الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجه ترومان كابوت: حرباء الجليد

وجه ترومان كابوت: حرباء الجليد
25 مارس 2015 21:10
عثر صحفي مغمور، على وثيقتين مضيئتين وموشومتين، همّشهما المهتمون في صخب وإثارة، في قضيّة «بدم بارد» لترومان كابوتي. الرواية التي كتبها بالاستناد إلى جريمة حقيقية هزت أمريكا، وكان مرتكبها هو المجرم، غريب الأطوار بيري سميث. الوثيقة الأولى عثر عليها الصحفي الملمع إليه أعلاه في دفتر يوميات المجرم بيري سميث المولع بالشعر والفن. والوثيقة الثانية عثر عليها في دفتر يوميات الكاتبة نيللي هاربر لي، هذه التي رافقته في رحلته كي يدوّن حياة المجرم بيري سميث ويوثق لملابسات الجريمة، فيتكلف شخصيا بتنصيب محام له ومحاولة إنقاذه من الإعدام، إما عن تعاطف خالص، أو تأجيلا لموته حتى يتمكن من كتابة الرواية المحلوم بها. الوثيقتان معا، هما محض انطباع مزدوج (تخيلته شخصيا) لبيري سميث ونيللي هاربر لي، كل على حدة، حول صورة ترومان كابوتي هذه). ـ نيللي هاربر لي: «قزم نيويورك العملاقة» (ابتليتُ برفقة هذا الوجه الحرْبائي، كيْ أدوّن معه تفاصيل الجريمة الشائنة التي ارتكبها بيري سميث في حقّ عائلة كلاتر. لم أكن أتوقع أنني سأتورط في عمل استغرق ست سنوات. كنت نديمته تلك الليلة، في غرفة بقرية كنساس. وكان منشطرا بالأشياء المفزعة التي أفصح عنها السفاح بيري سميث. كلّما كشف بيري سميث عن جنون جديد، قلنا تلك هي الحدود القصوى، التي لا تليها أخرى، وما يني يباغتنا بجنون مضاعف... كابوتي سقط في الفخ برغم كل شيء، وهذه حيرته العظيمة تلبس وجهه الذي يكاد يتحجّر من فرط الصدمات المغوية لشخصيته الأثيرة «بيري سميث»... التقطتُ له هذه الصورة، لتكون الوشم الجامع لمضاعفات التجربة المفزعة، أو سيناريو تجربة «بدم بارد» بالأحرى. ما من شك، ترومان كابوتي أغرم بشخصيته الغريبة، الشخصية التي تجاوز سحر واقعيتها حدود خياله، تماهى معه بشكل ملتبس، فشق عليه الفصل بين وجهه ووجه القاتل بيري سميث. الشيء الذي لا يعقل، هو أن تتطابق حياة طفولة القاتل بيري سميث، بحياة طفولة كابوتي؟ ليس هذا وحده الذي يضرم النار في حطب هذا الوجه الحائر، كما هو معلن في الصورة. ماذا بعد إعدام بيري سميث؟ أي فراغ أنطولوجي سيتركه الرجل في حياة كابوتي، بل أيّ ثقب أسود هو بيري سميث في دماغ كابوتي؟ أي نعم أفرط في الشرب والتخدير الذي جعل وجهه أبيض كميّت خرج لتوه من القبر... لكن البرودة الثلجية التي تجلّل وجهه هنا، مصدرها القلق هو الحيرة اللقيطة، والذعر من الغياب المحدق به، بعد أن يفقد شخصيته الصنمية «بيري سميث»...). ـ بيري سميث: «الحرباء ذات الذيول السبعة» ماذا كانت ترومه اللعينة نيللي هاربر لي، عندما منحتني هذه الصورة التي التقطتها لمستودع أسرار الشيطان المدعو كابوتي؟ له وجهُ ميّتٍ مترف بالصّقيع. كأنّه يطلّ من بئر جليد في هذه الصورة التي تنضح برودة. كما لو أنه أخرج للتو من ثلاجة موتى. سيجارته شارفت المنتصف كما لو يفكر في الجثث التي أزهقتُ أرواحها. ما من ثلج؟ ما من صقيع؟ فلم يرتدي بلوزته الصوفية؟ لا بد أن الرجل مذعور، ألمّتْ به حمّى صاعقة. أو ربما حدس بمهبّ ثلج على أهبة الحدوث. أعلم تماما لأي خطب يتهيأ عندما يصفّف شعره بهذه الطريقة ويجعله يتقوس في الجهة التي تهوى نديمته ملامسته بإفراط. ثمة أثر رتيلاء سطّرت نصّا بابليّا على أديم سحنته. نظرته الشاخصة مسدّدة نحو مرآة غير مرئية. في المرآة يلمح ما يجعل ساعاته مكوبسة: يلمحني عاريا تماما والحرباوات تدثرني من كل جانب... لا شيء يغويني في صورته اللعينة غير السيجارة التي شارفت المنتصف. أحدس أنها السيجارة الأخيرة في علبة تبغه. العلبة التي افترع حاشيتها وبسطها على الطاولة وشرع يخطّ فيها أشياء كيفما اتفق. هل كان يكتب وصيّة؟ ما تفسير الصّمت الجنائزي الذي يسود الغرفة إذن؟ *** أسندْ رأسك أيها الوغد، لا شيء سيحميك من رعب حقيقتي، لا فكاك لك من وجهي الذي سيعنّ لك في آخر شهقة من شهقات موتك الوضيع، أدرك تماما أنني حصانك الخشبي الرابح، لكن نجمتك مهما سطعت ستسقط دائما في دلو إسمي... كل أسرار المشاهير (في نيويورك) التي تدخرها كعلبة سوداء في كفة، وأسرار لعنتي في كفة أخرى، أثقل وأفدح... هذا دمي البارد، قد حنّط وجهك... أكاد أفهم الآن، الإشارة اللاذعة لصديقتك نيللي هاربر لي: هذا ما آل إليه وجودك الخرائبي، بعد أن صعقتك ثلوج عاصفتي القطبيّة. بعد السيجارة التي شارفت المنتصف... لا شيء يستأثر بإغوائي غير أن أعرف ما كنت تخطه في ورق علبة التبغ الفارغة. سوف لن أسأل صديقتك اللعينة نيللي. وسأصدّق ما رأيته بعين خيالي... أظنّك رسمتَ وجهي بدقة متناهية، كما لم يرسمه فنّانو الشرطة العلمية، كما لم تلتقطه صورة فوتوغرافية من قبل، وتحت تخطيط وجهي، كتبتَ جملة يتيمة: هذا أنا، ترومان كابوتي، حرباء نيويورك... ليتك كتبت: الحرباء ذات الذيول السبعة. أكرر لك، أنت قاتل بالفطرة يا كابوتي. غير أن قلبك خذلك. فأنت تمتلك قلب فتاة تتبول في فراشها من فرط رعب قديم... أيها الوغد، يا صديقي، يعتقد الآخرون أنك تطلّ من قعر هاوية، أما أنا، فما أراك إلا مطلا من ثقب بالوعة مرحاض...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©