الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ليو فيري... البحر الذي أغلق كتابه

ليو فيري... البحر الذي أغلق كتابه
18 ابريل 2018 21:08
آلان سويد* ترجمة: أحمد حميدة لقد مات الملك ليو، ليس ذلك الذي تفوح منه الروائح الممتزجة للمحار البحري والبخور، وإنما ذاك المشاكس اللاذع، المستفز الطفولي، وصاحب الكلمات النارية، المتقدة والموجعة. لقد مضى ليو فيري، ولا شك في أنه قد حمل معه الكثير من أوجاعنا واهتياجاتنا وحنقنا بأننا عشنا كما لم نرد نحن أن نعيش. متنبئ الزمن الذهبي، كان ليو يقيم بوطن الترقب والنسيان، رجْلٌ في الفن والأخرى على الأرض المرتجة لليومي البائس والسقيم، ولكن دوما بقلب مترع بالمحبة والوفاء؛ ويكون في رحيله قد التحق أخيراً بـ«بيبي»، بقرده، رفيق عمره وشقيق روحه، في يوم لا هوية له، هناك في توسكاني، وسط ضجيج موسيقا نحاسية لا تستنفر غير الأغبياء. مؤرق في عالم يغط في الشخير، بقي ليو على قيد السهر لساعة متأخرة، ليتركنا بوجوه متخشبة ولكنها نقية، أمام زمننا الراهن المشوه الملامح، الممعن في العصاب والاختلال. فمن سيعيد رتق العالم والأشياء من بعده؟ لقد بات البلاستيك ينخرنا. ومع ذلك، فعندما كانت الحماقة تجثم بكلكلها، ثقيلة وواطئة كالغطاء الفولاذي، كان أولئك الفارون من وجه العالم الجنائزي، يلوذون بنصوص ليو، يتداولونها أحياناً في الخفاء، وكأنها تنطوي على كلمة السر للعبور إلى الصيحة، لمقاومة ومجالدة غباء العالم. متوطناً على هامش المجتمع، كان يجعل الكلمات تصطفق وتطقطق على إيقاع موسيقات فصيحة، وفي غالب الأحيان آسرة، إذ كانت دوماً تنبثق من جوف صناديق الموسيقا لزمن عتيق.. زمن الطفولة. أحياناً ما تقبل فشله كقائد أوركسترا كشتيمة صوتية، ولكن ذلك الفشل منحه حنفيات يترقرق منها الماء الدافئ للكمنجات؛ وسعادته الطفولية أمام الأوركسترا السمفوني ستنسيه كل شيء؛ وإني لأظـل أرقب مجيء إيفري غليتيس، وأراه وهو يقبـل على فيري ويفاجئه برقة، حتى حيث هو الآن، ليلحظ ابتسامته الممتزجة بالدمع أمام القيمة الأرفع شأناً لديه: الصداقة الحميمة. لقد استطاع أن يحمل عالياً أبولينير، بودلير، رمبو، أراغون.. فأنزلهم إلى الشارع، وهو المحرض للناس والمستفز للذكاء. ففي ماي 1968، أقبل عليه جمهور المنتفضين، ووهبه شباباً متجدداً، بعدما عاش لفترة طويلة متخفياً وراء أبواب الحانات وأهوسة نهر السين. كان يعمل على فك قبضة الاستبداد، ويرفع صوته الراعد ليصرخ في وجه كل قبح، ويعصف ضد كل ما ينتهك كرامة الإنسان؛ وفي خضم الأمواج العاتية لنصوصه المطولة، كما من الكلمات المدهشة، من الشعارات المتوهجة، من الكلمات المُطمئنَة... كم من صهيل «لأغنيات الليل، حين يغدو كل شيء لا يطاق»، حين ننسى الجوع في أيام المسغبة. لقد مضى هذا الأسد بلبدته الفضية، تاركاً ظله الوارف والمنعش؛ لعله مضى ليلتقي الماء «ذلك الجليد الذي لا يمكث.. تلك الحقيقة المبللة»، ماء الهناك، ذلك أن أنهار كلماته تظل فراديس بديعة ورشيقة دائمة الفيض. البعض اتكل على السماء، وهو لم ينظر إليها. البعض الآخر حمل النار، فأحرقنا واحترق بها.