الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندما تقوم الموسيقى بدور البطولة

عندما تقوم الموسيقى بدور البطولة
18 ابريل 2018 21:05
تلك فتنة أخرى، فمثلما فتنني عالم البحر، فتنني عالم السينما الذي هو من إبداع البشر لا الطبيعة. عرفت السينما وأحببتها منذ صباي. ورثت هذا الحب من عشق أبي وجدتي لها: ذلك الفن الذي لم يكن موجودًا قبل القرن الفائت الذي وُلِد أبي في أواخر ربعه الأول. كانت جدتي العجوز أيقونة من أيقونات مشاهدي السينما في مصر، حتى أن القائمين على دور السينما العديدة في حي السيدة زينب كانوا يفسحون لها مكانًا متميزًا بالمجان، وكنت أشاهد العروض السينمائية بصحبتها. بدأت السينما كفن عالمي جديد قبل بداية القرن الفائت ببضع سنوات، وكانت مصر من أوائل الدول التي تبنت هذا الفن وأبدعت فيه. هنا، أريد أن أتحدث عن فتنتي بجماليات هذا الفن وموسيقاه، من خلال تأملي لخبرتي المبكرة بفيلم من كلاسيكيات السينما العالمية. كان الفيلم الذي فتنني آنذاك في سِن الثانية أو الثالثة عشرة تقريباً هو فيلم الطيب والشرس والقبيح (The Good، the Bad، and the Ugly) بطولة كلينت إيستوود ولي فان كليف وإيلي ولاش، ومن إخراج سيرچيو ليوني، فضلاً عن البطل الأكبر غير المرئي في هذا الفيلم وهو إنيو موريكوني الذي وضع الموسيقى التصويرية لهذا الفيلم ولغيره من الأفلام العظمى في تاريخ السينما. كنت أعرف بحس فطري ما عرفته فيما بعد عن جماليات هذا الفيلم من حيث الإخراج والتمثيل والتصوير والمونتاج والموسيقى التصويرية. حينما شاهدت الفيلم أول مرة فُتِنت به، وحينما شاهدته للمرة الثانية «مجانًا» بصحبة جدتي، ازدادت فتنتي به. ولكني لم أتمكن من مشاهدته للمرة الثالثة، إذ أن ما تبقى لي من القروش لم يكن يكفي لشراء تذكرة دخول السينما التي كانت قيمتها ثلاثة قروش في منتصف الستينيات. تفتق ذهني عن حيلة مبتكرة، وهي أن أقوم بنسخ تذكرة الدخول إلى السينما على نحو يضاهي الأصل تماماً، بحيث لا يلحظ الشخص الواقف على باب الدخول أي اختلاف بين الأصل والصورة، خاصةً في ذروة الزحام والتدافع على مشاهدة العرض. وضعت صورة من التذكرة الأصلية أمامي، واقتطعت جزءاً أبيض من ورقة من الصحف السيارة يماثل نوع الورق الذي صُنِعَت منه التذكرة، وهو ورق أبيض مائل إلى الاصفرار، ليس فيه نقاء أو سماكة. ثم أتيت بحبر كان يُسمى في ذلك الوقت «الحبر الشيني»، وأظن أن هذه التسمية تعني «الحبر الصيني»، وهو حبر يشبه ذلك الحبر المطبوع على التذكرة الأصلية، ثم رسمت الحروف والكلمات على النحو ذاته الذي جاءت عليه في الأصل. جاءت الصورة طبق الأصل، وكانت هذه التجربة أول خبرة حقيقية أعرف من خلالها حبي لفن السينما بوجه خاص، وقدرتي على الرسم والتصوير، التي لا أزال أحتفظ بما يشهد عليها من اسكتشات رسمتها بقلم الفحم لا أعرف أن أصنع جزءًا منها الآن! سحرتني الموسيقى ما فتنني في فيلم الطيب والشرس والقبيح هو الموسيقى التصويرية التي وضعها إنيو موريكوني للفيلم. لم تكن مداركي آنذاك تتسع لفهم معنى الموسيقى التصويرية، ولا لأن أعرف أن موسيقى هذا المؤلف العظيم أوسع كثيرًا من هذا الفيلم، لأن موسيقاه التصويرية تشمل روائع عديدة في تاريخ السينما العالمية، بل إنها تتجاوز حتى حدود الموسيقى التصويرية لتلك الروائع من الأفلام التي ستظل محفورة في ذاكرة التاريخ. ومع ذلك، فإن هذا الفيلم يظل هو البداية التي تفتحت فيها خبرتي بالسينما وعلاقتها بالموسيقى. كان ما يجعل المشهد السينمائي آثرًا مستوليًا على المشاهدين من أمثالي، ليس فحسب جمال الموسيقى، وإنما قدرتها الفائقة على تصوير تفاصيل الحدث وروحه، ودقتها الفائقة في توقيت دخول الصوت الموسيقي على الصورة السينمائية وتوقيت مفارقته لها. لم أكن أدرك حينها في صباي هذا التحليل الذي أدركه الآن، إذ كنت أدركه بشكل غامض ملتبس لا أعرف كنهه. هذا التلاحم بين الصورة والموسيقى هو ما يجعلني أتساءل الآن: كيف كانت الموسيقى جزءاً عضويّاً من المشهد السينمائي في تلك الروائع الخالدة؟ لقد نال هذا الفيلم كثيراً من النقد والتشكيك في قيمته من جانب نقاد السينما عندما تم عرضه في ستينيات القرن الفائت، ولكن بمرور الوقت فطن الكثيرون إلى أهميته من حيث صناعة الصورة السينمائية بما تنطوي عليه من مونتاج وموسيقى تصويرية، ولذلك أصبح يعد واحداً من أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما. هكذا صدق حدس الطفولة.. صدق حدسي في مرحلة الطفولة الذي تمثل في فتنتي بالفيلم، وكان أكثر ما فتتني فيه هو تأثير الموسيقى في ارتباطها الوثيق بالصورة السينمائية. المشهد الأخير من هذا الفيلم يجسد ذروة هذه الصلة الحميمة بين الموسيقى والصورة السينمائية. عرفت ذلك في طفولتي بحدس فطري من دون أعرف شيئاً عن طبيعة المونتاج وتقنيات الصورة السينمائية ودور الموسيقى التصورية. ولكنني الآن أعرف كيف أفسر ما سبق أن عرفته بحاسة الذوق الفطري: تأمل على سبيل المثال المشهد الأخير من هذا الفيلم: تأمل توقيت دخول الموسيقى على كل لحظة من لحظات المشهد، وكيف كانت الصورة تتوافق مع الموسيقى، بل كيف كانت تتسارع اللقطات بصورة فائقة مدهشة لتتوافق مع سرعة الإيقاع الموسيقي، وتهدأ مع هدوئه، بل تسكن مع سكونه اللحظي، لتتسارع من جديد مع سرعة اللقطات التي صنع المونتاج حركتها بعناية مُذهِلة. وليس أدل على عظمة هذا المشهد الذي كانت فيه موسيقى الفيلم هي البطل، سوى أن هذا المقطع الموسيقي قد تحوَّل إلى حالة موسيقية قائمة بذاتها يمكن عزفها بمنأى عن الفيلم، وإن كانت تحمل عنوان الحالة التي يعبر عنها مجمل الفيلم، وهي حالة موسيقية يتم عزفها منفردة بعنوان: «النهم إلى امتلاك الذهب» (The Ecstasy of Gold)، وهي الحالة التي كان يعبر عنها المشهد الأخير الذي يجري فيه القبيح بين المقابر بحثًا عن اسم قبر يتوهم أن كنز الذهب مدفون فيه! يكفي كتابة ذلك العنوان على شبكة المعلومات، لتدخل في تلك الحالة الموسيقية الآسرة من خلال أوركسترا سيمفوني يقوده ميروكوني نفسه، ويتجلى فيه الصوت البشري الأوبرالي المهيمن على العمل: صوت وأداء سوزانا ريجاتشي، الذي لا يضاهيه هنا أداء أي صوت لمغنية أوبرالية أخرى لهذا العمل ذاته. الوعي واللاوعي طالما عايشت في المرحلة المتأخرة من عمري موسيقى إنيو موريكوني الذي أصبح يمثل عندي واحدًا من أعظم مؤلفي موسيقى السينما على الإطلاق حتى يومنا هذا. أصبحت الآن قادراً على تحليل موسيقاه من الناحية الجمالية التي تتجلى في قدرتها على تصوير المرئي الجزئي من خلال صورة كلية ميتافيزيقية. ولكنني عندما بدأت هذا النوع من التأمل الفلسفي، اكتشفت تباعاً أنني كنت أتأمل تأملاً واعياً ما كنت أعرفه من قبل بطريقة لاواعية، أي من خلال خبرة أولية سابقة على خبرة التأمل الانعكاسي أو الباطني (reflection) كما يصفها ميرلوبونتي باعتبارها جوهر التأمل الفينومينولوجي. والحقيقة أن معنى هذا هو أن خبرة التأمل الانعكاسي هي في الحقيقة خبرة بتأمل شيء ما يحدث لنا في عالم الخبرة المعيشة، أي خبرة مباشرة مستمدة من هذا العالم. ولا شك في أن هذا العالم المعيش ليس هو اللحظة الراهنة التي نعيشها، وإنما هو عالمنا الذي عشناه وعايشناه