الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لوحة مرأة للرسام بول سيزان

لوحة مرأة للرسام بول سيزان
9 يوليو 2008 23:45
لقد أضعت بإرادتك اسمها، وأمورا أخرى ليس لها قيمة· تجد نفسك وحيدا في المطار، تحمل حقيبتك الصغيرة، في ذاكرتك فقط الوجه الأسمر والشعر الناعم، ورائحة جسدها، تحاول بكل ما لديك من مساحيق الغسيل أن تزيلها، ولكنك تشعر منذ الوهلة الأولى بأنها تتغلغل داخل خلايا أنفك، ومسامات جلدك· هناك تفاصيل في هذه الذاكرة المهشمة قد تضيع مع الزمن، مع أية تفاعلات وأحداث يومية، ولكن هذا الشيء الذي يربطك بها لا يمكنه أن ينمحي من ذاكرتك، ليس لأنك راغب في أن تحتفظ به، ولكنها الظروف التي شاءت أن تكون هي· أحيانا يبقى إحساسنا بالأمكنة والشوارع والحارات، والمقاعد والصحون والملاعق وحتى القطط والكلاب، يبقى كبيراً، ربما أكثر من إحساسنا بالبشر· تحدث نفسك بهذا الخاطر· تبتسم في وهن وعيناك تتجولان في أمكنة غريبة، تفرضها على نفسك فور دخولك المطار، تشعر بآلاف الحواجز تسقط فجأة عليك· للوهلة الأولى، تتأمل في وجوه المحيطين، وبإمعان، تتفرس في ملامحهم، في تقاطيع وجوههم، تثير عروقهم البارزة، وعيونهم الملتهبة بالوحشة أشياء كانت مبهمة فيك، تخفي ملامحك بوجهك، تريد أن تتجاهل الأمور من حولك حتى لا تتعب أثناء تحليقك في الطائرة في التفكير· تتذكر خوفك وأنت طفل صغير من الناس، ورهبتك من الوجوه، كنت تدس وجهك في ثوب أمك، تتوارى بخوفك خلفها، وكنت تتساءل في سذاجة: لم وجوههم مختلفة؟ وتظل في حيرة من سؤالك الذي كنت تطرحه منذ الطفولة، وعندما تكبر يظل السؤال يلح عليك: لم الوجوه كلها من حولك مختلفة ونفوسهم مختلفة وعقولهم مختلفة ومشاعرهم مختلفة؟ ولم الأمور كلها مختلفة؟ إذا هل تريدها كلها متشابهة؟ هل حقاً تعشق الأشياء المتشابهة؟ أم مجرد سؤال يظل في أعماقك طيلة أعوامك الثلاثين، لم تقاطيع وجهها قد بدأ في الاختلاف في الآونة الأخيرة؟ حتى رائحة (···) تثيران في نفسك الاشمئزاز والألم كرائحة الموت والدم والرصاص· في اليوم الأخير قبل أن تودعها بكت في حضنك، تعلقت بك، تستعطفك أن تحملها معك، تعدها في البداية، ثم تعود لتتجاهلها، تقنع نفسك بأنك سوف تنساها، وهي لحظة أوجدتها الحاجة والرغبة، ربما سوف تجد طريقاً لها في هذا العالم، ورجلاً يجد فيها شيئا آخر غير تلك الرائحة· تلتفت تنظر إليها للمرة الأخيرة، لم تسألها عن اسمها، لم تفعل ذلك، ولم تأت الفرصة المناسبة لتفعل ذلك، كلما جئت لتراها، كنت تتعمد أن تجعل الأضواء خفيفة في الغرفة، كلما اجتمعت معها، لم تكن تريد أن تجعل ذلك الوجه يرتسم في ذاكرتك، أردت أن تمحو منها كل الأسماء والطرق والشوارع والدكاكين، رحت تتأمل وجهك في المرآة الصغيرة التي أعطتك إياها قبل السفر، كهدية وداع، ترى وجهاً زائفاً مغلفاً بمشاعر لا معنى لها، بقايا آدمية: الشارب الضخم، والعينان، ترى بهما مشاهد عديدة، كانت تجمع بينكما وتظل أغلبية الوقت صامتاً، وكأن الأمر لا يعنيك، وتردد في آلية باردة: لن أدخل أنفي في شيء لا يخصني، وكأن وطنك شيء لا يعنيك، وحياتها أمر لا يعني أحداً سواك، قد تكون ولدت في تلك الشوارع المعفنة، وعاشت حياة الفقر والجوع، ولكنها أقسمت بأنك ستكون حياتها إن ساعدتها في الهرب من هذا الجحيم، ولكنك في ظل هذه الظروف القاسية، تبتعد، وتتذكر الشرف ووالدك وشقيقتك التي هربت في ليلة ظلماء مع حبيبها، وامرأة ناحلة تستمتع بصراخها في أول ليلة لك معها· لقد خذلتها، لهذا تحاشيت في آخر لقاء لك معها، أن تتلاقى عيناك مع عينيها، حتى لا ترى فيهما رداءة كتاباتك، وقصصك التافهة التي تنشرها في مجلة عروض الأزياء والماكياج· تتحرك في الحياة لتمارس طقوسك الروتينية في الأكل والشرب والنوم، لقد تعبت من رائحة الجثث المتعفنة وحكايات جدتك التي تسردها عليك كل مساء عن بطولات والدك وجده في زراعة هذه الأرض، ورفع شعارات الثورة وتحدي السلطة· أي سلطة؟ هناك خلف السجون، يقمعون الحرية، ويقتلون الأحلام بقسوة، يمارسون قوتهم بهراوات·· دمعة قهر تخفيها خلف قناع بارد، وأنت تتأمل المدينة المغلفة بقناع من الثلج· لا داعي أن تعيد الماضي، فلتحاول أن تنسى كل الوجوه كما نسيت اسمها· كانت تحدثك عن أحلامها، فكنت تتلقى الحب والحنان في حضنها، ولم تحاول يوماً أن تسألها عن اسمها، ولم تحاول هي أن تلفظه أمام أحد، كنت تتذكر رائحة كلامها كلما قربت وجهك منهما، كانت تهمس في جدية في أذنك: سوف نعيش رغم كل الظروف· كنت تستغرب، كيف يمكن لامرأة عاشت في الطرقات، وجربت حياة التشرد والعوز أن تتلفظ بمثل هذه العبارات والمقولات السياسية، تهز رأسك في عنف، تحاول أن تبعد شبحها عن رأسك، وأنت تستعد لركوب الطائرة، خيل إليك أنك ترى وجهها في كل الوجوه التي سوف تشاركك رحلتك في هذا اليوم· وفي استياء بالغ رحت تشغل نفسك في محاولة تذكر اسمها· ü قاصة إماراتية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©