الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اليهودية وتاريخها السرّي

اليهودية وتاريخها السرّي
25 مارس 2015 21:28
إذا ما أمكننا استعادة أطروحات جان فرانسوا ليوتار (1) ضمن سياق مغاير، نجد أنه يميز بين مفهومين: النزاع Lelitigeوالخلاف Ledifférend. علينا إذن الحديث عن خلاف عربي ـ إسرائيلي وليس عن نزاع أو صراع. ما الفرق بين المفهومين: النزاع يكون حين نتحدث بنفس اللغة وحول نفس المشكلة وتكون بيننا محكمة أو هيئة دولية قادرة على حله. النزاع إذن هو صراع يحل داخل نفس قواعد اللعبة. في حين أن الخلاف هو على النقيض من ذلك تماما، فحينما لا نتحدث نفس اللغة، بحيث تكون هذه الأخيرة عائمة وبدون حدود واضحة، وليس للمفهوم فيها أية قيمة أو مضمون معقول، وحينما لا يكون هناك إجماع حول نفس المشكل بحيث يتخذ تسميات مختلفة كلما تحدثنا عنه. وأخيرا حين تضيع هذه المحكمة القادرة على إيجاد حل سليم لهذه القضية. في هذه الحالة لا يمكننا أبدا الحديث عن نزاع عربي ـ إسرائيلي ولكن عن خلاف لا يمكن أن يعتر من داخل السياسة المعاصرة والنظام العالمي الجديد عن الكلمات القادرة على فضه. الأسطورة والدولة إذا كان الأمر على هذا النحو فما هو إذن هذا الخلاف، وهل يمكن تحطيم جدار اللغة السياسية الرأسمالية المعاصرة من أجل البحت عن لغة أخرى قادرة على الاقتراب منه؟ إن أول شيء يمكن القيام به من أجل هذا الغرض هو العودة قليلا إلى الوراء، فحقيقة هذا الخلاف تطل علينا من أصقاع بعيدة يلعب فيها الموروث الديني دورا أساسيا، فإسرائيل ما هي إلا أسطورة وقد اتخذت شكل دولة. إنها بما هي مشبعة بالأساطير غير قادرة على أن تعيش داخل الزمان المعاصر. فأن تتحول إسرائيل إلى دولة سلام هذا معناه ثلاثة أشياء: أولا: أن تقبل بالسلام كخيار استراتيجي، غير أن هذا غير ممكن بالنسبة إلى دولة لا تستطيع أن تعبئ شعبها وتخلق لهم نوعا من الوحدة والهوية إلا بالتعبئة على العدو الخارجي العربي. بهذا المعنى فالسلام مهدد للدولة الإسرائيلية، لأن تحققه معناه الانتباه إلى مشاكل أخرى من قبيل مشكل الديمقراطية الداخلية والعدالة الاجتماعية وتحديث المؤسسات العامة التي يهيمن عليها الفكر الحاخامي بشكل صريح أو خفٍ. ثانيا: أن يصير لها حدود سياسية واضحة ومعترف بها دوليا وهذا أيضا من الصعب حصوله، لأن أرض التوراة كمفهوم ديني عائم فوق النصوص الدينية تتجاذبه التأويلات والمذاهب الحاخامية، لا يمكنه أن ينزل إلى أرض الواقع، فهو يحمل في داخله تناقضاته واستحالاته. إن الحدود التوراثية يصعب تحويلها إلى حدود سياسية. (2) ثالثا: أن تندمج في الفضاء الشرق أوسطي محددة هويتها باعتبارها دولة شرقية بالأساس. غير أن إسرائيل التي ارتبط وجودها وما زال كذلك منذ البداية بالغرب لا يمكنها أن تتخلى عن ارتباطها هذا لكي تكون علاقات جديدة مع دول الجوار مبنية على أسس التعاون والاحترام. خيانة التلمود إن كل هذا مهدد بل ومخيف لها لأن كل هذه الخيارات لا يمكن أن تتم إلا إذا تخلت إسرائيل عن تاريخها الأسطوري المحرك لها. لقد انفصلت كل المجتمعات بدءا من القرن الثامن عشر عن الأسطورة كي تدخل التاريخ، أما إسرائيل فهي الدولة الوحيدة التي أرادت أن تجعل من التاريخ أسطورة، فأن تتحول أرض الميعاد إلى دولة هذا يعني خيانة للتلمود وللوعد الإلهي. ثمة عدة أدلة على ذلك، فالسياسة الإسرائيلية محكومة بالتأثيرات الدينية الأرثوذكسية التي يتحكم فيها الحاخامات، وهكذا فالصهيونية في نهاية المطاف عبارة عن أيديولوجية قومية استعمارية مغلقة تتخذ طابعا علمانيا تحرريا من الناحية الشكلية، لكنها في الأخير ليست إلا ديانة مقنعة. ما هي إذن هذه الرؤية المغايرة التي نطالب بها ها هنا؟ إننا مع ذلك لا نختزل الصراع العربي ـ الإسرائيلي في بعد واحد هو البعد الديني، إذ تلعب الجوانب الأخرى الاقتصادية والسياسية دورها الواضح؛ ولكننا نؤكد أن هذا الصراع هو في جوهره يستند على أسس لاهوتية أسطورية، تلفعه وتجعله غير قابل للحل السياسي، ما لم تتم مراجعة الأسس الفكرية والعقائدية التي يقوم عليها، وهي أسس تجد مرجعها الأول والأخير في التراث التلمودي والأرثوذكسية اليهودية. إن الصهيونية ما هي إلا استثمار سياسي لهذه العقائد والمواقف الدينية لذلك ففهمها ينبغي أن يتم داخل التاريخ السري لليهودية. تفسير غارودي لقد أشار روجي غارودي بحق إلى هذا التعارض الموجود بين العقيدة الروحية للديانة اليهودية والنزعة القومية الصهيونية (3) فالديانة اليهودية هي كباقي الديانات السماوية المنزلة هدفها تطهير النفس البشرية وتهيئتها لملاقاة الله، أما الصهيونية فما هي إلا استغلال سياسي وقراءة ضيقة لهذه الديانة. علينا أن نميز بين الحاخامية اليهودية واليهودية ذاتها. يهمنا هنا أن نعود إلى هذه النقطة ـ البالغة الأهمية في نظرنا ـ والتي من شأنها أن تكشف لنا عن هذه المغامرة التي قامت بها الصهيونية حينما أقحمت الأسطورة داخل التاريخ وقفزت بأرجل مغلقة من الاستعارات الدينية إلى خارج الوقائع السياسية. يقوم الإيمان اليهودي على مبدأ عام وغامض ـ لكنه يستمد قوته من خلال هذا الغموض بالذات ـ وهو أن كلمة الله التي سمعها موسى على الجبل، ليست سوى الحروف الأولى للسر الإلهي الذي على البشر أن يكملوه ويتابعوه، لأنه بدون هذا الأمر ستظل التوراة كما لو أنها كلام غير إنساني موجه إلى الإنسان لهذا السبب فالشروح والتفاسير والتعاليق، أي ما يسميه اليهود بالمشنا والجمارا Mishna_gemaraلهما نفس القيمة المقدسة أو تفوق قيمة التوراة نفسها، هذه هي «كلمة الله اللامتناهية» التي تظل حية في النفوس، والتي يتم تناقلها بين المريدين والعارفين بطريقة شفوية حتى يتم الحفاظ على قدسية وسرية هذه التعاليم. تجارب وأسرار لقد أقام اليهود تاريخيا مع هذا المبدأ العام علاقات محددة: العلاقة الأولى، تحول معها اليهود إلى شعب منطو على نفسه حافظ لهذا السر الإلهي، الذي لا يمكن الاطلاع عليه من قبل الآخرين، وهذا هو ما جعل اليهودية تفقد ثقتها في اللغة والتعبير وتتحول إلى ديانة للصمت والانتظار، كان هذا هو المعنى الحقيقي لشعب الله المختار، أي الشعب الحافظ لقداسة اسم الله الأعظم، وهؤلاء هم اليهود الأوائل الذين عاشوا في أوروبا وفي باقي العالم والذين كانوا يقبلون الشتات باعتباره تكليفا ورسالة دينية، فالتجربة الإيمانية تعثر على معناها في الترحال والانفصال والتيه. ويعتبر أبراهام بن صموئيل أبوالعافية الذي ولد في اسبانيا سنة 1240م رائد هذا الاتجاه. العلاقة الثانية، دفعت اليهود إلى محاولة فهم هذه التعاليم السرية وتحويلها إلى نوع من الكلام ـ الذي وإن كان لم يفقد غموضه إلا أنه تجرأ كي يحول الصمت إلى لغة ـ وهي العلاقة التي يمكن أن نسميها بالخيانة الإيجابية للسر، ولدينا أمثلة على ذلك أبرزها نص الزوهار الذي كان أول وثيقة مكتوبة في النصف الأول من القرن الحادي عشر من طرف سيمايون بن يوكيه والذي يعده بعض الباحثين كنص مقدس لا يقل أهمية عن التوراة والتلمود. العلاقة الثالثة، جعلت اليهود يدخلون في نوع من التأويل الملتوي والمهرطق لتراثهم، إذ في نظر هذا الاتجاه كيف يمكن أن تتحمل النفس المخطئة والضالة السر الإلهي. هنا تبرز عقيدة الخطيئة المقدسة كمخرج للخلاص ومعناها أنه: «من المزيد من الخطايا سيخرج عالم لا خطيئة فيه» (4) إذ كلما اتجه الإنسان إلى السقوط كلما اكتشف قيمة الخلاص. إننا نعتقد أن الصهيونية في العديد من ممارساتها العسكرية والسياسية، تستمد مبرراتها العامة من هذا الموقف «الإيماني الغريب» بالذات. إنها خيانة سلبية مضاعفة أولا بما هي انتهاك للسر وتجسيد تاريخي ـ وليس سماويا ـ له. وثانيا لأنها تجعل من القانون والشريعة الموسوية أيديولوجيا سوداء لتبرير تقديم شعب بأكمله قربانا أمام مذبح الرب. إن الصهيونية ليست مجرد شعور وطني متحمس، بل هي عقيدة لا تطالب فقط بالحصول على الوطن، بل تطالب ببلورة مفهوم معين لهذا الوطن وهذا يعني أنها لن تحقق مطالبها فقط بالحصول على دولة، بل إن برنامجها هو أكبر من ذلك بكثير. ولكن إذا كان هذا البرنامج أكبر مما يمكن أن يجسده التاريخ، فإن الصهيونية ستظل تبعا لذلك عبارة عن توتر قلق بين الحقيقة التاريخية الواقعية والحقيقة التلموذية المتعالية. يبدو أن الحل العادل للقضية الفلسطينية مازال بعيدا لكننا مع ذلك لا نقول مستحيلا، إذ من الممكن أن يتحول الخلاف إلى نزاع ـ وهذا ما لم ينتبه إليه ليوطار نفسه ـ فتاريخ البشرية ما هو إلا مجال واسع يفض فيه الخلاف نفسه ويصبح عبارة عن نزاع قابل لتسويات واقعية..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©