الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خطاب الالتواء

خطاب الالتواء
18 ابريل 2018 21:00
أصبح الصدق والحقيقة مفهومين ملتبسين، أمام تحولات السيرة الذاتية عموماً، والسيرة الذاتية النسائية على وجه الخصوص. فالسيرة الذاتية كجنس أدبي، تعاني على الدوام عدم الاستقرار، ولذلك، فإن مصطلح التخييل لم يعد حكراً على الرواية، والقصة القصيرة، والشعر، وأجناس أدبية أخرى، بل أصبح مكوناً أساسياً من مكونات السيرة الذاتية، فالدراسات الأدبية بدأت تستعمل هذا المصطلح بكثرة. وقد أكدت «دوريت كوهن - Cohn Dorrit» 1» أن العديد من النقاد قاموا بمحاولة حصر التخييل داخل الأعمال السير ذاتية، وذلك لحصر الأكاذيب والاختلاقات، إذ أقدم أحد الباحثين على دراسة سيرة «ماري ماكارتي» لضبط الأوهام القصدية واللاقصدية، فواجهته صعوبة معرفتها، واكتشف أن اللغة تقدم خطاباً آخر يختلف عن خطاب الذاكرة التي ينهل منها الكاتب، لأن عملية الكتابة في حد ذاتها تصوغ نصا آخر. فالكتابة هي أيضا، تخييل. ولأن هذا الإشكال ما زال مطروحاً فإنه يخلق التباساً بالنسبة للمتلقي، فهل يمكن اعتبار هذه السير الذاتية إحالة على أصحابها أم أن أغلب السير مجرد تكرار وانتحال؟ لا يمكن أن نغفل أهمية النقاد في تجديد النظر إلى السيرة الذاتية، كما هو الشأن بالنسبة لفيليب لوجون Lejeune Philippe الذي اقترح مصطلحاً آخر منحه اسم: النسخ الذاتي Autobiocopie 2، فقد لاحظ من خلال دراسة أجراها على العديد من الفتيات اللواتي يكتبن اليوميات أن بعضهن قرأن «آن فرانك» فأعطتهن أفكاراً، فأعادت بعضهن كتابة ما تم حكيه وسماعه! محكي الطفولة حين نتحدث عن «محكي الطفولة» يطالعنا سؤال: أي مصداقية لهذا المحكي، وهل لهذه المصداقية ضرورة، خاصة إذا تعلق الأمر بالسيرة الذاتية النسائية؟ ترى الباحثة «بياتريس ديديي» Didier Béatrice أن النساء يعدن بقوة إلى عالم الطفولة وكأنه العالم الوحيد الذي يمتلكنه، فهي ترى أن السعادة تكمن وراء هذه الاستعادة. وفي المتن العربي، نجد هذه العودة ملحة بالنسبة لكاتبة السيرة الذاتية العربية، غير أنها عودة يبنيها الشقاء والخلل. فأغلب الكاتبات ينتجن خطاباً آخر يختلف في التفاصيل والأحداث، لكنه يلتقي في وجهة النظر إلى الأشياء، ولعل هذا التشابه هو ما يدعونا إلى التساؤل حول الخطاب الذي تنتجه الكاتبة وتحيطه بنوع من اليقينية تجعله يبدو كأنه في صيغته الحقيقية، علماً بأن المصداقية والحقيقة لم تعودا من المفاهيم الحاسمة. لا يمكن أن نتحدث عن الطفولة دون الوقوف عند الافتراض الهام الذي بناه فرويد وهو يبحث في الطفولة، والذي كان مهدا للعديد من الدراسات التي تلته، على الرغم من المسافة الزمنية التي تبعدنا عن هذا الافتراض. وتفترض هذه الأطروحة أن لكل فرد رواية يختلقها للعيش في سعادة ذاتية، وقد رجع فرويد إلى الطفولة لبناء أطروحته، مفترضاً أن الطفل يتصور أنه ينتمي إلى أسرة أخرى تخالف أسرته على المستوى المادي، ويأمل في وضع أفضل. معتبراً أن جل الأطفال الذين يتخيلون وضعا أفضل هم شخصيات عصابية في المستقبل، إلا أن هذا الجانب ليس هو الذي يثير الاهتمام، بل الجانب الذي يركز على خلق عالم مغاير والعيش فيه كأنه «فردوس مفقود»، من هنا، لا يمكن أن نغفل هذه الرؤية التي تنبني على الاختلاق. ولكن ما العلاقة التي يمكن أن تجمع بين الرواية الأسرية والسيرة الذاتية؟ وهل للتصور الذي بناه فرويد جانب من المصداقية؟ العديد من المبدعين لهم رواية أسرية، والسيرة الذاتية تسعى دوما إلى بناء الرواية الأسرية واختلاقها، وهذا الاختلاق هو جزء من حقيقة الذات المستهامة. يجرنا هذا إلى الحديث عن صنع رواية أسرية تعمل على تنظيم واختلاق البدايات (3)، فالعديد من المبدعين قاموا بذلك، وكأنهم يكذبون بصدق؛ ولذلك فإن كتابة الذكريات لا تقتصر على ما تراه في الذاكرة، فكل شيء يدفع إلى إعادة اختلاق الماضي، فالذاكرة شبكة يمكن أن نطرز على منوالها (4). فالطرز أو الحبكة أصبحت تعمل في السيرة الذاتية على الصنعة والجمال، من ثم فإن معيار الحقيقة والمصداقية انضافت إليهما معايير أخرى مثل الجمال. وفي نصوص نوال السعداوي، سرد روائي وصفي ينزاح إلى الاستعارة والمجاز، وليس السرد التقليدي الكلاسيكي الذي يسرد الحياة دون إضافة. تصف نوال السعداوي مجيئها إلى العالم: «رأس ناشف، عنيد، صلب، مثل الحجر، أسود بلون الليل». (أوراقي... حياتي، الجزء الأول: ص 6). إن السرد هنا يختار التكرار والتشبيه ليصف ذلك المجيء ويبلغه للقارئ، فالرؤية حديثة والحدث قديم، وهو منقول بوساطة الآخرين «الجدة التي نقلت هذه اللحظة الأولى»، غير أن الساردة تضيف لهذه الرؤية تصوراً خاصاً بها يسهم فيه المنظور الحالي للكاتبة، بكل ثقافتها وتصورها للأنثى والعالم. ومع الابتعاد عن المباشرة، فالسرد لا يبلغ فقط، وليس في نيته التبليغ بل يضيف الخلق والتخييل، إذ يتم تخييل لحظة الولادة، وهو ما يجعل الكاتبة تلجأ إلى أساليب أخرى. لهذا يمكن القول: إن الأحداث الواقعية تم حكيها «من خلال حكي الجدة»، في حين أن المجازات مستحدثة «من خلال حكي الساردة» وهي تعمل هنا، كبعد للإضافة، والإضافة هنا نابعة من عالم الحاضر أي الزمن الحالي. (5) تبني الساردة روايتها الأسرية عبر الآخرين، ذلك أنها لا تتذكر كل الأحداث البعيدة جدا في الزمن، لذا فروايتها يتم اختلاقها وتجميعها من المحيط الذي نشأت فيه، وتخلق مثل هذه الحكايات سرداً آخر داخل السيرة الذاتية، والغاية من خلق هذا النوع من الرواية الأسرية هو كسر المنظومة التي بنت الماضي. السيرة المختلقة تصنع الساردة روايتها الأسرية من خلال الآخرين، بجمع أقوال منثورة. ففي بعض الأحيان يهيمن التذكر، إذ إن الساردة تتذكر كل شيء، وفي أحيان أخرى، يأتي الحكي من خلال سند آخر، ألا وهو استحضار خطاب منقول يقدم صوت جدتها وصوت عمتها، لتوجيه رؤيتها في الاتجاه الذي تبنيه، فهي تسعى إلى جعل الآخر القارئ يتواطأ مع حكاية طفولتها التي تميز بين الذكر والأنثى، وتنقل لنا أيضا الوضع النفسي لذلك وهي تسعى لبناء ذاتها. إن العودة إلى الطفولة من خلال الساردة هي إعادة النظر في التاريخ أيضاً. فالساردة تعلن، هنا، رغبتها في نقل هذا التاريخ الذي كان يهيمن عليه الأب إلى تاريخ يحفظ استمرارية