الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ملاطفات في حضرة الشيخ زايد

ملاطفات في حضرة الشيخ زايد
9 سبتمبر 2009 23:40
قبل وصولي إلى أرض دولة الإمارات عام 1971، كنت مولعاً بقراءة التاريخ العربي وقصص الخلفاء والأمراء والرجال العظام الذين تركوا بصماتهم واضحة في صفحات تاريخنا العربي المجيد. ولم أكن أتخيل أنني سأعيش في جو لا يختلف كثيرا عن الجو الذي صنعته مئات بل آلاف الصفحات التي قرأتها. كنت على سبيل المثال معجباً بسيرة معن بن زائدة أمير الحلم العربي والذي كدت أشك في إمكانية وجود شخصية مثل شخصيته يصغي إلى شاعر هجاء سليط اللسان وأمام جمع غفير من مجالسي الأمير، فلا يتولاه الغضب ولا يصدر حتى ولو إشارة بسيطة لتأسر ذلك الشاعر المتهور بالسكوت أو الانصراف. بل على العكس من ذلك يكرم ذلك الشاعر ويحصل على الجوائز التي قد لا يحصل عليها الشاعر المادح. لماذا؟ لأن معن حليم، واسع الصدر، لا يغضب رغم أنه قادر على قطع رأس ذلك الشتام ولن يلومه أحد لو فعل. تخيل شاعرا يدخل إلى مجلس أو ديوان الأمير معن بن زائدة فلا يلقي السلام بل يقول بكل عنجهية وكثير من التحدي: أتذكر إذ لحافك جلد شاة وإذ نعلاك من جلد البعير يرد معن: أذكره ولا أنساه فيتمادى الشاعر بالسخرية قائلا: وعلمك الجلوس على السرير فلا يرد الأمير معن بن زائدة إلا بابتسامة قائلا: إن الله يعز من يشاء ويذل من يشاء وهنا يتواقح الشاعر الهجاء فيقول: ولو جار الزمان على الفقير فيقول معن دون أن يحجب ابتسامته: إن أقمت فمرحبا بالإقامة وإن رحلت فمصحوبا بالسلامة وهنا تصل الوقاحة بالشاعر إلى درجة الشتم المباشر فيقول: فجد لي يابن ناقصـة بمال فإني قد عزمت على المسير وأية شتيمة أكبر من تغيير اللقب من ابن زائدة إلى ابن ناقصة وهذا يثير تساؤلي: لماذا لم يقم معن بن زائدة بإشهار سيفه وقطع رأس ذلك الصعلوك الذي يشتم الأمير دون سبب، إلا الهجاء. التاريخ خلد صبر معن على الشاعر، وسمى ذلك الصبر حلما، والحلم أعلى درجات الكرم. وبدلا من إشهار سيفه رفع صوته قليلا ليقول لمساعديه: أعطـوه ألف دينار. يأخذ الشاعر الدنانير فيزداد شراسة ووقاحة وتهجما ويقول: قليل ما أتيت به وإني لأطمع منك بالمال الكثير يقول معن: أعطوه ألفي دينار عندها يخر الشاعر على ركبتيه طالبا من معن أن يسامحه ويعفو عنه فهو لم يفعل ما فعل ولم يقل ما قال إلا لرهان بينه وبين بعض القوم على إغضاب معن فإن نجح أعطوه مائة بعير. وتنتهي القصة بقول معن: أعطوه مائتي بعير وهكذا خلدت صفات الجود والحلم معن بن زائدة وجعلته حديث الأجيال، وهذا ما لم يحدث لكثير من الملوك والأمراء الذين لم يتركوا خلفهم ما يذكر بخير أو بشر. ..وأمير الحزم لم أكن أتخيل أنني سألتقي بسيد وأمير آخر للحلم في أبوظبي عندما وصلت وعملت في الإذاعة والتلفزيون وقربني هذا العمل من ذلك السيد أو الأمير المغفور له بإذنه تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. كان رحمه الله في ذلك الزمن نموذجاً للفارس العربي فهو من الناحية الجسدية يتمتع بقامة فارهة، وصدر عريض، وقوة واضحة. ورغم أنني شخصياً في ذلك الزمن كنت في بداية العقد الثالث من العمر، ولدي سجل رياضي حيث كنت أمارس رياضة الملاكمة العنيفة، إلا أنني شعرت بتلك القوة، عندما أحب رحمه الله أن يمازحني وأنا أصافحه فضغط على يدي حتى كدت أصرخ من شدة الألم ولكنني تماسكت قائلا: ـ يدي فداك يا طويل العمر، هشمها. فضحك وأرخى قبضته، وأدركت أن قوته التي تحدث عنها الرحالة تسيجر كانت خارقة ولم تكن لدى تسيجر أي مبالغة في وصفها. أذكر مرة أخرى في غنتوت أن الأخ ناصر الجعبري تعرض لموقف مشابه، حينما أحب