الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ترميم الممكن

ترميم الممكن
25 مارس 2015 21:31
كانت هذه الأسئلة وغيرها من رؤى واقتراحات حول راهن الفن المعاصر واختباراته، هي المدخل الأساس لقراءة الأعمال الفنية العديدة والمتنوعة في مبناها ومضمونها والتي قدمتها الدورة الثانية عشرة من بينالي الشارقة المنطلقة فعالياتها في الخامس من شهر مارس الجاري، والمستمرة حتى الخامس من يونيو 2015. مجسّ قياس ربط البينالي مدار أعماله المستضافة والأخرى المخصصة للحدث بشعار: «الماضي، الحاضر، الممكن» ليتحول هذا الشعار بالذات إلى بوصلة استشراف ومجسّ قياس للحدود التي يمكن أن يخترقها الفنان للتعبير عن رؤيته الخاصة للوجود وسط هذا الهدير البصري الجارف، ووسط هذا الهدر المفرط للبراءة الأصلية، والاستحاكمات الصعبة لجنون التحولات الاجتماعية والسياسية في العالم، وفي المنطقة العربية والشرق الأوسط تحديدا خلال السنوات الأربعة الفائتة. وفي كلمة الشيخة حور القاسمي، رئيس مؤسسة الشارقة للفنون، ما يمكن أن يكثف المسار التوصيفي للأعمال المشاركة، والذي جعله البينالي هذا العام مزدحما باقتراحات فنية واعدة، حيث تقول الشيخة حور: «إذا أردنا مقاربة مشروع الشارقة الثقافي انطلاقاً من حالته الراهنة، أو من خلال مفهوم «الحاضر» الذي تحقق بوصفه حالة مستمرة من التطوير والإضافة، لوَجَدنا أنه يمثل اللحظة الفارقة التي تجمع في نسيجها بين إبداءات الماضي وإلماحات المستقبل.. وأنّ تلك اللحظة تُشبِهُ إلى حد كبير اللحظة الإبداعية الخالصة، فهي تعبير عن مخزون تاريخي قد يمتدُّ إلى عهود سحيقة ويُضيء في الوقت نفسه مساحات ملهمة ومنفتحة على فَضاءات الاحتمال والممكن». وحسب قيّمة البينالي- الفنانة والناقدة أنجي جو ـ فإن الطبيعة الديناميكة لشعار: «الماضي، الحاضر، الممكن» يتطلّب الحاجة لمشاركة فنانين لهم دور نافذ وفعّال في القدرة على تخيّل هذا الممكن، واكتشاف الحالات أو الحلقات الافتراضية المفقودة في هذه الأرض التي شغلها الإنسان قبل 125 ألف عام- اعتمادا على التنقيبات الأثرية والبحوث الأركيولوجية- إلى أن أصبحت الشارقة عضوا في اتحاد الإمارات اليافع، وتواصل مشروعها بحيوية وقوة في إطار التعليم والثقافة والعقيدة والتراث والعلوم. وامتدادا لهذه المسيرة قام البينالي بدعوة أكثر من خمسين فنانا ومتخصصا وناقدا من 25 دولة ليكونوا جزءاً من هذا المشروع، وتقديم أفكارهم الخاصة حول: «الممكن» أو «صورة المستقبل» في هذه المنطقة المشبعة بطموحها وحيويتها ومناخها الكوزموبوليتي، من خلال أعمالهم الفنية ودراساتهم وأبحاثهم التي تنبع من إتجاهات وتيارات الفنون المعاصرة وخصوصا تلك المتعلقة بالأعمال التركيبية وفنون الأداء والنسق البصري التجريبي والفيديو آرت، مع عدم إغفال الأعمال الفنية المستعادة لمبدعين روّاد في الإمارات والعالمين العربي والإسلامي، بالإضافة إلى فنانين من القارات الخمس ساهموا مبكرا في تطوير الأساليب والتقنيات الفنية الحديثة. وتذكر القيمة الفنية للبينالي في السياق ذاته أن المكان الذي تتمازج فيه هذه الإبداعات المبتكرة يرتبط بأواصر وثيقة بمستقبل الإمارات الآن عبر التطوير المدني، وترميم المواقع التراثية، والاقتصاد الانتقالي المستقل، والثقافة اليومية المتنوعة، لتشكيل بنية تفاعلية لمثل هذا التفكّر وسط فيض من الأعمال التجريدية