: شعراء الطنين والأرصفة يفرضون ذائقتهم

إبراهيم الجرادي: شعراء الطنين والأرصفة يفرضون ذائقتهم
19 مايو 2010 19:56
يرفض الشاعر السوري إبراهيم الجرادي أن يكون باب الحداثة مفتوحاً فقط أمام قصيدة النثر، رغم أنه من أوائل الذين كتبوا هذه القصيدة في سوريا خلال السبعينيات، ويرى أن التنصل من التراث وإلغاءه والتحرر من الوزن والقافية لا يعني قصيدة جيدة. ويهاجم الجرادي شعراء الطنين والأرصفة كما يسميهم، ويقول إن النساء الجميلات شقراوات وسمراوات، ولا تستطيع أن تفرض ذائقتك الخاصة على من لا يحتملها، ويعتبر المماحكات في هذا المجال تزجية للوقت، لمن لا يغوصون عميقاً في الأبعاد الأساسية للاختيارات الجمالية، فالشعر حالة جمالية يقبل أشكالاً وأذواقاً متنوعة، ولاسيما أن الذوق مكتسب وموروث، ويلعب دوراً أساسياً في تحديد الاتجاهات الحياتية والشعرية. ويرى أنه ما من قوة نقدية نافذة تستطيع أن تحسم أمراً، وللشاعر الحرية في أن يختار حياته وموته أيضاً. الشاعر الدكتور إبراهيم الجرادي هو أستاذ الأدب العربي الحديث في جامعة صنعاء، وقد أصدر على مدى ثلاثة عقود تسعَ مجموعات شعرية حافظ فيها على مزاجٍ خاص، جعله يتفردُ بجملة نثرية ذات هوية إيقاعية. صدرت مجموعته الأخيرة في أواخر العام الماضي بعنوان “محمود درويش ينهض” تكريماً لذكرى الشاعر الكبير. -- حين بدأت تجربتك الشعرية في أوائل السبعينيات كانت قصيدة النثر تكتسب المزيد من الشعراء، إلا أنك حافظت على مزاج إيقاعي خاص، مزجت فيه بين التفعيلة والنثر، ولم تغرد مع السرب، لماذا؟ وهل تعد نفسك اليوم شاعرَ تفعيلة متورط بالنثر، أم شاعرَ نثر متورط بالإيقاع؟. - لا أعد نفسي متورطاً في أي من الجهتين، إنما أكتب الشعر في إطار موروثي العربي الأصيل، فأنا من أوائل الذين رسخوا قصيدة النثر، ولكني لم أعتبرها يوماً خروجاً عن المتوارث وخصوصاً الإيقاعي، فإلغاء منجزات الشعر العربي لا يكفي لكتابة قصيدة جيدة. لقد كتبت قصيدة التفعيلة كما كتبت قصيدة النثر، وحافظت في الفترة الأخيرة وفي أكثر من كتاب على إيقاعية خاصة مستفيداً من تجارب شعرية عالمية كثيرة، فاستخدمت الترداد والإيقاع وحتى فنية الشكل الطباعي لأن له دوراً مهماً في خلق حالة نفسية ووجدانية خاصة في لحظة التلقي. لكني أعتقد أن الشكل على أهميته لا يعطي قيمة لأي نص، وبعض الشباب المتحمسين جداً لقصيدة النثر يظنون أن تخليهم عن الوزن والقافية يفتح أمامهم باب الحداثة، لكنه ضيق على الكثيرين منهم. مماحكات! -- أنت تمسك العصا من منتصفها وتقف في موقع وسط بين شعراء النثر والإيقاع، لكن البعض يعتبر أن الشعراءَ الذين يخلطون بين النثر والإيقاع، هم شعراء تفعيلة فاشلون، فهل خشيت يوماً من أن يضعك أحد ما في هذا التصنيف؟. - لا أخشى ذلك ولا غيري يخشاه، فما من قوة نقدية نافذة الآن، تستطيع أن تحسم أمراً، والمزج بين النثر والإيقاع ليس تهمة على كل حال، فللشاعر الحرية في أن يختار طريقة حياته وموته أيضاً. -- إذا