أما ليو فيري فهو ماغما العالم، بركان يلقي حمم كلمات حمراء وسوداء، ولم يخمد البتة؛ بركان يبعث الدفــء في عظامنا وأرواحنا، ولا يتوقف عن إخصابنا، وعلى حممه تنبت سنابل كلماته. يظل حضور ليو حضوراً مكثفاً، ولو صادف أن ركعنا أمام الحياة واستسلمنا لوهجها الزائف، فإنه سيجرؤ على الزئير بداخلنا. إنه يتركنا كيما «نزهر من جديد ونجابه الصقيع بقلوب سخية ومعطاءة»؛ فليو هو الربيع في مواجهة الكوارث، وضحكة طلقة في جوف الليل؛ ولئن كان مزعجاً، فإنه كان نزيهاً، كريماً ومتسامحاً حد الروعة وبلا حدود. لقد مضى ليوفي الأخير، وصدى ضحكته المستفزة، لا تزال تدوي في الأروقة، وعيناه اللتين كانتا تدمعان كلما اشتد التوحش في العالم، ستظلان بحاجة إلى من يكفكفهما ويواسيهما. في جنازة المنفي، كان المنفي يتقدم الموكب. هذه المرة، كان فيري هو الذي في الطليعة ونحن منْ وراءه، و«إن ذلك التأرجح اللعين ليعدل ساعة قلوبنا». لقد ذهب، ولكن «البحر هو الذي أغلق كتابه».. لقد كنت أحبك يا ليو، وكنت تعلم ذلك.. من أزاهـير ليو فيري عند مفترق طريق مأهول بالأحزان يمضي الزمان.. يمضي الزمان وكأن الذي كان.. ما كان. ننسى سيماء الوجه ونذهل عن نبرات الكلام، عن القلب الكليم.. المعنى الذي توقف عن الخفقان، وعبثاً يرتفع السؤال.. فلندع الزمان يمضي إلى حيث كان يمضي الزمان وكأن الذي كان.. ما كان. يتوارى ذلك الذي كنا نعشقه، وعند انثيال المطر نتعقبه، ذاك الذي كنا في انخطاف البصر نلمحه، ما بين الكلمات وفي ثنايا الأسطر نرقبه، وتحت مساحيق وعود خادعة يغيب في صقيع ليل النسيان. يمضي الزمان وكأن الذي كان.. ما كان. حتى ذكرياتنا الرائعة تغدو ابتسامتها ذابلة.. واهنة وبريقها لا يني يبهت على مر الأيام، وعبثا أقلب في المتحف رفوف الموت، عندما تمضي المحبة وحيدة يوم السبت، يمضي الزمان وكأن الذي كان.. ما كان. يمضي ذاك الذي كنا نتشبث به، ومن أجل زكام أو لا شيء، نلتمس له الأعذار، ذاك الذي كنا سنهبه أرواحنا سخية.. بأبخس الأثمان، ذاك الذي كان يتسكع أمامنا كما تتسكع الكلاب في زحمة الأيام. ويمضي الزمان ويمضي معه كل ما كان. ننسى عواطفنا وننسى صفو الكلام وأصوات الناس الطيبين التي كانت تهمس في آذاننا، لا تعد متأخراً وإياك أن ينال منك البرد، عند مفترق الطرق المأهول بالأحزان. يمضي الزمان ويمضي معه كل شيء، ونشعر بأننا غدونا شاحبين كالجواد الذي أقعدته السنين، ونشعر بأننا أضحينا مسمرين في سرير دفعت به لنا الأقدار، وقد نشعر بأننا بتنا وحيدين، ولكننا بسلام هانئين ثم... يغشانا ضباب السنين، عندها.. سيمضي الزمان ونفقد بمضيه شغف المحبين. الشعراء إنهم أناس غريبون، يعيشون مما