الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

راشد النعيمي.. و «شاهندة» الشاهدة على مرحلة التأسيس

راشد النعيمي.. و «شاهندة» الشاهدة على مرحلة التأسيس
30 مارس 2011 20:08
لا يتكئ الجيل الأول من المبدعين الإماراتيين، في الشعر وفنون الكتابة عموماً، إلا على موهبته الطازجة الطالعة من عناصر التكوين الأولى للإنسان العربي في صحرائه المزدحمة بالرسالات والقيم، التي صاغت روحه وخياله. وحينما راح رموز من هذا الجيل يترجمون مواهبهم، بقصائد متوهجة ونصوص متمرسة، فإنهم لم يكونوا يعكفون على تشييد بنيانهم الإبداعي الخاص، بقدر ما كانوا يساهمون في صياغة صرح أدبي لوطن ناهض.. أصبح متكئاً لأجيال من المبدعين الإماراتيين، أتوا وسوف يأتون.. هنا إطلالة على سير ونصوص رموز من الجيل الإبداعي المؤسس. يأتي الحديث عن رواية “شاهندة” لمؤلفها راشد عبدالله النعيمي بعد نحو 40 عاما من صدورها، ليس لأنها أول رواية مطبوعة صدرت في الإمارات، وبذلك استحقت “السبق الزمني”، ويعدّ نصها فاتحة التأريخ لجنس الرواية المحلية فحسب، وأيضا ليس لأنها رواية جيدة من حيث مضمونها ولغتها وتقنياتها الكتابية وغرائبية أجوائها. كتب النعيمي روايته عام 1971 وصدرت عن منشورات المركز العربي للصحافة في القاهرة، وقام بعض المغاربة بترجمتها إلى اللغة الفرنسية. صحيح أن هناك روايات كتبت قبل التاريخ الذي صدرت فيه “شاهندة”، لكن المرجح عبر العديد من الدراسات الأدبية أن الرواية سجّلت لنفسها الريادة من حيث أنها طبعت في كتاب، ومن حيث أنها شكّلت ذلك الحضور القوي والمؤثر في الحقل الروائي الإماراتي، فتاريخ كتابتها كان في إطار محاولة الكتّاب استبطان المجتمع الإماراتي الذي كان يمرّ بمخاض اجتماعي وسياسي كبير، في حين تنبّه النعيمي ورفاقه في تلك المرحلة إلى الرواية كجنس أدبي ذي خطورة في حياة المجتمع الذي بدأ ينفتح على الحداثة الاجتماعية والأدبية، ولهذا ليس غريبا أن يصف العديد من النقاد رواية تلك المرحلة برواية (التحولات). وفي حوار معه حول مفهوم الريادة من كتابته للرواية قال راشد النعيمي: “لم يكن هدفي هو الريادة، أو أن أكون كاتبا رياديا، أو لكي يقال عنّي أنني أول من كتب في هذا المضمار الأدبي في الإمارات، ببساطة وجدت أنني من خلال هذه التجربة قادر على الكتابة، لقد عبّرت عن تجربة معينة بأسلوب روائي بسيط، وما فكّرت يوما بالأسبقية الكتابية، كان لدي بعض الأفكار والمواقف، وعرفت أنني قادر على إخراج هذه المواقف والأفكار في أسلوب روائي معيّن وعلى سجيتي، وأشبه نفسي في ذلك الوقت بالإنسان الذي يدخل بستانا ويجد فيه بعض الأشجار الطيبة فيأخذ منها، كما يجد بعض النباتات الشوكية فتلحق به الأذى، ولكنه في النهاية يخرج بنتيجة ما، ولو دخل البستان مرة أخرى فسيعرف الطيب من غير الطيب، وأؤكد أن الكتابة كانت بالنسبة إليّ فكرة بسيطة ما لبثت أن تشعبت هنا وهناك، ولقد جمعت هذه الأوراق فصارت بمجملها رواية”. في هذا السّياق، احتفت إمارة عجمان بابنها النعيمي من خلال “ملتقى شاهندة الروائي الأول” الذي انعقد بتاريخ 19/ 6/ 2009 وأقيم بهذه المناسبة حفل خاص بقاعة زايد بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا، على هامش أيام عجمان الثقافية لدائرة الثقافة والإعلام، وحضر الحفل صاحب السمو الشيخ حميد بن راشد النعيمي حاكم عجمان، وسمو الشيخ عمّار بن حميد النعيمي ولي