كنت لا تخشى من هذه التهمة، فإن شعراء النثر لديهم تهمة جاهزة لك، ولأي شاعر يلجأ إلى الإيقاع بأنه ينتمي إلى زمن سابق، فعلى ماذا تراهن وأنت تقدم قصيدتك في مثل هذا المشهد الشعري؟. - إذا كانت قصيدة النثر هي السائدة الآن، فهذا لا يعني أن الأشكال الجمالية الأخرى عليها أن تنحسر. فأنا لا أؤمن بالقطيعة في الأدب، والشعر العربي الحديث استمرار لامرئ القيس وطرفة بن العبد والنفري والحلاج. -- إذا كان الأمر كذلك، فلماذا أصبحت كتابة قصيدة التفعيلة تهمة؟. - هذا الكلام يطلقه شعراء الطنين والأرصفة. ولا أعتقد أن أحداً يستطيع أن يفرض ذائقته الخاصة على من لا يحتملها، فالجميل جميل، بغض النظر عن الشكل، والنساء الجميلات شقراوات وسمراوات. إنما هذا نوع من المماحكات لتزجية الوقت لمن لا يغوصون عميقاً في الأبعاد الأساسية للاختيارات الجمالية. والشعر حالة جمالية يقبل أشكالاً متنوعة وأذواقاً متنوعة، والذوق مكتسب وموروث، ويلعب دوراً أساسياً في تحديد الاتجاهات الحياتية والشعرية. دمج -- أنت شاعر كثير التجريب، فبالإضافة إلى جمعك بين الوزن والنثر، فإنك تحاول في كل مجموعة شيئاً جديداً، فتقول عن مجموعتك الثانية مثلاً بأنها نصوص تشكيلية، وعن مجموعتك الثالثة بأنها ريبورتاجات شعرية، ومجموعتك الأولى تتضمن صوراً فوتوغرافية ولوحات تشكيلية ورسوم كاريكاتور وفوتوكوبي عن رسائل شخصية، ما الذي يحدو بك إلى هذا الخروج عن المألوف؟. - أنا لست من ابتكر هذه الطريقة، فقد كان هناك محاولات سابقة. لكنني شخصياً كنت أرغب في إلغاء الفوارق بين أشكال التعبير باستخدام أكثر الممكنات المؤثرة لإيجاد نص مخلوط لعله يصل إلى الناس. ولاسيما أن هناك عزوفاً عن الشعر كنمط سائد ومألوف لأسباب كثيرة، منها انتشار الوسائل السمعية البصرية، وتغير ذائقة الناس. وقد بدأتُ هذه التجربة في الثمانينيات، انطلاقاً من فكرة أن الأدب الحديث هو أدب الجماليات التي لا تكتفي بالنص المكتوب فقط، فإخراج الكتاب وتزيينه وما يسمى بالعتبات النصية والعوامل المساعدة الأخرى مهمة لتقريب النص من القارئ. وأعتقد أن ابتكار أشكال جديدة هو استجابة لطبيعة الحياة، فإذا كان رولان بارت يقول: (ما أقل الأشكال في شعرنا)، والشعر الفرنسي هو من أكثر الشعريات حرية، فالأولى بنا نحن أن نقول ذلك. ريبورتاجات -- استخدمت تعبير ريبورتاجات شعرية في مجموعتين شعريتين، الأولى “موكب من رذاذ المودة والشبهات” مشتركة مع إبراهيم الخليل، والثانية “عويل الحواس” وأطلقت عليها صفة ريبورتاجات سمعية بصرية، فهل هذا تأثر بعملك السابق في الصحافة، أم أنه اتجاه نحو النص المفتوح في منطقة الشعر؟. - كلاهما معاً، فقد لاحظت أننا في العمل الصحفي نكتب عادة الريبورتاجات بلغة جافة، ونتحدث مثلاً عن بناء جميل جداً كالجامع الأموي أو عن آثار رائعة بلغة خشبية ومحايدة، فتساءلت لماذا لا نكتب عن الجميل بأسلوب جميل، وهذا ما جعلني أنقل الريبورتاج إلى جهة الشعر، بإضافة ما هو وجداني، وإضفاء