الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جبروت الشاعر

جبروت الشاعر
16 سبتمبر 2009 23:15
استخدم بعض النقاد المعاصرون مبادئ علم النفس لتفسير شخصية بشار بن برد وتحليل طاقته الشعرية. وعلى الرغم من ذكاء هذه التفسيرات وطرافتها ينقصها شيء أساسي يجعلها مجدية، هو إمكانية الربط السببي بين الظواهر النفسية والشعرية، وهذا غير ممكن، فبشار شاعر جبار، لا لأنه أعمى، مع أن هناك مقولة تزعم أن كل ذي عاهة جبار فكثير من المعوقين مساكين لا يكادون يدفعون الضر عن أنفسهم، ولكن لأنه تصادف امتلاكه مع عاهته موهبة فذة، وطاقة نفسية وروحية هائلة. فقد كان يزجر من يحاول مساءلته أو التشكيك في قدراته. يروي الأصفهاني مثلا أن بشار «كان يحشو شعره إذا أعوزته القافية والمعنى بالأشياء التي حقيقة لها (وكأن الشعر يعتمد الحقائق) فمن ذلك أنه أنشد يوما شعرا له فيه: «غنني للغريض يا ابن قنان» فقيل له: من ابن قنان هذا؟ لسنا نعرفه من مغني البصرة، قال : وما عليكم منه، ألكم قبله دين فتطالوه به؟ أو ثأر تريدون أن تدركوه؟ أو كفلت لكم به فإذا غاب طالبتموني بإحضاره؟ قالوا: ليس بيننا وبينه شيء من هذا، وإنما أردنا أن نعرفه، قال: هو رجل يغني لي ولا يخرج من بيتي، قالوا: إلى متى؟ قال: منذ ولد وإلى يوم يموت!». فمناخ البصرة كان يعج برواة الأخبار وشرح النصوص ويخلط بين الشخوص الحقيقية والمتخيلة، ويحسب أن كل ما يرد في الشعر ينبغي أن يكون موثق المصدر صادق الإشارة مطابقا للوقائع التاريخية، فيأتي بشار فيسخر من ضيق أفقهم، ويستعرض معهم الحالات المدنية التي تتطلب تدقيق الهوية وترتب المسؤولية على الأشخاص بنبرة تهكمية طريفة لكنه يستخدم جبروته بعنف عندما يتصل الأمر بمحاولة بعض اللغويين والنقاد تجريح مصداقيته واتهامه باللحن، فقد كان الأخفش يطعن على بشار في قوله: فالآن أقصر عن سمية باطلي وأشار بالوَجلي علىّ مشير وفي قوله في صفة سفينة: تلاعب نينان البحور وربما رأيت نفوس القوم من جريها تجري وقال: لم يُسمع من الوَجَل والغَزَل فَعْلَى، ولم أسمع بجمع نون على نينان، فبلغ ذلك بشارا فقال: ويلي على القصّارين (من يدقون الثياب ويصبغونها، وكانت هذه مهنة الأخفش) متى كانت الفصاحة في بيوتهم، دعوني وإياه!! فبلغ ذلك الأخفش فبكى وجزع، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ومالي لا أبكي وقد وقعت في لسان بشار الأعمى فذهب أصحابه إلى بشار فكذبوا عنه واستوهبوا منه عرضه، وسألوه أن لا يهجوه، فقال قد وهبته للؤم عرضه، فكان الأخفش بعد ذلك يحتج بشعره في كتبه ليبلغه، فكفّ عن ذكره بعد هذا. وقال غير أبي حاتم (من الرواة) إنما بلغه أن سيبويه عاب هذه الأحرف عليه، لا الأخفش، فقال يهجوه: أسبْويه يا بن الفارسية ما الذي تحدثت عن شَتْمي وما كنت تنبذُ أظَلْت تُغنىّ سادرا في مَسَبتي وأمك بالمصرين تعطى وتأخذُ قال: فتوفاه سيبويه بعد ذلك، وكان إذا سئل عن شيء فأجاب عنه، ووجد له شاهدا من شعر بشار احتج به استكفافا لشره. وسواء كان إرهاب بشار قد وقع على الأخفش أو سيبويه، فإن جبروته الشعري وعنفوانه الأدب كانا يضمنان له هذه المهابة بسلاح الهجاء المخيف لمعاصريه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©