الحديثة، بعيدا عن اليقين السردي، وقريبا من التناظرات غير المتوقعة والعلاقات المحتملة بين الأنماط والتساؤلات الوجودية في هذه اللحظة المضطربة من التاريخ البشري. فنون أدائية امتدت خارطة البينالي على مساحة بصرية واسعة ومشتبكة بيوميات الحياة والذاكرة القديمة للأهالي، مثل المواقع الداخلية القريبة من قلب الشارقة، وصولا إلى المعاهد والمتاحف والأسواق والمباني التراثية، وحتى أقصى المناطق التابعة للإمارة مثل مدينة كلباء، حيث تحتل أعمال الفنان أدريان فيلار روخاس كامل مبنى مصنع الثلج القديم، بينما يضم ميناء خالد عملين لكل من الفنان مايكل جو والفنانة أسونسيون مولينوس غوردو. ومبنى الطبق الطائر الذي أقيم فترة السبعينيات يضم أعمال الفنان حسن خان. وسوق الشناصية يعرض أعمالاً تركيبية لكل من الفنان الإماراتي محمد كاظم ومجموعة ميكسرايس الكورية، أما العمل التركيبي المحدد الموقع للفنان أبراهام كروزفييغاس يمكن رؤيته في سوق الطيور والمواشي، وتمتد مجموعة أعمال كبيرة لفناني البينالي عبر المباني الفنية للمؤسسة ومنطقة التراث، منهم الفنان الإماراتي عبد الله السعدي، وإيمان عيسى، وسينثيا مارسيل، وتارو شينودا، وريّان تابت، وهيجيو يانغ. كما تضم المنطقة عملاً بعنوان «عبر خط الطبشور» للفنان غاري سيمونز الذي أقام من خلاله ملعباً للكريكيت خصصه للأطفال، كما أقيمت بعض عروض الأداء في معهد الشارقة للفنون المسرحية، وبعضها ينتقل عبر ساحة الفنون والتراث وواجهة المجاز المائية. كما يضم متحف الشارقة للفنون وبيتي السركال والشامسي مجموعة أعمال تتراوح بين الفيديو والأعمال التركيبية واللوحات، لفنانين معاصرين ومؤسسين، مثل حسن شريف من الإمارات، وإيتيل عدنان وسلوى روضة شقير من لبنان وفخر النساء زيد من تركيا، وتشونغ تشانغ سوب من كوريا. وتم في الدورة الحالية إنتاج ما يقارب ثلثي الأعمال خصيصاً للبينالي ضمن برنامج التكليفات، منها ما هو تركيبي ومنها ما هو أدائي بحيث تلائم طبيعة مناطق محددة من الشارقة، كما ضم هذا الحدث الفني المهم في المنطقة العديد من الأعمال الجديدة، وأعمال أخرى لفنانين تركوا بصمة مضيئة وتاريخاً يؤسس لحنين مختلف وضروري وسط التبدلات الراهنة المرهقة والتدفق المتسارع للصور والأخبار الآنية المشوشة. حديقة التأملات ففي عمل بعنوان «ماء الورد الدمشقي» يقدم ريركريت تيرافانيجا، في بيوت الخطاطين بالشارقة حديقة للورود الدمشقية، تحمل ذات العبق، وفيها فسحة على جدرانها أبيات مخطوطة عن البنفسج الدمشقي. وفي ساحة الحديقة تقدم وصفات شرقية تصنع من ماء الورد الدمشقي. كما قام الفنان بصنع آلة لتقطير ماء الورد مستلهماً ذلك من نموذج يعود إلى القرن الرابع عشر لآلة تقطير ماء الورد التي صنعها العالم والفقيه الإسلامي المعروف «المزي». ويقدم الفنان تارو شيندوا في عمله «كارسانسوي» منصة خشبية مظللة، تحدد النقطة المثالية للنظر إلى فراغات متمددة ببطء في حديقة قائمة على مبدأ الحدائق اليابانية الجافة، وتوفر مساحة هادئة للتأمل. تشريح الواقع وفي عمل بعنوان «إكس واي زد» يقدم لنا الفنان الأرجنتيني إدواردو نافارو عملا فنيا معاصرا يجمع غريزة اللعب عند الأطفال بامكانيات التواصل والتفكير، لإعادة برمجة المهارات الميكانيكية والتحليلية التي تستخدم عادة في الفوز في لعبة ما، يستخدم نافارو هنا كرة ضخمة بلون أزرق قاتم يدحرجها الأطفال معصوبي