الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأريكــة

الأريكــة
16 سبتمبر 2009 23:18
تذكر ذلك اليوم حين دخلت المحل فرحة، واجتازت عتبة الباب، فظهرت قطع الأثاث هنا وهناك مما أشعرها بالبهجة، وبدت خفيفة رغم سمنتها، والكيلوجرامات الزائدة المحيطة بخصرها وبطنها كطوق نجاة. كانت خفيفة جذلى كأنها فقاعة ملونة؛ لأن شراء أريكة شغل بالها فترة ليست بالقصيرة، حتى أنها كانت تتخيلها أحياناً وتفكر في أفضل مكان لها في الغرفة. هذا الأمر نفض كيانها فرحاً وخفة رغم أنه قد يبدو عادياً للآخرين. بينما كان زوجان يعبران من أمامها شعرت فجأة بثقل جسدها، وتقلصت فرحتها قليلاً، لتصبح كرة ثقيلة تتحرك ببطء للزاوية، ثم تدور خلف العمود لتقف أمام أريكة. إنها تتسع لشخصين فحسب، أريكة بلون البيج الداكن، وفيها شيء من روح اللون الذهبي. كانت تتسوق بحثاً عن أريكة صغيرة تتناسب وراتبها الضئيل، وقد شاهدت عدداً كبيراً من الأنواع والأحجام. لكن هذه الأريكة أعجبتها، وعندما توقفت أمامها للمرة الأولى أعجبت بلونها، ثم لأنها مكسوة بالقماش تماماً، ولا أحد يستطيع أن يعرف أدق تفاصيلها الداخلية من خشب وقطع ألمنيوم. أخذت تدور حول الأريكة عدة مرات، تجلس عليها تارة، وتعاينها من زوايا مختلفة تارة أخرى. لقد قررت أن تشتريها، رغم غلاء ثمنها مقارنة بغيرها، فماذا سيتبقى من راتبها بعد دفع قسط السيارة ونصيبها من مصروف البيت الذي ستدفعه لوالدتها؟ إن ثمن هذه الأريكة سيربك كل حساباتها. ابتعدت عن الأريكة لتتأمل الكراسي المفردة المعلقة على الجدار، تبدو بائسة وحيدة، وتكفي شخصاً واحداً فحسب. وعلى من يجلس عليها أن يبقى متيقظاً ثابتاً وجامداً بين يدي الكرسي بلا أنس باحتمال مشاركة آخر له، ولا امتداد لغفوة قصيرة كما في تلك الأريكة. إن ألوان تلك الكراسي زاهية، غير أنها بائسة ووحيدة ومعلقة فوق الجدار، وكلهم يعبرون عليها بنظرة خاطفة، ودون أن يفكروا بالتوقف عندها ولو من باب الفضول. ومن جديد كررت النظر للأريكة ذات اللون الذهبي فمشت بالعرض، وابتعدت عن العمود الأخير، وشعرت أنها تختلس النظر إليها منذ لحظات، إنها تتابع تحركاتها. كانت متلهفة في زيارتها التالية للمحل، فاستأذنت مبكرة بساعة عن موعد انتهاء عملها. لقد أخفت سبب استئذانها، وعلقت ذلك بالظروف الخاصة. وبدا كأن لديها موعداً مع شخص عزيز، وهي فكرة أعجبتها كثيراً. عندما وقعت عيناها على الأريكة خفق قلبها واضطرب، وحين لامستها انتفض جسدها. وأمام نظرات العامل التي تعرض عليها المساعدة أجابت بابتسامة فمضى لشأنه. جلست على الأريكة، لتقرأ المعلومات المكتوبة. مسحت بيديها على القماش وهي تتنهد، ثم أغمضت عينيها لثوانٍ عدة، لتتخيل منظرها في الغرفة. قامت بعدها لتجلس على طاولة المطعم الذي يتوسط صالة العرض. كانت تراقب الأريكة متأملة لونها وشكلها، وتحاورها بلغة العيون وهي ترتشف القهوة، تسأل نفسها كيف ستدبر أمورها بقية الشهر إن هي اشترتها. كانت الأريكة تتأملها في صمت، وتعرض عليها أن