الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إمبراطورية بلا إمبراطور

إمبراطورية بلا إمبراطور
25 مارس 2015 21:05
لأول مرة في التاريخ يكون هناك شعب بهذا الامتداد ولا تكون له سلطة سياسية شاملة لها تاريخ مثل بقية الأنظمة القديمة. ربما كانوا يعتقدون أن ثقافتهم الجامعة لكل المعتقدات القديمة تغنيهم عن السلطة السياسية، وبالأخص تلك السلطة التي كان يتمتع بها زعماؤهم الدينيون. والغريب أن رؤساءهم ينتخبون انتخاباً، وكانت بعض الانتخابات دموية؛ بسبب شدة المنافسة، ولكن بعد الانتخاب تعود «سلطة العقيدة» إن صحت التسمية، إلى ممارسة تأثيرها. ولا يستطيع المرء أن يزعم أن تهاونهم في السلطة السياسية سبب زوالهم، أو انقراضهم، وإلا عجز عن تفسير سبب انقراض الآشوريين المتشددين في السلطة والحروب الطاحنة، فلم يبق من الشعبين سوى بقية ضئيلة، مضمونة السلامة في إنجلترا، مهددة بالانقراض في الرافدين. التسمية والأصل عدم قيام سلطة سياسية جعل المؤرخين يطلقون عليهم أسماء مختلفة، فالإغريق سموهم السلتيين أو الكلتيين. وكلمة سالت تعني الملح والخبز والبحر والأزميل الذي يستخرج به الملح الصخري... فربما كانوا مشهورين بصناعة الملح وتجارته أو احد المعاني الأخرى حتى أطلق عليهم هيرودوت وغيره اسم السلتيين. أما يوليوس قيصر فقد أطلق عليهم اسم «الغال» أو الغاليين. وهم الذين كانوا يسكنون فرنسا، فغلب عليهم في أوروبا. وتعتبر كتاباته من أهم الوثائق التي وصفت ثقافة السلتيين. أما في بريطانيا فقد أطلقوا عليهم اسم بريتاني. وربما كان اسم «بريطانيا» نفسه مأخوذاً من اسم هؤلاء السكان القدامى، الذين يعود وجودهم في القارة والجزيرة إلى الألف الثاني قبل الميلاد. كما لا يستطيع المرء أن يقول إن هذه التسميات المختلفة التي أطلقت عليهم كانت سبباً في زوالهم، أو كانت على الأقل سبباً من أسباب وهن العلاقة فيما بينهم؛ وإلا كيف يفسر اليوم تدهور العرب وانهيارهم مع أن اسماً واحداً يطلق عليهم، ولهم جامعة؟ أما أصلهم فالمؤكد أنهم هندو أوروبيون. وقد سبقوا الغجر في الهجرة إلى أوروبا من الهند بزمن طويل. وبما أنه لا يوجد عرق نقي في العالم، إلا أن السلتيين ظلوا مميزين بعاداتهم وطقوسهم. أركان الثقافة أهم ركن من أركان ثقافتهم قضية الخلق. فالرب الخالق عندهم يدعى إيسوس. يشبه زيوس عند اليونان وجوبيتر عند الرومان، ولكن هناك فرقاً أساسياً، وهو أنه ليس له أبوان ولا عائلة، فهو مخلوق ذاتياً. واستلهاماً من هذا الركن التوحيدي اخترعوا الأس (كما في ورقة الكوتشينة) أو النقطة رمزاً له. قبله لم يكن شيء وبعده وجدت كل الأشياء. وهو متفرد بهذه الصفة، ولا مثيل له في كل الميثولوجيات الأوروبية. وبما أنه ليس له أبوان، فإنه لا بداية له. وهو الوحيد الذي لا بداية له، أما بقية الأشياء فلكل منها بداية، ولكن ليس لكل منها نهاية. فما وجد لن ينتهي ولن يزول، فالكون خالد، وإن كان في حالة تحوّل. وأما الإنسان فإنه، كما في المبدأ الهندي يتقمص بحسب أعماله. وباختلاطهم مع الأقوام الأخرى أخذوا منهم بعض الآلهة إما بأسمائها، أو بأسماء أخرى، فمن الآشوريين أخذوا بعل، فحرفوا اسمه قليلاً «بيل» أو «بيلين» وعبد كإله شمسي، وأقيمت له الاحتفالات. ويزعم ديودورس الصقلي أن بعضاً منهم في جزيرة على الشاطئ الفرنسي في بحر الشمال يعبدون أبوللو اليوناني بكل مواصفاته، وله مقام (سياج من الحجارة الضخمة - بلا سقف طبعاً) وحوله غابة كثيفة. أما توت تاتس فهو تحوت المصري (الملقب بهرمس المثلث العظمة، أي: الرب والملك والكاتب). ومعنى اسمه «أبو البشر» فهو الذي جاء بالحرف والحكمة. وتتألف اللغة من سبعة عشر حرفاً، وتكتب