السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تداعيات أفغانية وسط أسرة أمريكية

تداعيات أفغانية وسط أسرة أمريكية
19 مايو 2010 20:00
تبدو المنطقة الأثيرة التي يبحث وينقب فيها المخرج الأيرلندي جيم شيريدان والتي تمثلها (العائلة) كقوام ومطلب وغاية، هي المنطقة التي تلونها التقاطعات الذاتية للمخرج نفسه وكذلك الهوى القصصي أو الروائي الذي يحوّل (العائلة) إلى مثال وقيمة ورباط مقدس لا يخلو هو الآخر من المآسي التي تخلقها الصدف والمرارات الوافدة من ذاكرة مقصية ومتوارية في اللاوعي. بدأت مسيرة شيريدان مع هذا المنحى العائلي الموصول بغريزة سينمائية متفردة من خلال فيلمه “رجلي اليسرى” في العام 1989 والذي يروي قصة فنان معاق يعتمد على رجله اليسرى فقط لإنتاج أعماله الفنية، وتولى أداء هذا الدور الصعب والمنهك الممثل دانييل داي لويس وبقدرة لافتة أهلته لنيل جوائز في أكثر من مناسبة ومهرجان ومنها جائزة أفضل ممثل في احتفالية الأوسكار عن ذلك العام. قدم شيريدان بعد ذلك فيلم “الحقل” في العام 1990 مع شون بن وريتشارد هاريس الذي رشح لجائزة الأوسكار، ولكن الفيلم عموما جاء ببريق أقل من فيلم “رجلي اليسرى”، ولكن مع فيلم “باسم الأب” الذي قدمه في العام 1993 أثبت شيريدان أنه مخرج ذي طراز خاص وصاحب قدرة استثنائية في التقاط أكثر العواطف الإنسانية تطرفاً وهشاشة في ذات الوقت والتي تينع وتنمو وتتحطم في محيط الأسرة ووسط الهيجان الأعمى للظروف والأقدار الخارجية، استعان شيريدان مرة أخرى في هذا الفيلم بالممثل دانييل داي لويس ووصفه بأنه “ممثل عبقري، وأشبه بكنز مغلق يخبئ الكثير من المواصفات الأدائية التي لم يكشفها بعد”. وفي ثالث تعاون له مع داي لويس قدم شيريدان فيلمه الجريء “الملاكم” في العام 1997 عن قصة سجين إيرلندي يخرج بعد 14 عاما من الأسر كي يرمم حياته المحطمة من خلال لعبة الملاكمة التي يتفوق فيها على خصومه كما على أوجاعه وآلامه القديمة. وعودة إلى بحثه الشخصي حول القيم العائلية وسط عالم مليء بالقسوة والتقلبات قدم شيريدان فيلم “في أمريكا” العام 2002 والذي جاء أشبه بالسيرة الذاتية التي لامست تجربته الشخصية أثناء هجرته إلى أميركا، ويتمحور الفيلم حول قصة عائلة أيرلندية تنتقل إلى الولايات المتحدة بطريقة غير شرعية، حيث يجاهد الأب لإعالة أسرته من خلال العمل كممثل فيصادف الكثير من النجاحات النكسات وسط عالم مبهر وموحش في ذات الوقت. حقول الموت في فيلمه الأخير “أشقاء” Brothers الذي نتناوله في هذا المقال يبتعد شيريدان عن هواجسه الشخصية وثيماته الأيرلندية الحميمة، ولكنه يظل مخلصا لفضاء العائلة كمحتوى روائي يكتسب كل المباهج والمسرات وكل الشرور والآثام أيضا. يحكي الفيلم قصة عائلة أميركية مستقرة، تخرج فجأة من سياقها المألوف والمعتاد عندما يستعد الأب (سام) ـ يقوم بدوره توبي مغواير ـ للمشاركة في مهمة عسكرية داخل الأراضي الأفغانية، يسيطر هاجس الرحيل المخيف والمربك على الزوجة (جريس) ـ نتالي بورتمان ـ وعلى ابنتيها الصغيرتين إيزابيل وماجي، وقبل ذهابه إلى هذه المهمة شبه الانتحارية يصطحب سام شقيقه تومي ـ جاك جلينهال ـ الخارج لتوه من السجن بتهمة السطو المسلح كي يعيده مرة أخرى إلى حياة جديدة وخالية من العنف والفوضى، وفي جلسة عائلية تضم والد الشقيقين هانك ـ سام شيبرد ـ وزوجته تتكشف تدريجيا الشروخ الداخلية لهذه العائلة التي تبدو متماسكة وملتحمة من الخارج ولكنها وفي كواليس الماضي تخفي الكثير من التاريخ النفسي المربك والقائم على العنف والتفرقة العاطفية بين الأخوين، وتتوضح خلال هذه الجلسة أيضا تلك العلاقة المتوترة بين الطفلة إيزابيل وبين والدها