عبر زمن ممتد منذ أن وعينا.. منذ أن أمكننا أن ندرك ونعرف ونفهم. أذكر كل هذا واستفيض قليلًا، لكي أعود إلى ما سبق أن قلته بأن هذه المعرفة بموسيقى إنيو موريكوني كانت معرفةً بما سبق أن عرفته من موسيقاه، وإن لم أعرف أنه مؤلِّفها. اكتشفت على مر الزمان أن هذا كله صحيح: تأملت تجربتي هذه، فاكتشفت أن موسيقى الأفلام التي كانت تأسرني في صباي منذ الثانية عشرة تقريبًا، كانت من تأليف ذلك المؤلف الموسيقي العظيم.. من بينها فيلم The Sicilian Clan (1969) من تمثيل ممثلين آسرين لشعوب العالم كافة في عصرهما. كان هذا الفيلم من تمثيل آلان ديلون الذي لا يزال يحيا بيننا شاهدًا على عصره في التمثيل السينمائي، فضلاً عن ممثل آخر كان عملاقًا في تاريخ السينما الفرنسية هو جان جابان! ولكن الصورة السينمائية ليست كغيرها من الصور التي يمكن إنتاجها من خلال الأدوات التكنولوجية: إنها صورة حقيقية، أعني أنها تمثل روح أو جوهر العالم الذي يتجسد في أسلوب الحياة والشعور من خلال تجربة حية معيشة. كما أن أدوات هذه الصورة من تمثيل وتصوير وموسيقى ومونتاج، تضفي على هذه الصورة تأثيراً طاغياً يظل ممتداً عبر الزمان، كما لو كانت هذه الصورة تظل شاهدة على روح عصر ما. فضلاً عن أعمال الموسيقى التصويرية الخالدة التي كانت هي البطل في روائع سينمائية أخرى مثل: فيلم «حدث ذات مرة في الغرب»، و«حدث ذات مرة في أميركا»، و«الرسالة»، و«المصارع» الذي تابع موسيقاه على شبكة المعلومات أكثر من 82 مليون شخص. ليست موسيقى الفيلم مجرد حلية سينمائية، بل هي جزء من نسيج الفيلم. ومع ذلك، فإن الموسيقى التصويرية العظيمة يظل لها حضور قائم بذاته، باعتبارها تنطوي على جمالياتها الخاصة. إنها عمل فريد يبدو كما لو كان مباطناً ومفارقًا للفيلم في الوقت ذاته، وهذا سر سطوتها وقدرتها على تمارس سحرها حينما يتم عزفها منفردة من خلال العرض الأوركسترالي. كم من مرة اكتشفت أن هذه المقطوعة الموسيقية التي كنت انصت إليها بتأثر بالغ عبر البرنامج الموسيقي الذي يبثه الراديو، ما هي إلا الموسيقى التصويرية التي استمعت إليها من قبل في مرحلة الصبا من خلال الفيلم، إنها الموسيقى التي تنتمي إلى ذلك النوع من الأفلام الذي غزا العالم. وهي أيضاً تلك الموسيقى التي استمتع بها الآن من خلال حالة جمالية منذ أمس الأول أثناء رحلة صيد في عرض البحر. اكتشفت أن ما أحببته وما بقي في ذاكرتي عبر هذا الزمان الطويل، هو أن: الموسيقى التي أحببتها من خلال التأمل والدرس الفلسفي، هي الموسيقى نفسها التي كنت أستمتع بها في كل لحظة من لحظات الزمان الجميل، حينما كنت صبياً غريراً وشاباً يافعاً لم يستغرقه التأمل بعد. روائع إنيو موريكوني الفيلم الذي فتنني في سِن الثانية أو الثالثة عشرة تقريبًا هو فيلم الطيب والشرس والقبيح (The Good, the Bad, and the Ugly)، بطولة: كلينت إيستوود، لي ?ان كليف، إيلي ولاش، ومن إخراج سيرچيو ليوني، فضلًا عن البطل الأكبر غير المرئي في هذا الفيلم وهو إنيو موريكوني الذي وضع الموسيقى التصويرية لهذا الفيلم ولغيره من الأفلام العظمى في تاريخ السينما. ما فتنني في هذا الفيلم هو الموسيقى التصويرية. لم تكن مداركي آنذاك تتسع لفهم معنى الموسيقى التصويرية، ولا لأن أعرف أن موسيقى هذا المؤلف العظيم أوسع كثيرًا من هذا الفيلم، لأن موسيقاه التصويرية تشمل روائع عديدة في تاريخ السينما العالمية، بل إنها تتجاوز حتى حدود الموسيقى التصويرية لتلك الروائع من الأفلام التي ستظل محفورة في ذاكرة التاريخ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©