الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ألغاز الزمن ومفارقاته

ألغاز الزمن ومفارقاته
25 مارس 2015 21:05
لن أتحدث هنا عن الزمان بدلالاته التاريخية والميتافيزيقية الكبرى، بل فقط عن الزمن بمعنى محدود. لعل من الصعب تعريف الزمن لأننا نكون في الغالب ضحية من ضحايا اللغة التي توهمنا أننا بمجرد أن نتوافر على كلمة فنحن نعرف الشيء ذاته، فنحن عندما ننتقل من الكلمة إلى الشيء نجد أنفسنا عاجزين عن تعريفه، بل غالبا ما نلجأ إلى تشبيهات واستعارات وتمثيلات. فنحن نأخذ الزمن تارة على أنه محكمة حيث نقول عن الشخص المظلوم إن الزمن هو الذي سينصفه، وتارة نعتبره ملكية (لديه ما يكفي من الزمن)، وتارة ضحية (من أجل قتل الوقت)، وأخرى دواء وبلسما (الزمن هو وحده الكفيل بترميم أو ببلسمة جروحه)، وتارة نعتبره مصارعا جبارا (الزمن غلاًٌََْب)، وتارة بضاعة (لقد صرفت وأنفقت عليه الكثير من الوقت)، وتارة ككماشة ضاغطة (أسرعت تحت ضغط الزمن)، أو كأب (نحن أبناء هذا الزمن)، أو كطائر (على أجنحة الزمن)، أو كوعاء، أو عدٌاء أو طقس أو كسجن أو كقطار أو سهم، وكل تلك تشبيهات تقرٌبُ لنا مدلول ومعنى الزمن، كما تقربنا منه، لكنها تبعدنا عن ضبط معناه ومفهومه العميق، وكأن التشبيهات والتمثيلات هي مجرد حيل نتهرب بها من عسر التحديد. فما هو الزمن؟ هل هو لحظات وآنات تتراوح بين لانهائية الصغر ولانهائية الكبر، لانهائية الأجزاء ولانهائية الكل (ملايير السنوات الضوئية)؟ هل هو مقولة ذاتية في الذهن الإنساني أم هو خصيصة «موضوعية» ملازمة للأشياء الخارجية؟ هل الزمن مجرد وهم، نتخيله ولا ندركه، نفترضه ولا نلمسه لأنه كائن زئبقي، فرار، لزج، مطاط، شبحي، انفلاتي، سرابي يظهر ثم يختفي، فما أن نحاول الإمساك بالحاضر مثلا حتى تتكسر لحظاته، بعضها يسقط في جب الماضي والأخرى تنزلق وترتمي في المستقبل، أم أن الزمن، على العكس من ذلك، هو نظام الأشياء والأحداث وضابطها الأساسي؟ هل الزمن يأتي من الماضي متوجها نحو المستقبل عبر الحاضر، أم أنه يأتي من المستقبل ليصبح ماضيا بعد أن يمر عبر الحاضر؟ أيهما أصوب: التصور التقدمي أم التصور التراجعي؟ ربما كانت هذه التساؤلات هي خلاصة وجوهر النقاش الفلسفي والفكري الذي عرفه تاريخ الفكر البشري حول هذا الموضوع. أشهر المواقف والتحليلات الفلسفية هي آراء ارسطو، كانط، برغسون، هيدجر، أما أشهر التحليلات العلمية، فهي تحليلات غاليلي ونيوتن وآينشتاين وبريجوجين. وإذا ما أردنا التوجيز والتلخيص مع ما يمكن أن يترتب عنه من تعسف، فإننا يمكن أن نقول، إن الفلاسفة على وجه العموم قد مالوا إلى ربط الزمن بالإنسان وبالذات الإنسانية، في حين مال الفيزيائيون إلى ربط الزمن بالأشياء والموضوعات الخارجية رغم أن هذا التصنيف هو تصنيف تعميمي بالدرجة الأولى. أنتقي من مواقف وتحليلات الفلاسفة وجهة نظر فيلسوف فرنسي، كانت مسألة الزمن أحد المحاور الأساسية لتفكيره وهو برغسون، وربما كانت تحليلاته معبرة عن وجهة نظر الفيلسوف والفلسفة بصفة عامة. يميز الفيلسوف بين نمطين من الزمن متباينين كليا: الزمن الفيزيائي الرياضي وهو زمن مجرد، أي سلسلة متلاحقة من الآنات المتماثلة المستقلة عن بعضها، والقابلة للعد والتكميم عبر مقاييس مكانية: إنه زمن كمي مؤمكن، مكاني. وهذا هو زمن الفيزياء والظواهر