الأعين على أرضية زرقاء فاتحة، ويتم التعرف على المكان المطلوب لاستقرار الكرة اعتمادا على أجهزة استشعار للصوت والملمس، من أجل تعزيز فكرة التعاون واستثمار عنصر الزمن المتحرك للوصول إلى قيمة معرفية واجتماعية تقهر الانفلات العشوائي للوقت العبثي المهدر والضائع. وعلى وقع الضجيج الاستهلاكي للمهووسين بالتسوق والتبضّع، يستخدم الفنان المكسيكي يان فو في عمله التركيبي الموسوم بــ: «تعال حيث توجد النكهات» مئات الكراتين المخصصة لشحن علب السجائر والشاي بوصفها استكشافا للقيمة والوظيفة والإنتقال، ويستعير العمل عنوانه من إعلان أميركي شهير يعود إلى ستينات القرن الماضي ليشكل الفنان يان فو لعبته المفاهيمية من خلال مزج النكهات المتخيلة للسيجارة ورائحة الشاي مع الصورة الذهنية لجزء من تمثال الحرية في نيويورك، في محاولة منه لتحويل الجشع التجاري وسباق الربح، إلى مادة مرئية متاحة لتشريح الواقع والسخرية منه، وتجسيد الخديعة المشتركة بين البائع والمشتري، وبين المعلن والمستهلك. وفي عمل الفنان اللبناني ريّان تابت المعنون بـ: «قبرص» نرى قاربا خشبيا كبيرا معلقا بشكل عمودي في فضاء الصالة، وبجانب القارب نرى مرساة ضخمة مثبتة على الأرض، ويشير التعليق الخاص بالعمل إلى أن القارب استأجره والد الفنان قبل 29 عاما في محاولة سرية للفرار من لبنان مع عائلته، واستمرت الرحلة نصف ساعة فقط، حيث أدرك الأب أنه لن يستطيع الوصول إلى قبرص، وبدأ الفنان تابت العمل على هذا المشروع حين صادف وعائلته القارب نفسه على شاطئ «جبيل» في العام 2012، ومثل هذه الصدفة الغامضة أثارت لدى الفنان فكرة العلائق الداخلية الخفية بين الإنسان والأشياء المرتبطة بقوة مع ذاكرته البعيدة، إنه في هذا العمل التجسيمي المهيب، يختصر هشاشة الزمن عندما تتحول المخاوف والكوابيس الضامرة إلى حقل من الانكشافات الطفولية، والبحث عن ملجأ تخيّلي، وسط تجاذبات الهلع والاطمئنان، والتيه والاستئناس، والانفلات والالتحام، بحيث يمكن ترميم الممكن وسط هذا الخلود المتلاشي للزمن، فيما يشبه العود الأبدي إلى عصور سحيقة ونائمة في الصمت والعدم. هامش مع ص 14 «تهكميات» حسن شريف مع الأعمال المستعادة للفنان الإماراتي الرائد حسن شريف، والتي قدمها في البينالي، يمكن العودة لبعض النتاجات المبكرة التي قرأ فيها شريف التمايزات الخفية والمتناقضة أيضا بين التفسير الذاتي التخيلي، وبين الشكل الواقعي الصارم بأبعاده المحددة سلفا، مستخدما نموذج «العمود الخشبي» الذي قدمه كعمل فني مستقل في العام 1985 متلاعبا بهيكله التقليدي في سوق الشارقة القديم، باعتباره عمودا يحتمل إجراءات ذهنية بسيطة من قبل الفنان، بحيث تنقله من حالة الثبات إلى حالة الحركة، وبالتالي إخراجه من نطاق الشيئية إلى نطاق الانطباع الحرّ أو التجريد المحكوم بالرؤية التبصّرية المتجاوزة للفنان. ويعبّر شريف في أعماله الأخرى المعروضة بمتحف الشارقة للفنون مثل: «طاولة» و«البرميل» عن صيغ تهكّمية تستنفذ طاقة الفكاهة والمرح، وتتطور إلى نظرة استهجان ونقد للعادات اليومية الاستهلاكية، والأحكام العابرة واللحظية للعناصر المحيطة بنا، إنها الروح القلقة والانفعالات العضوية التي يبثها شريف في الشكل المتعارف والتقليدي، ليمنحه الهوية المتفوقة على العادي والمنغلق في الكمون والغفلة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©