الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وصايا المؤدب.. الأخيرة

وصايا المؤدب.. الأخيرة
18 ابريل 2018 20:56
رحل المفكر التونسي الكبير عبد الوهاب المؤدب في 5 نوفمبر 2014 عن 67 عاماً، وكان أحد كبار التنويريين العرب في هذا العصر. ولكن لحسن الحظ فإن مؤلفاته موجودة ومترجمة في معظمها إلى اللغة العربية. وهي تحتوي على إضاءات ساطعة تهدينا سواء السبيل وتنير لنا الطريق. وهذه هي ميزة الفكر الخلاّق: إنه لا يموت بموت صاحبه، وإنما يظل حياً على مدار الأجيال. الشيء الجديد المفرح الآن هو التالي: لم أكن أعرف أن عبد الوهاب المؤدب ترك وراءه كتاباً لم ينشر إلا بعد موته، بعناية فائقة وتقديم مطول من قبل صديقه العزيز والمفكر الفرنسي الكبير: كريستيان جامبيه. عنوان الكتاب: «لحظات صوفية» أو «لقطات صوفية» أو «محطات صوفية» أو «شخصيات صوفية»، قولوا ما تشاؤون. وفيه يتوقف عند بعض كبار الشخصيات الصوفية في تاريخنا من أمثال: الحسن البصري، ورابعة العدوية، والبسطامي، وابن عربي، وعشرات الآخرين. لكن قبل استعراض كل ذلك اسمحوا لي أن أتوقف قليلا عند مقدمة كريستيان جامبيه أحد كبار المختصين بالفلسفة الإسلامية في فرنسا. يقول لنا ما معناه: كان عبد الوهاب المؤدب يؤمن إيماناً قاطعاً بوجود إسلام آخر غير الإسلام السياسي الإخونجي هو: الإسلام الكوني الروحاني ذو القيم الأخلاقية العالية. صحيح أن صوت الإسلام السياسي يغطي على كل الأصوات الأخرى بضجيجه وعجيجه وتهييجه للعامة والشارع العربي، ولكن هذا لا ينبغي أن ينسينا وجود الإسلام الآخر: أي الإسلام الصحيح، الإسلام الذي أشع على العالم يوما ما بكل أنواره ومثله العليا. صحيح أنه مطموس حالياً بشكل كامل تقريباً، ولكنه كان موجوداً ولا يزال. وهو الذي يمثّل جوهر الإسلام. وكان المفكر التونسي معجباً جداً بهؤلاء المعلمين الروحيين للإسلام الصوفي. ولذلك كرّس لهم هذا الكتاب الذي يمكن اعتباره امتداداً لكتابه السابق: «مواعظ مضادة». والمقصود بذلك أنها مضادة لمواعظ جماعات الإسلام السياسي الإخواني التي تبث الكراهية والحقد والجهل على مدار الساعة من خلال الفضائيات. وسط الدمار ننتقل الآن إلى مقدمة المؤلف نفسه. وهي قصيرة ولكن ذات دلالة ومغزى. فماذا يقول لنا عبد الوهاب المؤدب في مقدمة لا تتجاوز الخمس صفحات؟ إنه يقول ما معناه: لقد أصبحت الحياة العربية دماراً في دمار في هذا العصر الإخونجي ـ الداعشي الأسود. فحيثما أجلت ببصرك لا ترى إلا مدناً تحترق وأشلاء تتمزق وبيوتاً تتهدم. حيثما أجلت ببصرك لا ترى إلا عربا ضد عرب، أو مسلمين ضد مسلمين. وكلما وصلنا إلى قعر واعتقدنا أنه آخر قعر وجدنا أن له قعراً آخر أسفل منه وهكذا دواليك. وبالتالي فالحياة العربية أصبحت مثقوبة بلا قعر. فما هو سبب ذلك يا ترى؟ أما لهذا الليل من آخر؟ أما لهذا الانحطاط من قعر نهائي نستقر عنده ونستريح؟ وربما نبتدئ الصعود بعدئذ. ذلك أن الوصول إلى آخر قعر في أسفل جهنم الانحطاط يعتبر تقدماً ما بعده تقدم وإنجازاً ما بعده إنجاز. ليتنا نصل إلى القعر الأخير في ليل الانحطاط العربي الطويل. فالنهوض العربي المرتجى لن يبتدئ إلا بعد الوصول إلى تلك النقطة العميقة. اتهام خطير ثم يطرح عبد الوهاب المؤدب هذا السؤال: إلى أي مدى ستذهب تلك الصيرورة، إلى أي قعر ستنحدر؟ أقصد بذلك عملية تدمير الإسلام من قبل أولئك الذين يعتبرون أنفسهم بمثابة المدافعين الأشداء عنه؟ الغربيون الكارهون سلفاً لهذا الدين سوف يقولون لك ما يلي: ولكن هذه الفظاعات الإخونجية الداعشية هي في صلب منطق الإسلام والعقيدة الإسلامية. إنها ليست غريبة عنه بأي حال. أليس هو دين السيف باعتراف آية السيف ذاتها أي الآية الخامسة من سورة التوبة؟ «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين، حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم». هذا هو منطق حرفية القرآن مأخوذة بحذافيرها. وبالتالي فعندما يرتكب الدواعش المجازر بحق الايزيديين وسواهم فإنهم لا يفعلون شيئاً غير تطبيق أوامر القرآن بحرفيتها. وعندما يخيرون مسيحيي مدينة الموصل بين اعتناق الإسلام أو الرحيل أو الجزية فإنهم لا يفعلون شيئاً آخر غير تطبيق الآية رقم 29 من سورة التوبة ذاتها: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون». ..وجواب عميق فكيف يرد عبد الوهاب المؤدب على هذا الاتهام الخطير الذي طالما سمعه من طرف المثقفين الفرنسيين والغربيين بشكل عام؟ ينبغي ألا ننسى أنه ابن أحد مشائخ الزيتونة في تونس وسليل عائلة أرستقراطية رفيعة تعود في أصولها الأولى الى عصر الأندلس. وبالتالي فالإسلام عزيز على قلبه وقد تربى في أحضانه بكرة وعشياً. يقول في رده ما معناه: ولكنكم بقولكم هذا تجعلون القرآن أحادي المعنى، في حين أنه فوّار بالمعاني والدلالات، ويحتاج الى شروحات وتأويلات. ولا ينبغي أن ننسى وجود الآيات التعددية المتغايرة. فمقابل آيات التكفير والقتال هناك آيات التسامح والغفران. فبأيهما نأخذ يا سادة يا كرام؟ ولماذا نأخذ بآيات القتال وننسى آيات الغفران؟ لأن الفقهاء يميلون الى الآيات ذات الشحنات العنفية والبلاغية القوية. وهذه هي ميزة آيات القتال والتكفير. وأنا أقول لكم العكس. بمعنى أن الجزء الأبدي الخالد من القرآن، أي الجزء الأخلاقي الروحاني الميتافيزيقي ينبغي أن يتغلب على الجزء العرضي المرتبط بالصراعات الحربية الهائجة لذلك الزمان. وهذا يعني في نظر عبد الوهاب المؤدب أنه ينبغي التفريق داخل القرآن بين العرضي/‏‏ والجوهري، بين الآيات الكونية/‏‏ والآيات المحلية. وكل آيات القتال والعنف والتكفير ما هي إلا عرضية أو ثانوية مرتبطة بظروف عصرها وصراعاته الهائجة. وحدها الآيات الأخلاقية والروحانية والميتافيزيقية هي الكونية والأبدية الملزمة لنا في كل زمان ومكان. وهي كثيرة في القرآن لحسن الحظ. ثم يستدرك عبد الوهاب المؤدب قائلاً: لا تخافوا. لا أريد الوقوع في الشيزوفرينيا أو انفصام الشخصية. لا أريد تشكيل إسلام خيالي، ذكي، عقلاني، مزيّن ومجمل ولطيف ومحبوب مقابل إسلام إخونجي واقعي رهيب دموي مرعب نراه كل يوم على شاشات الفضائيات العربية من خلال أعمال داعش والنصرة والقاعدة والبوكو حرام الخ.. ثم من قال لكم إن هذا الإسلام الدموي الداعشي ليس هو الخيالي المفبرك؟ أنا شخصياً أعتقد بأنه انحراف عن الإسلام الحقيقي وتشويه له. فلو كان الإسلام داعشيا من أساساته وبداياته لما استطاع الصمود أربعة عشر قرنا من الزمان ولا يزال. لو كان الإسلام داعشيا في حقيقته وجوهره لما شكل العصر الذهبي وأورث البشرية كنوزاً من المؤلفات الفلسفية والروائع الأدبية والقيم الروحانية. أنظروا الى كنوز التراث العربي الإسلامي، بدءاً من مؤلفات الكندي والجاحظ والتوحيدي وابن سينا والفارابي والمعري وعشرات غيرهم وانتهاء بطه حسين ونجيب محفوظ والإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني الخ.. وبالتالي فالإخوان المسلمون وكل ما نتج عنهم من دواعش وغير دواعش ليسوا هم الإسلام! إنهم ليسوا إلا أحد وجوهه الكالحة: أقصد الوجه المظلم المعتم، الوجه العدواني الدموي التكفيري. ولكن للأسف فإنه هو الذي تغلّب على المسلمين بعد الدخول في عصر الانحطاط. لقد تغلب وطغا وبغى إلى حد أنه طمس كلياً ذلك الوجه الآخر المشرق والمضيء للإسلام. وأنا لا أهدف في هذا الكتاب إلا إلى شيء واحد: الكشف عن ذلك الوجه الأخلاقي والكوني الروحاني الذي طمسوه. كنوز إسلامية ثم يردف عبد الوهاب المؤدب قائلاً: إن من واجبنا تعريف الآخرين بل وتعريف المسلمين أنفسهم بتلك الكنوز الرائعة للإسلام. وتزداد ضرورة ذلك وإلحاحه لأننا نعيش في أبشع عصور الإسلام قاطبة: قصدت العصر الاخونجي الداعشي. ينبغي أن نكشف الغطاء عن كنوز التراث، عن تحف التراث، عن القيم الكونية والانسانية الرائعة للتراث العربي الاسلامي