الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وهبص ·· حكايات الناس عندما يصبحون رموزاً

وهبص ·· حكايات الناس عندما يصبحون رموزاً
9 يوليو 2008 23:44
فضاء المسرح معضلة يواجهها المخرج الجاد في كل عمل ينوي إخراجه، مساحة مفتوحة أفقياً وعمودياً، كيف يتلاعب في ملئها، وسد فراغاتها، واحتواء أبعادها، لذا تعد دهشة أي عمل مسرحي بالإضافة الى القصة والحوار والصراع والمغزى متمثلة في صناعة الديكور والسينوغرافيا· كل تلك العوامل اجتمعت متضامنة في مسرحية ''وهبص'' التي استضافها نادي تراث الإمارات على مسرح أبوظبي في كاسر الأمواج والتي كانت من إنتاج مسرح كلباء الشعبي ومن تأليف وإخراج محمد العامري· لم يكتف العامري بالتلاعب بفضاء المسرح عمودياً وأفقياً، بل زاوج بين المسرح والسينما وكأنه بذلك يحاول أن يخرج الإطار العام من المسرحية كونها حدثاً درامياً يروي قصة ملفوظة تؤدى لإمتاع آني ينتهي بانتهاء المشهد الى لحظة التوثيق بالشريط السينمائي· فاعتمد على الصورة في إطار الفيلم الذي لم يمتد طويلاً بداية العرض على شاشة بيضاء وكأننا هنا قد دخلنا قاعة سينما أولاً مترجمة الى عمل حي مسرحي فيما بعد· وبذلك أوهمنا بحلم فنين يريد العامري أن يؤكد اقترابهما من بعضهما إلا أنه لم ينس لحظة أنه يقدم ''أبا الفنون ـ المسرح'' همه الأول والأخير· انفتحت الستارة عن شاشة بيضاء سرعان ما عرض عليها فيلم عربي بعنوان ''وهبص'' العنوان المجهول الذي لا نعرف كنهه ومعناه· وفي الفيلم عرض المانشيت بالأبيض والأسود ووجوه الممثلين مرعي الحليان وجمعة علي محمد وناجي جمعة علي وعادل سبيت راشد وصوغة البلوشي وبدر أحمد الرئيسي وعارف سويدان مبارك وسعيد مبارك وعيسى بن توبة ويوسف سعيد وعيسى بلال وعادل أحمد الرئيسي· الفيلم ولم يفت المخرج العامري بالإضافة الى عرض صور الممثلين أن يحرك الفيلم·· سيارة تقف وسط الشارع لتنشر ''كروت شخصية'' وينتهي العرض السينمائي في مدة طولها 4 دقائق، لترفع الستار البيضاء لنشهد نص المسرحية، هناك تتخفى المسرحية وراء الفيلم أو لنقل أن المسرحية تفصل الفيلم المختصر· وكأن الفيلم إشارات رمزية للحدث المسرحي الآتي· يدخل عامل نظافة ''عيسى بن توبة'' ليكنس أرضية المسرح التي بدت مليئة بالأوراق والأكياس رمزاً لوساخة السوق الذي سيدخله البائعون المتجولون ''قاع المدينة المسحوق طبقياً''·· هنا نشهد المسرح وقد سدت فراغاته وبدا فضاؤه مملوءاً أفقياً وعمودياً، إننا نبصر مسرحاً ممتلئاً بالديكور وهو بذلك قد حجب عمق المسرح بقطع سوداء يتخفى خلفها أناس يخرجون فجأة بملابس رثة، فهم باعة يعرضون بضائعهم في سوق شعبي ''إنه الطابق الأرضي'' الذي يعلوه طابق ثانٍ وطابق ثالث· وبذلك قسم المدينة الى قاعها في الطابق الأول ومتوسطي الدخل ''الطابق الثاني'' ثم السلطة وكبار الأغنياء والهيمنة ''الطابق