الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تراث الحرية

تراث الحرية
19 مايو 2010 20:03
التزمت منذ فترة طويلة أن أنتقي من التراث الشعري الذي يفتنني تلك الأشعار التي تتعلق بالحرية، على اعتبار أن الحرية قد أصبحت المقدس البشري الجديد الذي يحدد استراتيجية الحضارة الراهنة، ويقيس مدى تقدمها، فبقدر ما يتيح العلم للإنسان من حرية اكتشاف قوانين الطبيعة والتصرف فيها يوسع من دائرة حركته في الكون، وبقدر ما تتيح الديموقراطية للناس من حرية اختيار حكامهم وأنماط حياتهم تتحرر مجتمعاتهم، وبقدر ما تسعفهم الثقافة والفنون في إثراء معرفتهم وتزكية وجدناتهم يتحرر خيالهم وتتحقق إنسانيتهم. والبحث في هذا الماضي عن تراث الحرية يمكن أن يؤصل لهذه النزعات ويؤنس الداعين إليها ويضعف نسبيا حجة من يرون في الحرية خطرا على الأصول وتهديدا للهوية الراسخة. وهنا لابد أن نعالج أول إشكالية تواجهنا، وهي أن سقف الحرية يبدو للوهلة الأولى أعلى من أن تبلغه قاماتنا الصغيرة أو تطيقه حاسيتنا المعاصرة، ولا يقتصر ذلك على الأشعار والحكايات فحسب، بل يمتد إلى صفحات التراث الديني والعلمي والأدبي. فكثير من الأحاديث النبوية والأحكام الفقهية والتفصيلات المدققة في حالات الحل والحرمة مما لا يستحسن تداوله في غير سياقه، على الرغم من الرخصة التي أطلقها الفقهاء لأنفسهم قائلين “لا حياء في الدين” واستغلها العلماء وقاسوا عليها، وبقي الأدباء يعانون من مفارقة لاذعة لو رفعوا شعار “لا حياء في الأدب” لازدواجية مفهوم الأدب وتناقضه مع عدم الحياء. لكن المشكلة في تقديري تتصل بمعامل آخر لا يتعلق بالمادة المتداولة ذاتها، وإنما بالوسائط التي تحملها، والمدى البشري الذي تنتشر خلاله. فطيلة العصور القديمة حتى عهد المطبعة القريب، كانت المخطوطات هي التي تحمل هذه المواد، وكان شيوخ الدين في معظمهم هم الفقهاء والفلاسفة والعلماء والملحدون والشعراء والأدباء، فهم القائمون على الثقافة إنتاجا وتداولا واستهلاكا، لا يشاركهم في ذلك عامة الناس. وبالتالي فقد خضع كل واحد منهم لمزاجه الشخصي دون أن يرى للآخرين حق الوصاية عليه، بل من الطريف أن نتذكر أن كل المؤلفات والأعمال التي ترفع سقف الحرية قد تداولها هؤلاء الشيوخ العلماء وحافظوا عليها وأضافوا إليها من إنتاجهم المتميز، ومن ثم فقد اتسع منظورهم ليشمل تنويعات المعرفة والفنون وضاقت مساحة التعصب والجهل لدى كبارهم، بل نجد بعض أعلامهم خاصة المتأخرين زمنيا وقد بلغوا درجة مذهلة في التسامح والجمع بين الأضداد، فعلماء الكلام والفقه هم الذين يكتبون عن الباه ويبتذلون فى أشعارهم مثل الإمام السيوطي، لكن نشأة المطبعة وشيوع القراءة وتراجع الأمية وتعدد أنواع التعليم الديني والمدني وبنية الثقافة ذاتها، وضعف الوعي بشمول التراث لمستويات عديدة أدى إلى تحولات جذرية أتاحت لبعض الجهال بالتراث أن ينصبوا من أنفسهم أوصياء دون معرفة. لكن ظل هناك أمران لا بد من مراعاتهما عند تداول التراث الحي للحرية؛ أولهما أنه ليس من حق الأجيال اللاحقة أن تمارس وصاية على آبائها أو رقابة لاحقة عليهم، والثانية أن القراءة في النهاية فعل حرية، فمن يلمس في نفسه الكفاءة والوعي فليمارسه ومن يخش على نفسه من المعرفة أو الفتنة فلابد أن يخجل من ضعفه دون أن يتحجج به أو يتعرض بالقمع السفيه على غيره.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©