الجمالية من خلال الشعرية واللغة المترفة، الشعرية التي هي ليست شعراً، أي ليست نظماً، وهي موجودة في الرواية وفي اللوحة التشكيلية، بمعنى خلق نص عن الأماكن والمواقع والوقائع الجديدة والجميلة بأسلوب يوازيها. -- أصدرت مجموعتك الجديدة “محمود درويش ينهض” تكريماً لذكرى الشاعر الكبير، فما الذي يمثله محمود درويش لك كشاعر؟. - محمود درويش يمثل الكثير، ليس لي فقط، وإنما للثقافة العربية والإنسانية. ورحيله كان خسارة كبرى، وهو الكشاف من الطراز الأول، صاحب المجازات الشعرية الرائعة الذي شذب الشعر من الزائد والفائض. وهناك إجماع على أنه كان في مقدمة الشعر العالمي. محمود دوريش وكل شاعر جيد يفتح لي آفاقاً ونوافذ، ويبني لي حدائق أستظل بها وأستفيد منها، ويعطيني مدلولات جديدة للغة، يجعلني أقول بصراحة وصدق إنني أتكئ عليه. محمود درويش أعاد للشعر اعتباره، وجذب عدداً هائلاً من الناس إلى الشعر بقوة موهبته الفذة. -- في هذه المجموعة استلهمت روح محمود درويش، حتى تماهت لغتك مع لغته، فلماذا اخترت هذا التماهي؟. - محمود درويش شخصية استثنائية ومفردة، وأعترف بأن هناك استجابة للباعث الواحد، عندما تتحدث عن شخص تفرض صفاته عليك شروطها، والحديث عن محمود يتطلب سوية معينة، ولكن لا أحد يتماهى برأيي مع محمود لأن أسوأ ما في الشعر هو التناسخ والتشابه والتجاور. محمود درويش يتجه إلى منطقة بعيدة جداً، عليك أن تلحق به، ستركض كثيراً وتتعب، وأنا كرجل أعتدّ بهذه القامة العربية، وأتمنى أن أستفيد من مجازاته واستعاراته التي وسعت الشعر كي يكون على مستوى التراجيديا، ولا أظن أن هناك شاعراً أو أديباً إلا القلة، رفعوا القضية العربية الفلسطينية إلى مستوى المأساة أكثر من غسان كنفاني نثراً ومحمود درويش شعراً، وقدماها بوجه إنساني مقبول من كل شعوب العالم. العار! -- قصائدك مشحونة بالهم القومي، وتبدو أحياناً متخندقاً وكأنك في ساحة معركة، فلماذا لم تنزل إلى اليومي والبسيط في حياتك الشخصية واليومية، كما يفعل بعض الشعراء؟! - أنا نزلت وتحدثت عما نحب بالأسماء، ولكن من يستطيع أن يتجاهل ما يجري على الساحة العربية؟. إن الظروف التي نعيشها تستدعي من أي إنسان لديه حساسية أن يتخندق، وأن يستثمر هذه الطاقة الجمالية الهائلة، ليزيد من وطأة العار، بجعله علنياً ومفضوحاً. أنا عربي وهذه الصفة ليست عابرة وطارئة، بل هي تؤسس حقيقة وجودي الإنساني، فهل أستطيع أن أتجاهل ما يجري في فلسطين، وهل أستطيع أن أتجاهل باسم الذاتي واليومي والطارئ والشخصي ما يجري في العراق وفي أماكن أخرى!. -- ولكنك معروف بنزعتك اليسارية؟. - نعم، وأعترف أنا صاحب النزعة اليسارية الواضحة ذات البعد الإنساني، بأن لدي هماً قومياً، فالحرية أهم من الكتابة عنها، مثلما المرأة أهم من الكتابة عنها. ولذلك أقول إن أي شعر أو أي فن لا يخدم قضية الإنسان العربي ـ حتى لا أقول أيديولوجيا بالمعنى الشائع ـ هو معنى جمالي طفو مثل الرغوة تتلاشى بعد حين. -- لكن