على ألواح تشبه الرونات الإسكندنافية. هذه الشخصية معروفة كثيراً عند الغاليين، ولم تكن معممة. ووظائف توت تشبه وظائف هرمس عند المصريين والفينيقيين. وتفصح وظائف الثقافة الدريودية عن المدى الإنساني في نزعتها. فكلمة دريود تعني «وحي الله» أو «كلام الله» ولهذا رفضوا كتابة الوحي، حتى لا يدنس، فبقي معظم تراثهم شفهياً. والدريود طبقة مهمتها نقل الوحي إلى الناس، وهو وحي لا يتعارض مع قوانين الطبيعة، ووصل الحفاظ على الطبيعة حدّ التقديس. وحتى لا تسيطر الطقوس على عقلية الناس لم يبنوا هياكل ولا شادوا مزارات على غرار ما فعل اليونان والرومان. وكانت هياكلهم عبارة عن حجر كبير جداً يوضع في الوسط يمثل المذبح وحوله سياج من أحجار ضخمة، من دون أن يكون له سقف، فلا يجوز حجب السماء والكواكب عن الأرض، فالكون واحد، ومن واجب الدريود معرفة الطبيعة الكاملة، أي الأرض والكون، ولذلك كانوا يرصدون حركات النجوم والكواكب وحركة النبات والأحياء لا للوقوف في وجهها، بل للعمل بمقتضاها. وكان الدريود على دراية بعلم الأعشاب، وبخاصة نبات الهدال والبلوط، وأي إهانة للطبيعة إهانة للنفس. وغرض الدريود ألا يحدث «شيء غير طبيعي» لأن ذلك سيجر الكوارث. وأدت هذه الثقافة «الطبيعية» إلى المزيد من السلم الاجتماعي بل التكافل الاجتماعي، وفي كل اجتماع يحق لأبناء المنطقة أن يحضروه ليدلوا بمقترحاتهم، وتحدد المشاكل القائمة لكل فرد ويعملون على مساعدته، من دون أن يتخلف أحد. إلى جانب الدريود كان هناك الدريودات، وهن أقرب إلى المتنبئات والعرافات. لم يكن لهن ذلك الدور الهام في المجتمع، سوى أنهن حافظن على الكثير من التراث الميثولوجي الذي يجمع ثقافات البلدان التي عبرها أو استقر فيها السلتيون. وإلى جانب الدريود كان الكهنة يقومون بإدارة الطقوس في أماكن معينة، ضمن سياج الحجارة غير المسقوف. ويمكن أن تسمى مهمتهم «الربط الاجتماعي» وتدريب الفرد للابتعاد عن «خدش» الطبيعة التي تحددها ثقافتهم في العلاقة مع الأرض والنبات والبشر والجسد الإنساني والعلاقة مع الحيوان الخ.. ومن أهم أركان الثقافة السلتية الشعراء. لم نعلم دوراً للشعر استمر كل هذه المدة كالشعر السلتي. يكفي أن نقول إن المقاتل إذا جبن ولم يدافع بشرف عن بلده يكون أشد عقابه قصيدة واحدة يذكر جبنه فيها. إن هذا يعتبر أقصى عقوبة يمكن أن تلحق برجل. بقية نجم أشد الضربات التي وقعت في الثقافة الدريودية جاءت من مصدرين: الرومان والملك إدوارد الأول. فقد شن الرومان حرباً ضروساً على الغاليين وفرضوا عليهم آلهتهم وديانتهم، ومزقوا كل هيئاتهم الإدارية وشتتوا شعبهم. كانت خطط الرومان أن يهاجموا السكان أكثر مما يهاجمون الجيوش، فبهذه الطريقة يجعلون الناس تنشغل في قضاياها الخاصة، أين يذهبون وأين يسكنون وكيف يؤمنون الطعام واللباس... وقد أثر هذا التجريف الديمغرافي كثيراً في البنية الاجتماعي. وما فعله الرومان في الغال فعلوه في بريطانيا عندما احتلوها، مما أجبر السكان على النزوح إلى الجبال والغابات وضفاف الأنهار في المناطق الوعرة التي لا تدوسها سنابك الخيل. إنها طريقة مبتكرة يجري تطبيقها اليوم في الشرق الأوسط من أجل نقل الملكية من مالك غلى مالك آخر، أو تدمير السلطة الاجتماعية التي كانت الثقافة الدينية تشرف عليها. أشرنا من قبل إلى الوجود السلتي الكثيف في ثلاثة بلدان: ويلز وأسكتلندا وأيرلندا. فأراد الملك إدوارد الأول توحيد البلاد فصمم الإجهاز الكامل على الدريودية بهذه المناطق، باعتبارها ثقافة رفض وانحراف ومعارضة، وإحلال الثقافة المسيحية محلها، على أساس اعتقاده الثابت أن المسيحية سوف تجعل هذه البلدان خاضعة له قسراً أول الأمر، ثم