الثالث'' هنا سد المخرج الفضاء العمودي وهو بذلك كتحصيل حاصل قد أغلق الفضاء الأفقي للمسرح· حيث نرى مدينة كاملة امتلأ بها المسرح· يدخل عامل البلدية بين الباعة· كل ذلك ولعشر دقائق يقدمها النص بلا حوار، إلا من حركات صامتة·· حينها تدخل امرأة (صوغة البلوشي) فيتوقف السوق صمتاً، لا حركة البتة، وعندما تمر بجمالها الأخاذ أمامهم يصيح أحدهم ''وهبص''· 10 ممثلين وفتاة واحدة وعامل نظافة· هنا تسقط في حضن أحدهم ''مرعي الحليان'' بائع الكتب محفظة الفتاة التي لا اسم لها سوى ''وهبص''·· وتختفي· الشخصيات الممثلون مرعي الحليان بدور بائع الكتب وجمعة علي محمد بدور ''المكوجي'' المصري الذي سيظهر فيما بعد، وناجي جمعة علي بدور ''ماسح الأحذية'' وعادل سبيت راشد بدور القاضي وصوغة البلوشي بدور الفتاة ذات العلاقات المتشعبة والتي أطلق البائعون عليها صفة ''وهبص'' وبدر أحمد الرئيسي بدور الضابط، وعارف سويدان مبارك بدور المحامي، وسعيد مبارك بدور الدكتور وعيسى بن توبة بدور عامل نظافة من البلدية قد أدوا أدوارهم وتقمصوا شخصيات النص بشكل بارع· المستوى الأول استلم الحكاية ''فتاة تسقط محفظتها''·· هنا يخبر مرعي الحليان ''بائع الكتب'' الشرطة في الطابق الثالث عن محفظة وجدها فيلاقى بالسخرية· ومخابرة منه أيضاً الى المستوى الثاني ''الطابق الثاني'' من المدينة الى المكوجي المصري والى امرأة عجوز في ذات الطابق، فيلاقى بالرد العنيف· ولكن كيف حصل بائع الكتب على أرقام هؤلاء ومنهم الدكتور والمحامي والتاجر ورجل في الدولة، إنها أرقام أخذت من الكروت في محفظة وهبص· يرجع بائع الكتب الى واقعه ولكن عبر هذه الاتصالات التليفونية يتعمق البائع بواقع المدينة فيكتشف زيفه· حينها تتعمق الصلة بينه وبين المكوجي المصري وماسح الأحذية· بالإضافة الى ذلك يكتشف علاقات تلك المرأة التي مرت بالسوق صدفة عبوراً بالطابق الأرضي (قاع المدينة) واتصالات بالطابق الثاني ''المهن الاجتماعية العامة المتوسطة'' وبالطابق الثالث ''سلطة المدينة''· هنا تتداخل المواقف بين المستويات عبر استخدام تقنية ''الهاتف'' الذي يربط بين تلك الطبقات الاجتماعية· حصيلة كل ذلك تتمثل باجتماع بائع الكتب والمكوجي المصري وماسح الأحذية في جلسة خمر ليشربوا معاً في محاولة لتغييب وعيهم عن العالم الممزق الذي اصطدموا به فجأة إلا أن الخمر تعيد لهم روح التناقض الاجتماعي والتفكير به ثانية وبعمق· ولأن هؤلاء أرادوا أن يفضحوا العلاقات الاجتماعية فإنهم ينشرون هذه الكروت معلقة على ''حبل غسيل''·· إنه موقف مصحوب بدهشة ملخصها أن المدينة جميعها في محفظة ''وهبص''· وعند جلسة الخمر تلك تدور حوارات حول الثقافة والحضارة التي يمثلها بائع الكتب ويدافع عنها وعن النظافة التي يمثلها المكوجي المصري ويدافع عنها وعن الانسحاق الذي يمثله ماسح الأحذية ويصفه· وينقلب الحوار