الذي تحول بالنسبة لها إلى شخص غريب وغامض ومنذور للغياب في أية لحظة وسط حقول الموت المهيأة في أفغانستان، وفي فخاخ ومصائد مجاهدي طالبان التي عبرت الفتاة الأميركية الصغيرة عن كراهيتها لهم بسبب توريطهم لوالدها في هذه الحرب المجنونة والعبثية. تتحقق أسوأ مخاوف الطفلة والعائلة ككل عندما تصاب الطائرة العمودية التي يستقلها الأب بأحدى صواريخ “الآر. بي. جي” وسط الجبال الأفغانية، فيتم الإعلان الرسمي عن وفاة الأب أو (الكابتن سام كاهيل)، يتحول هذا الغياب أو الفقدان الأبدي إلى لعنة مقيمة وسط هذه العائلة المهتزة أصلا والتي باتت تقاوم الآن من أجل الظفر بلحظات من البهجة المقحمة والنسيان المؤقت، يحاول تومي تعويض الغياب المرّ لشقيقه فيتقرب كثيرا من العائلة ويتحول تدريجيا إلى بديل نفسي وعاطفي لهذه العائلة المحطمة. تنتقل كاميرا المخرج إلى الأراضي الأفغانية حيث يجد سام نفسه أسيرا لدى ثوار طالبان ومعه أحد الجنود الأميركان الذين كانوا برفقته في الطائرة، وبعد سنة كاملة من التنكيل الجسدي والتعذيب النفسي تقوم قوة أميركية خاصة بتحرير سام من الأسر وإعادته إلى أرض الوطن. هواجس داكنة وكمناورة مؤلمة على النهايات السعيدة في الأفلام الأميركية، تتحول هذه العودة لدى مخرج مثل جيم شيريدان إلى “حالة جحيمية” بكل معنى الكلمة، فالعودة المظفرة لمحارب إلى أسرته بعد فترة من المعاناة المهلكة قد تبدو في السياق العادي وكأنها عودة إلى الفردوس، ولكن في السياق النفسي والسيكولوجي لهذه الخبرة المرة والذاكرة المدمرة فإن عودة سام إلى عائلته لم تكن عودة إلى الحياة بل إلى الصورة المشوهة والسوداوية لهذه الحياة، خصوصا أن سام قام بقتل زميله تنفيذا لأوامر أحد قادة طالبان الذي وعده بتحريره وعودته إلى عائلته إذا قام بتنفيذ الجريمة أمامهم ـ يحاول سام التغلب على ذكرى هذه الحادثة المأساوية بالصمت والنسيان ولكن من دون أمل ـ وتتحول الشروخ النفسية الدامية في أعماقه إلى لعنة أخرى أشد وقعا من لعنة الغياب والموت، يترجم سام عذاباته وجروحه من خلال هواجس مريضة تتمثل في الغيرة القاتلة من أخيه والذي يتهمه بإقامة علاقة آثمة مع زوجته، وكذلك من خلال الصدامات القاسية مع الزوجة والطفلتين، ويتوج سام ردات فعلية القاسية بحالة من الهياج والتدمير ومحاولة قتل شقيقه ثم الانتحار كنوع من العقاب الذاتي تجاه الجريمة التي ارتكبها أثناء الأسر، رغم أنه لم يمتلك خيارات أخرى أثناء تنفيذه لتلك الجريمة. يتم اقتياد سام إلى السجن بعد الانهيار العصبي الذي ألمّ به والذي راكمته الشكوك والتفاسير المعتمة تجاه كل الذين أحبهم، وفي لقطة مؤثرة في نهاية الفيلم يفشي سام بالسرّ لزوجته، كي يشفى ويتطهر من الإرث الفاسد والطبيعة الشيطانية التي توقظها الحروب والميول الداكنة في الإنسان. استطاع المخرج رغم تفاصيل وتشعبات القصة أن يحول الشغل الأدائي للممثلين إلى كتلة مهيمنة وغالبة على كل لقطة ومشهد في الفيلم، فكان ثقل الأداء التمثيلي هو عصب وسر نجاح هذا الفيلم في إيصال فكرته العامة والمسددة باتجاه الانعطافة الدراماتيكية للحياة والتي يمكن لها في أية لحظة أن تحول فكرة الفضيلة والبراءة الإنسانية إلى جرح قاتل يلون العالم بالويلات ويطوح مصير الكثير من العائلات المستقرة نحو الجروف والهاويات الخطرة والمأساوية التي لا يمكن التنبؤ بنتائجها. ورغم أن المخرج جيم شيريدان هو صاحب المقولة الشهيرة بأن “قواعد الدراما لا تمثل بالضرورة قواعد الحياة” إلا أنه وفي فيلم “أشقاء” بالذات استطاع أن يلامس (الواقعية الجارحة) برؤية درامية شفافة ومخلصة لنواة وأثر هذا الجرح!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©