الأم. وكتابة السيرة الذاتية، لا تقتصر على سرد الأحداث، أو امتلاك مرحلة مضت، بل تتجاوز ذلك إلى إعادة بناء التاريخ الأنثوي الذي عاشته الكاتبة. تتبنى جل كاتبات السيرة الذاتية النسائية هذه البداية، فليلى العثمان، أيضا، في سيرتها الذاتية تنتقد علاقتها بالأسرة. لذا، يمكن القول إن العودة إلى الطفولة ليست عودة سعيدة، أو أنها الفردوس المفقود الذي نجده لدى فرويد ومارت روبير Marthe robert (رواية الأصول وأصول الرواية)، بل هي عودة غير مرغوب فيها. فالساردة في السيرة الذاتية تكره بداية علاقتها بالعالم، مما يجعلها تنسجها كي تبدو الطفولة هي الممهد لمأساة الحاضر. تقول ليلى العثمان: «قلوب لا تعرف الرحمة. أشعرتني بيتمي وهشاشة روحي المستلبة. كنت مجرد شيء تافه يكمل العدد. ويستخدم آلة لتنفيذ الأوامر. صار البيت سجناً، فكانت المدرسة هي منفذي إلى عالم آخر مختلف تماما». (المحاكمة، ص9). يتضح من هذه البداية أن الساردة التي تحكي هي في وضع ناضج بعيد عن تلك المرحلة الطفولية الأولى، وأنها تراها الآن بشكل آخر، وهكذا تصوغ الأنا المتكلمة (أنا) تتميز باليتم والهشاشة والاستلاب، وذلك تمهيدا لما سيطرأ من تغيير على هذه الشخصية، ونجد هذا البناء مستعادا في سيرة ربيعة السالمي، التي تصوغ مراحل حياتها الأولى بالكيفية نفسها، تقول الساردة بعد أن عرفت أنها بقيت منسية حين ولدتها أمها التي ماتت لحظة الولادة: «لماذا نسوني؟ لكي أموت...». (الجلادون، ص 6). إن البداية الطفولية في هذه السير الذاتية تبدو متشابهة، لذا نجد الساردة تتحدث عن هذه الطفولة، وتعيد صوغها كي تبرز شقاءها. إن السير الذاتية النسائية غنية بخطاب الالتواء، فهي لا تعمد إلى المباشرة، ولذلك، فإن العودة إلى الطفولة هي عودة ينبغي إعادة صياغتها على مستوى القراءة. كتابة غير مباشرة تتبنى جل كاتبات السيرة الذاتية النسائية العودة إلى محكي الطفولة لانتقاد العلاقة مع الأسرة. لذا، يمكن القول إن العودة إلى الطفولة ليست عودة سعيدة، أو أنها الفردوس المفقود الذي نجده لدى فرويد ومارت روبير Marthe robert (رواية الأصول وأصول الرواية)، بل هي عودة غير مرغوب فيها. فالساردة في السيرة الذاتية تكره بداية علاقتها بالعالم، ما يجعلها تنسجها كي تبدو الطفولة هي الممهد لمأساة الحاضر. إن السير الذاتية النسائية غنية بخطاب الالتواء، فهي لا تعمد إلى المباشرة، ولذلك، فإن العودة إلى الطفولة هي عودة ينبغي إعادة صياغتها على مستوى القراءة. مراجع وإحالات 1 - COHN (Dorrit): le propre de la fiction، p13-14، seuil، 2001. 2 - LEJEUNE (Philippe): les brouillons de soi، p14-15، seuil، 1998. 3- FOUET (jeanne):»Driss Chraïbi.La fabrication du roman familial»، p221. in: Ecritures de soi: secrets et réticences، op. cit. 4- LEJEUNE (Philippe): Les brouillons de soi، p37، op. cit. 5- SHWAR (Martin): «une vie étrangère»، p271، in: Ecritures de femmes et autobiographie، Maison de sciences de l›homme d›aquitaine
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©