رحمه الله أن يمازحه عندما صافحه وكان غفر الله له يجلس في سيارته الرنج روفر فما كان منه إلا أن شد قبضته على يد ناصر وأمر السائق أن يسير ببطء وهو يجر بيده ناصر الجعبري وكان ناصر عداء وجاء كمدرس رياضة إلى أبوظبي ولم نكن نسمع إلا صرخات ناصر الذي اضطر للعدو إلى جانب السيارة: دخيلك يا طويل العمر وطبعا لم يكن رحمه الله يقصد أي أذى لناصر، بل كان يمازحه ويترك في حياته قصة ظل ناصر يرويها وسيظل يفعل ذلك حتى نهاية العمر. فروسية الشيخ زايد لم تكن أبدا تعتمد على قوة جسدية بل كان رغم قوته، رقيقاً لطيفاً يبتسم للجميع بدءا من الرجل الذي يصب له القهوة وانتهاء بالملوك والرؤساء. كان زايد قريبا بصبره وحلمه من معن بن زائدة ولذلك أحسن حتى إلى الذين أساءوا إليه. لم يكن ينتقم لنفسه أو شخصه، بل كان صارما في محاربة الفساد ومقاومة أولئك الذين يعتدون على قيم وعادات المجتمع الفاضل الذي كان يبنيه في دولة الإمارات العربية المتحدة. كثيرا ما قرأنا له مقالات لحاقدين وحاسدين، يهاجمونه شخصيا، فيبتسم وعندما يقترح بعضنا الرد على أولئك ونشر مقالات مضادة يرفض ذلك ويقول: اصبر على حسد الحسود فإن صبرك قاتله النار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله وكم رأينا في متابعتنا الإعلامية من كتاب يرتدون من الهجاء إلى المديح والاعتراف بفضل زايد وبنبل شيمه وعظمة سيرته، لندرك كم كان زايد حكيما في عدم الرد على الإساءة فقد كان واثقا أنه لا يفعل إلا ما يرضي الله وما يسعد الشعب وما يجعل التاريخ ينحني إجلالا واحتراما. كانت فروسية زايد تتجلى في لقاءاته مع أبناء شعبه حيث لا يحجبه عنهم حرس ولا يمنعهم من التحدث معه أحد. وكانت الجرأة التي يتكلمون بها توحي أنهم يعرفون حلم الرجل وثقته بأنهم أبناؤه وبناته، وبأن الصراحة هي خير من السكوت والمجاملة. لذلك كنت أعيش تجارب ذكرتني بقصص وحكايات معن بن زائدة، فقد كان رحمه الله لا يغضب من تلك الجرأة بل يشجعها ويستجيب لأي طلب يقتنع أنه عادل. وقد حققت هذه الظاهرة ما عجزت كثير من المجتمعات العربية أن تحققه في علاقة الشعب مع الحاكم. وهكذا عرفت الديمقراطية بأجمل صورها في علاقة زايد بشعبه، كما لمست الحرية في الرأي والمعتقد تزين كل اجتماع للقائد بشعبه. وعلى هذا المنهج سار الحكم خلال عهد زايد وبعده. وقد رأيت بعد تسلم صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان حفظه الله لمقاليد الحكم في البلاد أن ما أرسى زايد دعائمه استمر ونما وإن الحرية التي أشعر بها وأنا أسجل بعض ذكرياتي عن الأيام الماضية هي نفسها التي نادى بها القائد الراحل. وأتذكر في هذا المجال ما قاله معالي الدكتور مانع سعيد العتيبة في إحدى قصائده الموجهة إلى الشيخ زايد رحمه الله: ما كنت في الحق الجلي مجاملا وكرهت منا الخـائف الرعديدا علمتنـا أن الشجاعة حكمة وعلى الشجاع بأن يكون رشيدا ونصحتنا بالحب حتى نرتقي والله ما عرف الرقي حقودا وجعلتنا في دار عدلك إخـوة وكسرت أغلالا لنا وقيودا وما أشهده اليوم في مجلس صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان حفظه الله وفي مجلس ولي عهده الأمين الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، يرجعني إلى ذكريات لا تنسى، وأجد أنه من الواجب علي أن اسجلها على الورق، عسى أن أكون بذلك قد أديت بعض الدين الذي طوق المرحوم زايد عنقي به. كنت ملاكماً فضغط الشيخ زايد على يدي حتى كدت أصرخ من الألم كنا نقرأ له مقالات لحاقدين فيبتسم وعندما يقترح بعضنا الرد يرفض ويقول: اصبر على حسد الحسود فإن صبرك قاتله خليل عيلبوني
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©