الى دراما عالية إذ لم يبق من الصحراء إلا الرمل، ومن البحر إلا الماء· وكأن هذا الوصف أراد أن يؤكد ضياع الأصالة· الثلاثة ''الحليان وجمعة وناجي'' يروون حكايات طفولتهم وعذاباتها· الأحلام الضائعة والطموحات اللامحققة تحولت الى بؤر رئيسية في حكاياتهم وهم بذلك وبعد فترة اكتشفوا أن ''كروت وهبص'' يمكن من خلالها أن يتصلوا بالعالم المستحيل· في هذا النص تنفتح العوالم الثلاثة ''الأرضي والثاني والثالث'' على بعضها، لقد اتصل هؤلاء السكارى بأصحاب الكروت جميعاً ولكنهم لم يستطيعوا أن يتصلوا برأس الهرم ''صاحب الكرت الرئيسي''· كل ذلك يجري عندما تتداخل العوالم مجتمعة، مما جعلهم يتيهون بينها، بل بين أبوابها التي تحمل الخطأ والصواب، لذا يطلبون أخيراً من ''وهبص'' أن تخلصهم، بائع الكتب، وماسح الأحذية يوسف والمكوجي عباس· إنهم في ورطة حقيقية، وعندما تتدخل الشرطة يستجوب بائع الكتب فيسقط صريعاً في مقدمة المسرح ويعود البائعون في يوم ثان وجديد الى رصيفهم الأبدي، وكأن المسرحية انتهت من حيث ابتدأت، فلا خلاص من واقع متردٍ· الفضاء لقد اشتغل العامري على الفضاء الأيسر في البدء ثم تحول الى الفضاء أو الزاوية اليمنى بعد أن تركها برهة ثم انتقل الى وسط المسرح ببراعة، أما الشخوص في الأداء المسرحي ولكثرتهم فإن العامري لم يحاول أن يظهرهم جميعاً، لذا فإنه أخفاهم وراء الستائر، منهم الشرطي في مركز الشرطة والمرأة والفتاة ''خرجت مرتين تقريبا'' والمحامي والطبيب، كلهم مختفون ولم يظهروا إلا بأصواتهم عبر الهاتف، وكل هذا يعني أن هؤلاء قد تم توظيفهم كرموز للنص وكروتهم كرموز لهم أو لنقل لشخصياتهم الغائبة· فلنقل إن النص قد عرض مجموعتين هما أولاً الغائبون، وثانياً الحاضرون، الغائبون هم أصحاب الكروت والحاضرون هم من سقطت بيدهم الكروت، وبالضرورة لابد للحاضرين أن يبحثوا عن الغائبين وبين الاثنين تقف ''وهبص الفتاة اللعوب'' وهي بذلك ـ كما قلنا ـ لم تظهر إلا مرتين، الأولى بين الحاضرين والثانية مع الغائبين، في بدء المسرحية وفي خاتمتها· الحوار الطويل لا بد أن يبث الملل في النص إلا أن الحكايات التي رواها السكارى الثلاثة أنقذت الحوار وكأن المؤلف قد بث ''''4 قصص رديفة داخل النص الأصلي· وهي قصة المكوجي وقصة بائع الكتب وقصة ماسح الأحذية وقصة الفتاة مع صديقتها الحامل التي كانت تريد الحصول على ترخيص بالإجهاض من المستشار بعد جهد جهيد· هنا تولد لدينا نوع من القص المضمن ''القصة الكبرى - المحفظة'' و''القصص الصغرى ـ الحكايات الأربع'' لإضاءة العمل ولملء فراغه· لقد قدم محمد العامري مؤلفاً ومخرجاً مستويات دلالية باستخدام بارع لفضاء المسرح وبراعة ممثلين أربعة ''صوغة، ومرعي الحليان وجمعة علي محمد وناجي جمعة علي'' في أدائهم للنص فاستحقوا الإعجاب·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©