الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تعليلات

تعليلات
9 يوليو 2008 23:47
ترتبط الشعرية بشيء من الطرافة في التخيل والتعبير، فكسر المألوف يقترن بروح الدعابة، وغالبًا ما يتراوح المبدعون في حركة رشيقة بين الجد والهزل، مما يشفّ عن خفة الروح· ويأتي في هذا السياق ضرب مما كان يدعوه النقاد حسن التعليل، مثل قول الأشجع: ما اخترت يوم وداعكم يوم النوى والله لا مللاً، ولا لتجنُّبِ لكن خشيت بأن أموت صبابة فيقال أنت قتلته فَتُقادُ بي فهذا محب تخلّف عن وداع محبوبه، متعللاً بأنه لم يصبه الملل منه، ولا يتفادى لقاءه، لكنه على العكس من ذلك خشي أن ''يموت صبابة'' عند فراقه، فيتّهم بذنبه، ويُقتَصُّ منه· وتكمن الطرافة هنا في فهم التعبير الشائع ''يموت صبابة'' الذي يؤخذ على سبيل المجاز، فيأتي الشاعر ليرده إلى الحقيقة، ويتعامل معه حرفيًّا، مستنتجًا من ذلك موقفًا جديدًا يتمثل فيه تهمة القتل وعقوبة القصاص في دعابة طريفة· وهذا شاعر آخر يقول: ورأيته في الطِّرس يكتب مرة غلطًا يواصل محوه برضابه فوددت أنى في يديه صحيفة وودته لا يهتدى لصوابه فهذا لا يعتمد على المغالطة، ولكن على الأماني الغريبة· فقد رأى محبوبه، وربما كان غلامًا أو جارية فلا فرق عندهم، يكتب في صحيفة، ثم يمحو ما كتبه خطأ بلعابه؛ فيسيل لعابه ولعًا به، ويتمنى أن يكون هو الصحيفة، كما يودّ أن لا يكتب كلمة صحيحة حتى يظل يصوب أخطاءه ويلعقه· ولعل الذوق المعاصر ينبو عن هذه الصورة؛ لأن أدوات الكتابة عند الشباب اليوم لا تحتاج إلى أحبار ولا تصويبات في عهد المدونات، كما أن اللعاب والمسح به حركة صبيانية سرعان ما يقلع عنها الكبار· لكن عالم المحبين دائمًا مفعم بروح الطفولة، لا يودون مغادرتها إلى الأبد، ويأتي الشعراء ليسجلوا مشاهده بكلمات بسيطة تظل مثل اللوحات النادرة التي تحتفظ بها ذاكرة الثقافة· وهناك حركة تشكيلية أخرى تسجلها هذه الأبيات: ولما وقفنا للوداع وقُدّمت جياد المطايا والركاب تسير وضعت يدي من فوق صدري مبادرًا فقالوا محب بالعناق يشير فقلت: ومن لي بالعناق، وإنما تداركت قلبي لا يكاد يطير فهذا مشهد قصصى لطيف، يحكي فيه الشاعر لحظة وقوفه للوداع، وقد أمسك الحداة جياد المطايا استعدادًا للرحيل الذي بدأ، مصوّرًا نفسه وقد وضع يده على صدره، ومتخيلاً الآخرين وقد ظنوا أنه يشير إلى محبوبه بحركة توحي برغبته في عناقه، ويرد عليهم في هذا الحوار الداخلي الذي لم ينطق به أحد بأن لا سبيل له لتحقيق ذلك، فهذا أبعد مما يجرؤ على تمنيه· غاية ما هناك أنه قد أمسك بقلبه، خشية أن يقفز عند الفراق طائرًا من قفص صدره· وهذه واحدة من الصور السردية التي لا تعتمد على مجاز أو كناية، وإنما تمثل حركة خارجية وأخرى داخلية تموج بها نفس المحب في لحظة معينة·· فامسكوا قلوبكم حتى لا تطير!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©