العهد. ويسجل الملتقى الذي تمركز حول موضوع المكان في الرواية الخليجية نوعا من إلقاء الضوء على هذا العمل الأدبي “شاهندة” الرائد في الإمارات، وفي منطقة الخليج العربي. لهذا كله فلسنا هنا في موقع (نقد النقد)، بقدر ما نود الكشف عن الكثير من السمات والمزايا والجماليات التي تتمتع بها رواية شاهندة، وبخاصة على مستوى المكان واللغة وأدوات التعبير، ورصد أوجاع بطلة الرواية من خلال سرد يقوم على الاختلاف والتنوع، وربما تكون كل هذه الخاصيّات التي تتمتع بها رواية النعيمي قد سقطت سهوا من أوراق بعض النقاد الذين تناولوها من سطحها الخارجي. رواية البطل كتب الدكتور ثابت ملكاوي حول الرواية : “شاهندة” في المنظور الفني حكاية بسيطة، كإحدى الحكايات الشعبية كالتي يسردها راو ماهر بقصد الإمتاع والتسلية، وهي تجسد إلى حدّ كبير المنظور الشعبي للقصة، حينما تشكل الحكاية الأساس الممتد في الرواية، وتكون بقية العناصر القصصية إما غائبة أو ليس لها دور إن وجدت، فالقارئ للرواية لا يجد سوى حكاية شعبية بشكلها وعباراتها القصصية وإطارها العام، وهي شبيهة إلى حدّ كبير بحكايات ألف ليلة وليلة مع فارق بسيط، وهي أن “شاهندة” قد يكون لها خيط من الروح المعاصرة، غير أن القراءة النقدية لنص الرواية تشير قطعا، إلى أن الرواية حكاية قصصية مسطّحة، شبيهة بروايات التّسلية التي ظهرت في أوروبا قبل ظهور الرواية الكلاسيكية التي نعرفها ولكن التساؤل: لماذا تكون دائما الأعمال الروائية الأولى فنّيا في بيئة ثقافية ما تحمل قدرا كبيرا من البدائية والسذاجة والتهور في الخيال؟ بلا شك الإجابة ستدخلنا في قضايا التطور”. (كتاب “الرواية والقصة القصيرة في الإمارات” ص 34). إذا سلمنا بتعريف “لوسيان جولدمان”، ومن خلفه “جورج لوكاتش” للرواية بأنها: “بحث عن قيم أصيلة في عالم منحط بوسائل مختلفة” (مقدمة كتاب “الرواية التاريخية” ص 9)، نستطيع إعطاء توصيف سوسيولوجي لرواية السبعينات المحلية، بأنها رواية (البطل) الذي تدور حوله الأحداث، وإذا عدنا إلى “شاهندة” سنجد أن البطل فيها فتاة مكتملة الأنوثة، لم تتعد السابعة عشرة من عمرها، نزلت من قريتها الصغيرة (الحيرة)، تبحث عن رزقها في إحدى أسواق مدن الدولة، فتلقفتها يدي “نخَاس” سارع إلى بيعها في سوق النخاسة لذئب بشري جائع، ولمّا اشتد عودها ردّت الصّاع صاعين لمن باعها ولمن استعبدها، ولمن حاول فتنتها أو النيل من جمالها، فانتقمت منهم جميعا شرّ انتقام، حتى أصبحت مع مرور الوقت “مدمنة انتقام” و”خرّابة بيوت”، تنتقم من مجتمع ترى أنها ضحيته دونما جريمة. من جماليات رواية “شاهندة” أن كاتبها فيما يخص بطلتها، أقام حكايته على (المفارقة)، في تقنية جمع فيها بين القبح والجمال في ثنائية فنية رائعة، فهو لم يتوان في البدء عن تقديم بطلته بكل ما تتصف به من جمال وفتنة: “شاهندة.. كانت جميلة إلى حدّ كبير، كان ينظر إلى شاهندة وكأنه كان يتمنى أن تكبر ولو عامين حتى تنضج هذه الثمرة الرائعة، فلقد كانت رائعة في كل شيء، الجمال يشع من عينيها الواسعتين، تداعب خصلات شعرها بأناملها وهو ينساب بلا نظام على كتفيها”.. بالمقابل تعددت صور القبح التي تحيط بهذا الجمّال الفطري الأنيق ، بدءا بالذئاب البشرية الجائعة للنيل من جمال فتاة قاصر، في إطار فكرة الصراع الطبقي وغياب العدالة الاجتماعية مرورا بالمكان (القرية) وأهلها الذين يعانون شظف العيش ومرارة الحياة: “سكنت القرية عندما بدأ قرص الشمس الأحمر يختفي وراء الأفق، لقد شعر السكان أن يوما تعيسا أخر قد مر عليهم جميعا. لقد دخل الناس أكواخهم في خطوات بطيئة وأغلقوا من خلفهم الأبواب في انتظار صباح أشد تعاسة، لا جديد في حياة القرية فالأمس كاليوم والغد لا يختلف عن الأمس في شيء، وبدأ الظلام يسدل ستائره على القرية الهامدة في أحضان الكثبان الرملية. وفي القرية ترى البؤس وتشمّه وتلمسه، فلم يبق أمام أهلها الطيبين إلا حياة الانتظار، فلقد تعودوا أن ينتظروا طول اليوم، وهم لا يعرفون ماذا ينتظرون” (الرواية ص 36). رواية معاصرة نلتقط إشارة سريعة مما جاء في تقييم الدكتور ثابت ملكاوي للرواية من أنها (قد يكون لها خيط من الروح المعاصرة)، وهي في الواقع إشارة دالّة على أن للرواية طابعها الخاص، فمن حيث فكرتها فقد عالجت موضوعا قديما متجددا، وهو على جانب كبير من الخطورة، ويتمثل في بحث “شاهندة” عن الخلاص والحرية، وهي ليست مجرد كلمة، إنها ذات صلة وثيقة بالإنسان وخلاصة حياته وأحلامه المستقبلية، كما أن موضوع الرواية يقودنا إلى أشياء كثيرة من خلال بيع بطلتها في سوق النّخاسة، وتمثل ظواهر إسقاطية معاصرة مثل قضايا الشرف والاغتصاب، والاتجار بالبشر، والاستلاب، وبهذا المعنى الرمزي، لعب الكاتب على خيوط مستويات عدّة، ليصل بنا في النهاية إلى طرح غياب (العدالة الاجتماعية)، وأثر ذلك في تكوين طبقات اجتماعية، مما يخلق ذلك الصراع الذي ينتج لنا العديد من المظاهر السلبية والشخصيات غير السّوية، لكن الأهم من ذلك فإن موضوع الرواية طرح صراعا في سبيل قضية. والسؤال الذي نطرحه أمام النقاد الذين تناولوا العمل من سطحه الخارجي: كيف لرواية بهذا المستوى أن تحيط بكل هذه الأفكار المعاصرة من خلال حكاية بسيطة وشخصية “البطلة” تتمتع بكل مقومات البطولة من قوة وصلابة ومواجهة كل التقاليد الاجتماعية البالية وكل الرجال الساقطين الذين يمثلون الإقطاعية الصاعدة وأحلامها في التّملك؟ في رواية “شاهندة” تتجلى فكرة الانتظار، وهي واحدة من الأفكار اللصيقة ببيئتي الصحراء والبحر، وغير ذلك فهي فكرة معاصرة، التقطها رواد المسرح العبثي (اللامعقول) وعلى رأسهم الكاتب الأيرلندي صامويل بيكيت من خلال روايته الشهيرة “في انتظار جودو”، حيث بطلا الرواية كانا ينتظران غائبا ولم يأت، وشاهندة ووالدها كانا ينتظران التغيير أو شيئا غير مفهوم، هي فكرة عدمية، تبرز هلامية الإنسان أمام القوة الكامنة في البيئة أو غياب الحلم، في حين تشي معالجة هذه الفكرة لدى الكاتب النعيمي بأن المرأة تملك حضورها الأثير، لا بوصفها كيان إنساني رهيف فحسب، ولكن عبر تجلّي الحالات الإنسانية أو العذابات التي تعرضت لها “شاهندة” التي تبرز حالة الانسحاق التي تصيب الفرد في مواجهة عالم أكثر بشاعة وقسوة، والكاتب هنا يعرّي الذهنيات المليئة بالازدواجيات المجتمعية، والتناقض في الذهنية العربية تجاه مسألة شرف الفتاة، وعمق الدمار النفسي الذي يلحق بها جرّاء العرف الاجتماعي، ولعل النعيمي لم يقصد فقط أن يسرد علينا حكاية بيع فتاة في سوق النخاسة، بقدر ما كان يودّ أن يقذف بورقة اتهام وإدانة في وجه (الطبقية الأزلية) وما تخلّفه من انكسارات ومرارة، تجعلنا نصغي لبوح شاهندة، حتى ولو كان في صيغة محفوفة بمخاطر التمرد والانتقام والشهوة. شخصية “هاملتية” لقد كان في استعادة الموروث السردي، خطوة واسعة من خطوات تحديث