كان الشيخ الرئيس ابن سينا الملقب بالمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، طبيباً ورياضياً وفلكياً وفيلسوفاً، وجعلته إسهاماته أشهر العلماء المسلمين واستحق عن جدارة لقب أمير الأطباء. ولد أبو علي الحسين بن عبدالله بن سينا في «خرميش» إحدى قرى بخارى في أوزبكستان حاليا سنة 370هـ/980م، وتلقى تعليمه الأول في بخارى حيث حفظ القرآن، ودرس أصول اللغة والأدب والفلسفة والمنطق والهندسة وعلم النجوم والطب والطبيعيات، على يد ابن سهل وأبي المنصور الحسن بن نوح القمري، وعرف عنه التواضع والرحمة وعدم البحث عن الشهرة أو المال، وبرز في العلوم العقلية والعلمية قبل بلوغه سن العشرين، وعندما ذاعت شهرته دعاه سلطان بخاري نوح بن منصور الساماني، فعالجه من مرض عجز الأطباء عن علاجه، فقربه وفتح له مكتبته الغنية مكافأة له وظفر بفوائدها•
ويقول الدكتور أحمد فؤاد باشا، عميد كلية العلوم الأسبق بجامعة القاهرة، أن ابن سينا رحل عقب وفاة والده، إلى خوارزم ومكث بها فترة قضاها في التحصيل والدرس ومنها انتقل إلى جرجان، وأقام بها مدة وفيها ألف عدداً من كتبه، منها «الأرصاد الكلية في الفلك»، و»الحكمة العروضية»، وبدأ في تأليف كتابه الشهير «القانون في الطب» غير أن الظروف اضطرته إلى الرحيل إلى همذان، فحقق شهرة كبيرة وصار وزيراً للأمير «شمس الدين البويهي»، وكانت شهرته سبباً في معاناته، حيث أثير حوله الكثير من الوشايات والدسائس في ظل الفتن التي كانت مستعرة بين أمراء ذلك العصر، حتى أنه تعرض للتشريد والنهب والسجن والطرد من العديد من الوظائف العامة، ولم يصرفه عمله السياسي عن العلم فكان في النهار يشغل نفسه بأمور الدولة، وفي الليل يكتب ويؤلف ويقرأ•
250 مؤلفاً لابن سينا
برع ابن سينا في معارف شتى، وخلف الكثير من المؤلفات العلمية التي تتجاوز 250 مؤلفاً في الرياضيات والمنطق والطبيعة والفلك والطب والصيدلة والأخلاق والسياسة. ففي مجال الفلك استطاع ابن سينا أن يرصد مرور كوكب الزهرة عبر دائرة قرص الشمس بالعين المجردة، في يوم 10 جمادى الآخرة 423 هـ/24 من مايو 1032م، وهو ما أقره الفلكي الإنجليزي «جير مياروكس» في القرن السابع عشر• وتعمق ابن سينا في علم الهيئة والرصد، ووضع في الرصد آلات لم يسبق إليها وله في ذلك عدد من المؤلفات القيمة منها كتاب «الأرصاد الكلية»، و»رسالة الآلة الرصدية»، و»الأجرام السماوية»، و»الرصد ومطابقته للعلم الطبيعي»، و»مقالة في هيئة الأرض من السماء وكونها في الوسط»، و»إبطال أحكام النجوم». وقدم ابن سينا في الطبيعيات انجازات عديدة خاصة في مجال الميكانيكا حيث بين أنواع القوى، وعناصر الحركة وحدد قانون الحركة الأول قبل جاليليو واسحق نيوتن، بأكثر من ستة قرون، كما درس الفراغ، وفي علم الجيولوجيا توصل إلى العديد من الحقائق العلمية في تكون الجبال والأحجار الكريمة والمعادن. وناقش تأثير الماء ودرجة الحرارة والرواسب والتحجر والتعرية، كما فسر الزلازل بأنها حركة تعرض لجزء من الأرض بسبب ما تحته، وأن ذلك الذي يمكن أن يتحرك تحت الأرض هو جسم بخاري دخاني قوى الاندفاع، أو جسم مائي سيال أو جسم هوائي أو جسم ناري• كما ابتكر آلة «الونير» وتستعمل لقياس الأطوال بدقة متناهية. وكانت لابن سينا إسهامات جليلة في علم النبات وخاصة النباتات الطبية، حيث أجرى العديد من الدراسات العلمية المتعمقة حول جذور النباتات وأوراقها وأزهارها، كما استطاع وصفها وصفاً علمياً دقيقاً، ودرس أجناسها وتعرض للعناصر المؤثرة في نمو النبات ودرس التربة وأنواعها.