بعض الشعراء والنقاد ينظرون إلى الشاعر الذي يتناول الهم العام وكأنه يخون نفسه، فلماذا تصر أنت على أن تجعل من القضايا الكبيرة همك الشخصي؟. - شروط الحياة الإنسانية الكريمة تفرض عليّ ذلك. صحيح أن اللغة الأيديولوجية العالية التي سادت في فترة الستينيات أدت إلى اضمحلال شخصية الشاعر، فأصبح الشعر ظلاً لصوت الجماعة، ولكننا منذ ذلك الوقت وحتى اليوم نتحدث عن الذاتي والهم الصغير تحت ستار القصيدة الشفوية، وهو أمر مهم بالطبع، ولكن الأهم هو الحديث عن هموم هذا الكيان البشري الهائل الذي ننتمي إليه، لأن هذا ما يجعل الأدب خالداً. وبرأيي أنه إذا تعارضت الذات مع المجموع، فإن الكتابة عنها غير مفيد. ولو كان المجتمع العربي قد حقق شروط وجوده الإنساني وحريته، فللشاعر الحرية في أن يكتب ما يشاء ويتجاهل ما يجري على مستوى الجماعة. يقول بيلينسكي: (شاعراً يمكن أن تكون، أما مواطناً، فأنت ملزم). وأنا مواطن أولاً وشاعر ثانياً، وأتمنى أن تتحد الصفتان لتكون حالة شعرية إنسانية مقبولة بالحد الأدنى. تشاؤم -- لماذا تبدو في كثير من قصائدك حزيناً ومتشائماً ويائساً، ولاسيما في مجموعتك “دع الموتى يدفنون موتاهم”؟. - سؤالك له أكثر من شق. حزين، لأن كل ما حولي يشير إلى ذلك، خارج الصعيد الشخصي، وأظن أن هناك مشروعية ومصداقية لما أنا فيه. أما التشاؤم واليأس، وهذا سؤال مهم جداً، فأقر بأنني متشائم ويائس نتيجة ما أراه وأسمعه وأتلسمه، لكنني لست مستسلماً لهاتين الصفتين. فما أعيشه كفرد عربي يستدعي أن أوقف هذا التفاؤل الذي يتحول عند كثيرين إلى لغو، أو إلى دماثة كاذبة، ولكن ذلك لا يعني أن أرفع يدي استسلاماً على الإطلاق، فأنا أكافح كأي عربي ضد الاستسلام لهذا القنوط، ولهذا التردي، وأظن أن التراجيديا، حتى بالمفهوم المنهجي الأكاديمي، تدفع بالفن نحو رقي أعلى وتعبيرات كبرى، منذ التراجيديا اليونانية إلى أيامنا هذه. -- في قصائدك حنين دائم إلى الماضي، فأي ماض هذا الذي تحن إليه، وهل كان الماضي جميلاً حقاً، أم أنه كذلك فقط لأنه لا يحمل احتمالات وقلق المستقبل؟. - أنتَ وصّفت، لأنه لا يحمل قلق المستقبل، ثم إن ماضيّ الشخصي إيجابي، وأعرفه جيداً وأستطيع أن أتخذ منه موقفاً، أما الحاضر فهو مدعاة للقلق والاضطراب على الصعيدين الشخصي والعام، فالمستقبل لم يفتح لي نافذة أو باباً كإنسان عربي. نحن نضيف إلى الماضي من عندياتنا حتى يبدو جميلاً كما تقول الفلسفة، وكلما ابتعد كلما أضفنا إليه ما يجعله أكثر دفئاً وجمالاً، وهو بطبيعته مرتبط بأجمل ما يمر به الإنسان بيولوجياً وفيزيولوجياً. ثم إن مستقبلنا في هذه المنطقة من الكون يحتاج إلى وضوح من خلال العمل، وهو لم يتبدَ بعد. إن الحنين مهمة أساسية في حياة الإنسان، ويجب أن يحن الإنسان، والحاضر لا يعطيك إمكانية لذلك، ليس لأنه سيء، وإنما لأنه قريب. الحنين كما تعرفه الفلسفة هو استحضار أشياء غابت عن متناول الحس أو الذهن، تضفي عليها المخيلة ما يجعل منها مادة