العظيم. وعندئذ سنكتشف أن الإسلام شيء آخر غير ما هو شائع حالياً. وأنا أقول لكم ما يلي: في مواجهة هذه الكارثة التي يعيشها العالم العربي والإسلامي كله فإن الحل والخلاص لن يجيء إلا من جهة التصوف الروحاني الاسلامي. فبمواجهة صعود الاسلام السياسي للإخوان المسلمين وسواهم لا يوجد إلا علاج واحد هو: تيار التصوف الاسلامي النقي الصافي. فهذا التيار هو الذي يعبر عن جوهر الاسلام وقيمه الكونية والإنسانية والروحانية والأخلاقية الرائعة. فبقدر ما يركز الاسلام السياسي على الطائفية والعنصرية وازدراء كل العقائد والأديان الأخرى وتكفير أصحابها بقدر ما يركز التصوف الاسلامي على مكارم الأخلاق واحترام الآخر وعدم إهانته في كرامته أو معتقده. وهو بذلك ينقذ شرف الاسلام وسمعة الاسلام وكرامة الإسلام. وكان أول من عبر عن هذه القيم الكونية المضادة للنزعة الطائفية التكفيرية السائدة حاليا هو الحسن البصري الذي اتخذ المسيح عليه السلام كنموذج وقدوة على الزهد بالحياة الدنيا ومتعها وشهواتها. نعم كان يمجد المسيح أو عيسى ابن مريم في بيئة إسلامية خالصة. وفي كلامه غالباً ما كان يتوجه إلى البشر بشكل عام وليس فقط الى المسلمين عن طريق القول: يا بني آدم! وكان أتباعه يستشهدون بالتوراة والزبور والإنجيل إضافة إلى القرآن! هذا ما كان يفعله فرقد السبخي مثلا. وكان مالك بن دينار يستشهد غالبا بكتب اليهود والمسيحيين لكي يهذب أخلاق المسلمين! من يستطيع أن يفعل ذلك الآن؟ من يتجرأ الآن على الاستشهاد بآية توراتية أو انجيلية؟ إنهم يعتبرونه فورا عميلا صهيونيا! وكل هذا التعصب ناتج عن جماعة الإخوان المسلمين وبقية حركات التطرف التي تفرعت عنهم. ثم يقول لنا عبد الوهاب المؤدب في وصيته الأخيرة ما يلي: لم يكن الصوفي المسلم في العصور الأولى الذهبية يتورع عن تجاوز حدود طائفته لكي يتوجه بالكلام الطيب إلى الإنسان في المطلق بغض النظر عن دينه ومذهبه ومعتقده. وكان البسطامي يبتهل الى الله لكي يشمل برحمته كل الجنس البشري وليس فقط المسلمين. ألم تقل الآية الكريمة: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين؟ فإذا بدين المصطفى يتحول إلى نقمة على البشرية جمعاء في عهد الإخوان المسلمين وبقية التكفيريين الدواعش! بل ووصل الأمر بالشاعر الكبير ابن الفارض، شاعر الغزل الإلهي، إلى حد الاعتراف بالتجارب الروحية للمسيحيين والهندوسيين واليهود. كله مقبول عند الله إذا صدقت النوايا وصلحت الأعمال.. وابن عربي في شطحاته الشهيرة الرائعة ألم يقل هذه الأبيات النورانية: لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني وقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني هذا هو تراثنا الإسلامي العظيم: إنه دين الإيمان والحب ومكارم الأخلاق لا دين الانغلاق والتعصب والجهالات. المفكر والموضوع نشأ عبد الوهاب المؤدب في عائلة تقليدية، وتعلّم القرآن الكريم تحت سلطة والده في سن الرابعة، والتحق بالمدرسة الفرنسية العربية في تونس بعد عامين، في مرفق معهد الصادقية المخصصة للتعليم الابتدائي. ومنذ سن الرابعة عشرة، كان لديه شغف لقراءة كلاسيكيات الأدب الفرنسي له. وبعد ثلاث سنوات في جامعة تونس، بدأ دراسة الأدب وتاريخ الفن في جامعة باريس السوربون/‏ باريس الرابعة واستقر في باريس، حيث أقام منذ 1974، حتى وفاته. من أهم كتب المؤدب «أوهام الإسلام السياسي»، وقد ترجمه إلى العربية بالاشتراك مع محمد بنيس، وهو يقع في أربعة أقسام متوازنة؛ قسّمها، بدورها، إلى عناصر، ثمّ ذُيّل كلّ قسم بهوامش. ومن عناوين الأقسام، يمكن فهم رؤية المؤدب إلى موضوعه. فالقسم الأوّل يحمل عنوان: إسلام مفجوع بفقدان غلبته. والقسم الثاني بعنوان: أصل الأصولية وفصلها. والقسم الثالث بعنوان: الأصولية في مواجهة الغرب. وحمل القسم الرابع عنوان: الغرب يُقصي الإسلام.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©