يكتبون أو أنهم لا يعيشون، فذاك أمر متروك لإيقـاع الفصول إنهم أناس غريبون يعبرون الضباب بخطى الطير، وتحت جناح الأغاني يمضون تحت جسور السين يقيمون، وأرواحهم معطلة نقودهم مودعة في كتب لا يبيعون وزوجاتهم في مكان ما ترددن أهزوجة رتيبة عن الحب الجريح وعن الفاكهة المحرمة يضفون ألواناً على رماد حجر الرصيف ويخالون أنفسهم فوق سطح البحر حين يمشون بأشرطة زاهية، الأبجدية.. يطوقون ويُخرِجون كلماتهم إلى الشارع، ترافقهم وهم يتسكعون لهم أحياناً كلاب، رفقاؤهم في الشقاء يلعقون أيديهم التي قدت من ريش ومودة وصفاء وفي أنوفهم، ثابت هو ذاك الضياء، الذي يرشدهم ويقودهم إلى مرابع اللامنتهى إنهم أناس غريبون، يعشقون.. ويتأملون الأزهـار ويرون في طياتها ابتسامات لنسوة جميلات إنهم أناس غريبون يغنون للفواجع والشقاء على بيانـو القلب وكمنجات روح يعتصرها العناء سواعدهم المنتوفة تتذكر الأجنحة التي سوف يعلقها مخبرو الأدب فيما بعد فوق صندوق القمامة.. وعلى أطيافهم المجمدة حيث ستمعن في الموت.. ثمناً لما يبدعون إنهم يمشون في اللازورد ورؤوسهم في المدن ولِمُباركة الجياد، يعرفون متى يتوقفون إنهم يمشون وسط الرعب ورؤوسهم جزرٌ لا تطالها أرواح الجلادين والقتلة المبيدون لهم فـراديس يراها الآخرون أسحاراً خادعة وفي السجن، تودع رباعياتهم الرخيصة البائسة كما لو يصفد صرح بأكمله لأن البرجوازية أضحت حبيسة المياه الجارية ذلك الجرح.. حيث يموت البحر في الجسد المنتهبْ، وتمضي الحياة لتبرعم في رمضاءَ من لهبْ ذلك الجرح الذي يحول بياض مهد الطفولة إلى وجع مقيم وفيض من دماء لتنغلق عليه وهدة القبر المعتمة.. الصماء، من ذلك الجرح.. أنا آت. ذلك الجرح الذي منه تسافر شفتاي إلى حيث إشراقة الشغف، حيث رجْعُ حُمَاك شبيه بقرع الطبول، فيه تغدو كرومك إلى حيث تُعتصر الأصابع، لتنبثق الصرخة المستعادة مشبعة بالمرارة والذهول من ذلك الجرح.. أنت تأتين. ذلك الجرح الذي لا ينغلق إلا عند تخوم الضجر، كحفر على جبين الليل المستعر بالشرر، لا يتوقف عن الانفتاح من جديد تحت وابل من دموع حرّى يشحذها ألم مجدول بشوق جارف.. مديد. ذلك الجرح الذي، كالشمس، يشع على ظلام العزلة والخواء، كحديقة لا تفتح إلا متى أغبشت ظلمة المساء، كعطر يتلكأ حين المد كابتسامة في وجه القدر وتصاريفه المبهمة الخرساء من ذلك الجرح.. أنا آت. ذلك الجرح الذي يُسْتر تحت لفائف مخملية، وحيث يمضي مهندسو المصائب لتشييد فواجع مدعومة.. من كل أسى وبلية، ذلك هو الجرح الذي أنت منه تأتين. ذلك الجرح الذي يراد له أن يغلق وسط تباريح الحنين برتق للفرح الذي شرذمته السنين والذي يراد له، وللأبد، أن يوصد كبوابة مشرعة على موت بطيء.. حزين. ذلك الجرح هو الذي لا ينفك يقتلني، إنه جرحي أنا، جرحي الذي لا يهدأ ولا يستكين. ترجمة: أ. ح. * شاعر فرنسي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©