تشتريها، وكأنها تقول: خذيني وسأريحك، كما قالت السمكة للفتاة الصغيرة في القصة الشعبية: خذيني وسأغنيك. ابتسمت حين برقت هذه القصة فجأة في ذهنها، تذكرت ما قالته صديقتها لها: «أنت تحبين الحياة وتعيشين ملء مشاعرك حتى مع الأشياء». أخذت تبتسم للأريكة في حياء، وهي تأكل الكيك. هي الآن سعيدة لأن الأريكة تنظر إليها بحبّ، تحس بقماشها وهو يرسل الآن إليها موجات حب، تقترب تلك الموجات منها لتمسح ظاهر كفها الأيمن بحب، فتضع هي باطن كفها الأيسر على يدها اليمنى، لتحتفظ بتلك القشعريرة التي بثتها الأريكة في جسدها. ترى نفسها فوقها متكورة عليها في قيلولة قصيرة، أو وهي تقرأ عليها مجلة، أو تغفو كسولة عليها في يوم الإجازة. كانت الأريكة تبادلها الحبّ حتى لمحت امرأة ورجلاً يقفان بجوارها، وعامل يحول بينها وبين رؤيتهما جيداً. انتفضت، وأحست بالغضب دوامة تبدأ من صدرها الذي يتميز غيظاً، وترتفع الدوامات الحمراء فوق رأسها الذي سينفجر. همست لنفسها كيف يمكن أن يتجرأ أحد على أخذ الأريكة مني؟ إن هذا لا يمكن أن يحدث أبداً. كان الرجل يمسك بيد زوجته ويمسحها بلطف، ثم يدخل أصابعه بين أصابعها المرسومة بالحناء، يبدو أنهما متزوجان حديثاً. ويلتفت مبتسما لها، ثم يترك يد زوجته ليجلس على الأريكة، واضعاً يده على مسند في حين ارتاحت الأخرى على ظهر الأريكة. ـ هذا هو اللون الذي أحبه. سمعت هذه الجملة من الزوجة وهي تقترب منهم، والعامل يؤكد لهما أنها القطعة الأخيرة في المحل. كانت تقترب شيئاً فشيئاً منهما وهي ذاهلة، يضيع المشهد منها ويتفتت، ويولد من جديد فترى الزوجين على الأريكة في غيمة بيضاء، هو يعانقها في شغف وهي تقاوم في دلال. وتكاد تراهما أيضاً وهما... وكلما ازدادت قرباً سمعت أنفاسهما اللاهثة، وكلمات شوق تسيل وتختفي في ثنايا الأريكة، وبقايا عطر الرجل ورائحة سجائره تتسلل إلى القماش شيئاً فشيئاً. تتقدم إليهما والزوجة مازالت واقفة في مكانها، والزوج على الأريكة كما هو، يسأل عن إمكانية توصيل هذه القطعة مع باقي الأثاث الذي اختاراه. كانت تتجه إليهما ومشاعر الكره تتفاعل تجاه هذه المرأة، وتقف بين البائع والزوجة كلبؤة تدافع عن عرينها، وبصوت مخنوق: عفواً أنا اخترت هذه القطعة أولاً، وأجري الآن معاملة الشراء وأتيت لآخذ باقي المعلومات، وبدت بصوتها ونظراتها جافة قاسية كجذع ألهبه هجير الصحراء. نظر الرجل لزوجته واعتذر للأخرى في همهمة غير واضحة، كأنه يقضم حبة مكسرات في ملل، ومضى ممسكاً يد زوجته تاركاً لها المكان. سلمت هي الورقة للبائع لتشتري الأريكة، وجلست عليها كما فعل الرجل. كانت تتخيل نفسها في غرفتها مستلقية على الأريكة، حين نبهها أنفها إلى بقايا عطر الرجل. رائحة عطر مفعم بالقوة والرجولة ملأت روحها، لتأخذها إلى مكان بعيد، فأغمضت عينيها وراحت تتحسس المكان الفارغ بجوارها، حين أمعنت في الخيال رأت عيني زوجة غاضبة فأبعدتها قليلاً قليلاً، ثم أخرجتها من الغرفة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©