طوعاً آخر الأمر، وبدأ بتهجير السكان من المدن والقرى، بل تابعهم ولاحقهم حتى في الملاجئ الجديدة، واقتحم عليهم حتى الأماكن الوعرة. وكان الشعراء أخطر أعدائه، فأي قصيدة «دريودية» تعتبر خيانة بحق التاج البريطاني، الذي خاض المعارك الصليبية في الشرق ضد أبناء البلاد الأصليين... معركة واحدة على ما يبدو. وقد سمى معركته «مطرقة السلتيين» على غرار «مطرقة الهراطقة» التي أصدرتها محاكم التفتيش. عانت ويلز أكثر من غيرها، سواء من الرومان أو من الملك إدوارد الأول، وكان الشعراء أبرز الصامدين الذين استمروا يحملون الثقافة الدريودية منذ أقدم العصور حتى هذا الزمن. وثابر هؤلاء الشعراء مع الموسيقيين والفنانين ورجال الثقافة في الاجتماعات السرية فترة طويلة من الزمن إلى أن صاروا يقيمون الملتقيات الشعرية والموسيقية والفنية بصورة علنية. لم تنقطع لقاءاتهم، وبخاصة في المناسبات المحددة التي تحمل سمة الثقافة الدريودية، وفي الأعياد الموروثة من تلك العهود الزاهية. صحيح أن التراث السلتي عظيم، وأن دور السلتيين في الميثولوجيا والثقافة عظيم، ولكن ما الفائدة بعد التجريف السكاني ومنع الدريودية من أن يكون لها ممثل أو موظف في الدوائر الرسمية، وبعد أن شتت جيش الرومان وإدوارد الأول شملهم ودمر مدنهم وقراهم، وأفسد الملاط الاجتماعي الذي كان يجمعهم، وقضى على الدين الذي كان يرشدهم؟ بقي من ثقافتهم الأس في الكوتشينة، الرامز إلى الواحد الأحد الذي لم يخلقه أحد ولا أحد يفنيه، والذي لا يموت ولا يزول ولا يتغيّر ولا يتحوّل. وقد شخصوا الأس بخرزة الكهرمان (العنبر) وجمعوا هذه الخرزات في مسبحات تكون حرزاً من كل أذى، وفيها قوة شفائية مثل قوة الهدال للمرضى والمصابين ولكل أنواع العلل. ويجلس اليوم المتقدمون في السن أمثالنا، يتسلى بعضهم بمسبحة العنبر، ويشتم منها الرائحة المنعشة ويسمع دقات خرزاتها دقة بعد دقة، منتظمة مثل ساعة بيغ بن... ولكنه لا يتذكر معنى الكهرمان ولا الثقافة التي أنتجته ولا الشعب الذي استخدمه ولا كيف كان يُقدَم حرزاً للمحارب يعلقه في عنقه... ولا أحد يدري إن كان يبقى لسكان الشرق الأوسط، بعد هذه الحروب، أكثر من سجادة صلاة، كبقية نجم منطفئ. هل نسي العالم «المتحضر» اليوم أن الحب وحده يحترم وينقذ الثقافة والفن والأدب، وليس الحقد والحروب؟ هامش ص 7 شعراء مقاومون لايزال دريود الأقلية السلتية في إنكلترا، يقيمون حتى اليوم احتفال عيد الشمس كل عام في 21 حزيران. ومنذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم ظل الشعراء على عنادهم في مقاومة الثقافة المهينة لثقافتهم وتمسكوا بتراثهم. وكانوا يفخرون بصمود شعبهم في وجه المعتدين. ففي إحدى المناسبات (مناسبة ستدفود: لقاء شعراء ويلز في لندن) ألقت الشاعرة المسز هيمانس قصيدة استعرضت فيها نضال الشعب السلتي، ووصفت كيف كانوا يعانون من الرومان وبقية المعادين للثقافة السلتية. قالت تصف الاجتماعات القديمة تحت أشجار البلوط وحول الغدران والأنهار: وسط المنحدرات الأبدية، التي تحدّت قوتها الروماني في أعلى ساعات غروره؛ وحيث النصب القديم للدريود يقطب جبينه، وأشجار البلوط تتنفس الهمسات، احتشد هناك وحي الماضي! على السهل أو المرتفع، في وجه الشمس، تحت مرأى النور، ويحسرون أمام السماء كل رأس نبيل، وقد وقفوا محتشدين في دائرة، لا يمر بينهم أحد. لكن شعراء السلتيين كانت لهم مهمات أخرى إلى جانب هذه المهمة التي وصفتها الشاعرة. كانوا، إلى جانب حماية التراث والتقاليد، يحرصون على نقل الوحي وقوانين الطبيعة وما تمليه أجرام السماء، وما يرسمه الدريود...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©