الطبيعية. أما الصنف الآخر من الزمن، فهو زمن كيفي، معيش في الشعور ومستبطن سمته الأساسية الديمومة أو الكثافة الشعورية التي هي عبارة عن آنات متداخلة تقوم على آليتين نفسيتين، هما الاحتفاظ باللحظة السابقة واستشراف اللحظة الآتية. فالزمن الشعوري هو تلك السيرورة الكيفية التي يعسر فيها التمييز بين اللحظات، فهو زمن اتصالي وليس زمنا انفصاليا. الصنف الأول من الزمن تبلور في العلوم على وجه العموم، وفي الفيزياء الحديثة خاصة. ولعل أول لبنة في هذا التصور تعود إلى غاليلو الذي أدخل الزمن كمعامل (parametre) في حساب سقوط الأجسام مما يعني إضفاء طابع رياضي على مفهوم الزمن. واللحظة الثانية في هذا التصور تتمثل في فصل نيوتن فصلا مطلقا بين الزمن والمكان. واللحظة الثالثة هي تدخل آينشتاين رافضا الفصل النيوتوني بين الزمن والمكان مؤكدا على الترابط العضوي بين المكان والزمن (الزمكان) مبينا أن الزمن يتوقف على المكان أي على سرعة وموقع الملاحظ. هذه التصورات العلمية تصب في مجملها في اتجاه دعم التصور»الموضوعي» والخارجي للزمن. وبذلك يكون العلم مساهما رئيسيا في التفكير الأبدي في هذا اللغز المحير في إطار حوار وتعاون فكري رفيع المستوى بين الفلسفة والعلم. لكن بجانب مسألة مدى ذاتية أو موضوعية الزمن هناك قضايا أخرى يسهم كل من العلم والفلسفة لا أقول في حلها، بل فقط في تسليط المزيد من الضوء عليها. فقد توصلت العلوم الفيزيائية إلى ضبط وقياس وتائر الزمن الموضوعي ابتداء من عشر الثانية إلى جزء من المائة من الثانية، إلى ميكرو ثانية أي جزء من المليون من الثانية، إلى نانو الثانية أي جزء من المليار من الثانية، إلى جزء من ألف مليار من الثانية، انتهاء بما يسمونه فيمتو ثانية أي جزء من مليون مليار من الثانية. ولعل أهم المكاسب التي راكمتها المعرفة العلمية حول الزمن هي كونية الزمن الموضوعي وتجانسه، وتلاحقه، وعدم قابليته للإرجاع، ونظمه للأشياء والأحداث، وقابليته للقياس والترييض، وانتسابه للمكان.... لكن «مفهوم» الزمن، لم يتخل مع ذلك، عن كل ألغازه ومفارقاته. وأولها مسألة وجود الزمن في حد ذاته، هل هو كائن متميز عن الأشياء والأحداث، له كيانه وسماته المميزة؟ أم هو شبح أو سراب نفترض وجوده لكن ما أن نحاول ضبطه والإمساك به حتى ينزلق ويفر، فالماضي شيء مضى وانتهى والمستقبل في حكم الغيب لأنه مشروع وجود من حيث إنه لم يوجد بعد. أما الحاضر فهو مكسور وممزق بين ماض هو في طور الانصرام، ومستقبل لم يأت بعد وكأنه يمارس علينا لعبة ماكرة من الحضور والغياب، من الظهور والاختفاء. وإذا افترضنا وجود الزمن فهل هذا الوجود نفسي أم فيزيائي ذاتي أم موضوعي أم همان؟ وإذا افترضنا أنه موجود هو في حالة تغير ومرور مستمر. فهل الذي يمر ويتحول ويتغير هو الزمن نفسه أم ما يحدث في الزمن؟ فالزمن ثابت وباق وما يتغير هي الأحداث والوقائع التي تحدث فيه؟ أليس القول بتغيره هو ضرب مـن الخلط بين الشكل والمحتوى، بين الإطار والمضمون، أي بين الزمن وما يحدث في الزمن؟ ثم من الذي يملك الآخر؟ هل نحن هم الذين يوجدون في الزمن أي في ملكية الزمن، أم هو الذي يوجد فينا أي أنه في حوزتنا؟ هل علاقتنا بالزمن علاقة هوية وتماهٍ أم علاقة ملكية وتملك؟ فما ومن وأين هو الزمن إذن؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©