للألم أو ما يرفع الإنسان إلى سوية عالية في سلوكه اليومي والحياتي. الماضي فاعل أساسي ليس في المستقبل فحسب، بل هو مؤشر أساسي إلى ما سيأتي من أيام. -- أنت ابن تل أبيض بمحافظة الرقة السورية، وهي بيئة قصية عن مركز القرار الأدبي والثقافي، فما الذي جاء بك إلى الشعر؟. - نشأت في منطقة لا تقرأ حقيقة، ويسيطر فيها الموروث الشفوي والغناء الشعبي، لكنني تأثرت بأخي الذي كان يجمع في دفاتره مختارات من الشعر العربي القديم، فصرت أجمع في دفاتر صغيرة مختارات من هذا الشعر، ثم قادتني مأساة عائلية للانتقال من الرقة إلى قرية (المشلب) التي عرف أهلها بالثقافة، وبمشاركتهم الواسعة في الحياة الاجتماعية والسياسية. وهناك كنت محاطاً ببعض المثقفين اليساريين الذين بدأوا يعيرونني الكتب. وهناك بدأت قراءاتي الغزيرة، لميلاد حنا وميلاد الشايب وسعيد حورانية ونزار قباني، وكنت ما أزال في المرحلة الإعدادية. وتعرفت فيما بعد إلى مجموعة من الشباب، وبدأنا نتبادل الكتب، وأصبحت القراءة عندي حالة يومية، ثم اختار كل منا طريقه، فهناك من ذهب إلى القصة وهناك من ذهب إلى النقد والرواية، وهناك من ذهب إلى الشعر، وأنا منهم. -- هل تعني أن بيئة الرقة في ذلك الوقت بأعرافها وتقاليدها وعاداتها الراسخة كانت تساعد على بروز شعراء وأدباء؟. - على الإطلاق، حتى أن الصحف كانت نادرة وإذا وصلت تصل متأخرة، ولكن عبد السلام العجيلي لعب دوراً كبيراً بلفت نظر الشباب إلى الأدب، وهو الشخصية المهمة على الصعيد الأدبي والسياسي والاجتماعي والطبي، فكان مثالاً يحتذى، فتح الباب أمام جيل بكامله، وقبله لم يكن أحد يهتم بالأدب، فهو أول كاتب قصة في تاريخ المدينة على الإطلاق، في حين كان الشعر الشفوي الموروث منذ آلاف السنين منتشراً، بسوية فنية عالية، لكنه لا يجد صدى في أماكن أخرى، بسبب صعوبة فهم اللهجة. إذاً البيئة لم تكن تساعد تماماً، وجيلي هو من وسع دائرة الاهتمام بالشعر في أواخر الستينيات والسبعينيات. ثورة -- في عام ألف وتسعمئة وثمانية وستين، أسست مع مجموعة من الشعراء والأدباء منهم إبراهيم الخليل وخليل جاسم الحميدي ووفيق خنسة ونبيل سليمان وعبد الله أبو هيف ما أطلقتم عليه (جماعة ثورة الحرف)، كيف تأسست هذه الجماعة ولماذا؟. - شكلت هزيمة حزيران عام 1967 صدمة كبيرة، وخلخلت القيم الأدبية والسياسية والاجتماعية، فتشكل بعدها جو عام يدفع للخروج من النمط المألوف في العلاقات السياسية والاجتماعية والأدبية. وفي هذا الوقت جاء إلى الرقة مجموعة الشباب الذين ذكرتهم وآخرون، بحثوا في سبل تغيير نمط الكتابة وتفعيل دورها كشكل من أشكال الرد على الواقع القائم، فأسسوا تجمعاً منظماً يقوم على هدفين، الأول الكتابة بروحية جديدة خارجة عن النمط السائد، والثاني نقل الأدب إلى الأرياف، وربط الوعي السياسي بالوعي الاجتماعي. -- ما الذي استطعتم تحقيقه، وعن ماذا أثمرت جهودكم؟. - نجحنا أولاً في زيادة الاهتمام باللغة، وأسسنا لذائقة جديدة كلياً، فكان