أول من وصف الجمرة الخبيثة
برز ابن سينا بصفة خاصة في الطب، حيث اعتمد فيه على مشاهداته الخاصة فقد كان يعطي التجربة المكانة الأولى، وتوصل بفضلها إلى ملاحظات مهمة مكنته من تحقيق اكتشافات جديدة جعلته أول من تحدث بتفصيل عن دودة سماها الدودة المستديرة، وهي ما يعرف الآن باسم «الأنكلستوما»، ودرس الاضطرابات العصبية وتوصل إلى بعض الحقائق عن طريق التحليل النفسي• وكان ابن سينا يرى أن العوامل النفسية والعقلية لها تأثير كبير على أعضاء الجسم• كما وصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم• وهو أول من اكتشف الفرق بين اليرقان الناتج من انحلال كريات الدم، واليرقان الناتج من انسداد القنوات الصفراوية، وهو أول من وصف مرض الجمرة الخبيثة وسماها النار المقدسة• ومن إنجازات ابن سينا وإبداعاته العلمية اكتشافه لبعض العقاقير المنشطة لحركة القلب• واكتشافه لأنواع من المرقدات أو المخدرات التي يجب أن تعطى للمرضى قبل إجراء العمليات الجراحية• وابن سينا هو الذي اكتشف العلاج الذي يعطى للمرضى تحت الجلد لدفع الدواء إلى أجسام المرضى. كما توصل إلى الطبيعة المعدية للسل الرئوي وانتشار الأمراض عن طريق الماء والتربة ووصف أمراض الجلد والأمراض التناسلية. والطرق الصيدلية لتحضير الأدوية وبلغ عدد الأدوية التي وصفها في كتابه «القانون» نحو 760 عقاراً رتبها هجائياً وكان أول من اكتشف التهابات غشاء الدماغ المعدية، وميزها عن غيرها من الالتهابات المزمنة، ووضع أول وصف لتشخيص مرض تصلب الرقبة والتهاب السحايا وتحدث عن شلل الوجه وأسبابه•
استئصال الأورام السرطانية
وظهرت براعة ابن سينا في علم الجراحة، حيث توصل إلى عدة طرق لإيقاف النزيف بالربط أو إدخال الفتائل أو بالكي بالنار، أو بدواء كاو أو بضغط اللحم فوق العرق، واستطاع إجراء عمليات جراحية لاستئصال الأورام السرطانية في مراحلها الأولى، وشق الحنجرة والقصبة الهوائية، واستئصال الخراج من الغشاء البللوري بالرئة، وعالج البواسير بطريقة الربط• ويعد كتاب «القانون» من أهم مؤلفات ابن سينا وأنفسها وإليه ترجع شهرته الواسعة في الغرب والشرق، حيث ترجمت أعماله إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر، وطبعت عشرات الطبعات في القرنين الخامس عشر والسادس عشر وظلت تدرس في أوروبا حتى القرن التاسع عشر، كما اعترفت بفضل ابن سينا كليات الطب الغربية ومازالت صوره تزين مدرجاتها تقديرا لعلمه واعترافا بفضله وسبقه وقد وافته المنية في رمضان بهمذان سنة 428هـ/1037م•
عدد اليوم