هناك شجاعة بالخروج عن المألوف، معتمدين على مصادر قرائية لكتاب متطورين جداً، كمحمد الماغوط وزكريا تامر وعبدالله القصيمي وغيرهم، وقررنا اجتماعات دورية نقرأ فيها ما يصلنا من مجلات وكتب، ونقرأ نتاج بعضنا. أما المسألة الثانية فهي أننا كنا نتفاعل مع بعضنا، ونكتب أدباً مشتركاً، ونعكس روحاً جماعية، وننشر في الآداب وعدد من المطبوعات الشهيرة آنذاك، ومازالت هذه الأسماء تلعب دوراً مهماً في الحياة الثقافية اليوم، سواء في الرواية أو القصة أو النقد. -- كانت هذه المجموعة ذات نزعة اشتراكية، ولكن الغريب أنكم لم تلتزموا بالواقعية الاشتراكية، لماذا؟. - النمط اليساري بدأ في ذلك الوقت يفضي إلى حالة سياسية واجتماعية سيئة، ولهذا فإننا حاولنا الخروج عن مقولات البطل الإيجابي والسلبي وما إلى ذلك، لأن الاشتراكية أصبحت منمذجة لا تسعى لما هو جديد، وإن كنا نتبنى مفاهيمها الأساسية، وفي ذلك الوقت انتشرت الوجودية على يدي كولن ولسون، كما تأثرنا بكتاب روجيه غارودي (واقعية بلا ضفاف). وقلنا إننا نبدأ من حيث انتهى زكريا تامر، وهو كاتب حداثي من الطراز الأول، كما أخذنا من الأدب السوفييتي ما هو غير رسمي، كمؤلفات يفغيني يفتوشينكو، وكذلك من الأدب اليساري العربي غير الرسمي. وقد لعبت المقاومة الفلسطينية دوراً بالغ الأهمية في هذا التوجه، لأنها رفدت الواقع السياسي العربي بما يتعارض مع القائم، سياسياً واجتماعياً وفكرياً وعسكرياً. مما أدى إلى تلاحم بين الشباب العربي، فجاءوا إلى المقاومة من تونس والأردن والعراق وسوريا وبلدان عربية عديدة، وأنا أيضاً انخرطت في المقاومة لفترة غير قصيرة، كنا شباباً نطمح للتغير. لست متهماً في الحالتين -- هل يفسر ذلك تأثرك الشديد بمحمود درويش، وعدد من الشعراء الفلسطينيين، إلى حد تبدو وكأنك تنتمي معهم إلى منبت شعري واحد؟. - أولاً.. هذا بالنسبة لي ليس تهمة على الإطلاق، فأنا من موقع ثقافي أتمنى أن أنتمي إلى هذه السلالة الخيرة الضاربة جذورها في الأرض، ولكن من يتأثر بمحمود درويش يسطو عليه، لأنه يفتح أفقاً مختلفاً، ولديه معجمه الشعري الفريد، الذي أعطى للألفاظ فيه مداليل خاصة به. ومن يسير على طريق درويش، إما أن يندغم به أو يخرب ما أقدم عليه محمود، فهو حالة خاصة، لكنه فتح أفقاً لي ولشعراء عرب وفلسطينيين كثيرين ممتدين من المحيط إلى الخليج. وأنا شخصياً تربطني بالشعراء الفلسطينيين علاقة قوية حقيقة، فأنا عشت معهم مقاوماً مسلحاً وأمضيت سنوات من عمري في المخيم، وعملت في الدوائر الثقافية الفلسطينية، وشعار فلسطين لم يكن يوماً بالنسبة لي صفة تابعة، وإنما جزء من كياني البشري. محمود درويش حقق فتحاً في الشعر العالمي، وإذا كنت صادقاً وأصيلاً سأستفيد من هذا المنجز. أما أنني متأثر فلا أظن. وهو كان ينظر إليّ على أنني أذهب في اتجاه آخر، ويشير من طرفي خفي بأنني أتعمد ذلك، وهذه أيضاً ليست تهمة على الإطلاق.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©