الرواية وتأصيلها، واتكاء النعيمي في روايته على هذا الجانب، أضاف لها بعدا ثانيا تمثل في تطوير الصورة الفنية والحركة الداخلية للشخصيات. ولعل ذلك يقودنا بالضرورة للحديث عن التناول النقدي القاصر الذي وصف الحكاية في الرواية على أنها (حكاية شعبية شبيهة إلى حدّ كبير بحكايات ألف ليلة وليلة). وفي تقديري أن مثل هذا الاستخدام لا يشار له على انّه “عيب فني”، بل هو في الحقيقية يكشف عن غنى هذا الموروث السردي وأهميته الراهنة في تحديث التقنيات الروائية في مجال كسر الإيهام، أو تقنية التداخلات الزمانية والمكانية، كما يعكس مقدرة الكاتب في تعامله مع جماليات الموروث. قيل عن “شاهندة” إنها رواية الانتقام، حيث عملت بطلتها طوال الأحداث وهي تواجه صنوفا من أشكال العبودية على تدمير كل من قتلوا كبريائها وأحلامها وشرفها، لتحقيق ذاتها، وكأن لسان حالها يردد عبارة هاملت الشهيرة (أكون أو لا أكون)، حيث أقام شكسبير مسرحيته ذائعة الصيت (هاملت 1660) على فكرة الانتقام، مستفيدا من حكاية بطولية رواها “ساسكو غراماتيكوس” وأقام عليها عملا كاملا انتهى بموت جميع أبطاله. إن المتتبع لغالبية الروايات الإماراتية التي كتبت في مرحلة السبعينات سيجد أنها لم تأبه كثيرا بالشخصية النسائية كبطلة رئيسية للرواية، وقد فعلها النعيمي، وجعل من شاهندة، بطلة بالمطلق، ذات ملامح هاملتية، كما أنه قلب موازين تلك الفترة، حيث كانت الروايات تعتمد كلية على الحدث، وهنا أصبحت تقوم على الشخصية، سواء من خلال الإتكاء على المناجاة الداخلية، أو تكنيك الحدث الاسترجاعي، واستخدام الراوي، وكأنك تعيش حالة الرواية داخل رواية: “يا صديقي هل دبّ فيك الكسل حتى لا تريد أن تأتي معي للحصول على الأكفان انهض فهنا يموت الإنسان جوعا، وجثث الموتى تتساقط في شوارع القرية وداخل البيوت، انهض وإلا بعد يومين سوف تصبح جثة بلا كفن، انهض فلا بد أن نعيش” (الرواية ص6 و7). اعتمد المؤلف في تراتبية المشاهد على آلية السرد المتواصل وتوظيف تقنية الحوار وتبادل الأدوار، لينفذ من خلالها إلى قضايا المجتمع، وصولا إلى تلك المناطق المحظورة والمظلمة في التاريخ البشري، والتطلع للحرية المفقودة، ومن ذلك نجد أن هناك تنويعات من السرد، ما بين الحوار الداخلي (الضمني)، والديالوج أو الحوار بين شخصين، بالإضافة إلى الحديث الفردي أو الوصفي عن طريق الراوية، بمعنى توافر التعدد اللغوي مع الحوارية، ولك أن تكتشف جماليات البناء الحواري في شاهندة من خلال مزج لغتين اجتماعيتين في ملفوظ واحد، وتعزيز فكرة (الديالوج) أو الحوار الثنائي لتوضيح فكر الشخصيات ووعيها تجاه القضية التي تطرحها الرواية، وقد وظف الكاتب وبمهارة عالية النمط السردي المتضمن النمط الوصفي أوالحواري في إطار المهارة في التحليل والربط ووجود الكثير من المجاز، ومن هذا الحوار بين شاهندة وسيدها الجديد التاجر حسين، الذي اشتراها حديثا تستطيع أن تستخرج الكثير من الرمزيات والمعاني والدلالات في محظورات المجتمع الذكوري، وخطورة تفكير الرجل الشرقي في اختراق وتكسير مقدسات الالتزام الإنساني والاجتماعي في بناء فني تصاعدي يقوم على تسلسل منطقي لفنية الحوار: “ ـ سيدي إن قيدك الحريري ما زال يثقل يدي. ـ تعالي يا شاهندة، اجلسي بجواري. ـ سيدي لم أتعود أن أجلس بجوارك. ـ اسمعي يا شاهندة، ستكونين من الآن حرة نفسك.. تعالي. ـ لماذا اجلس بجانبك.. ولماذا حرّة؟ ـ أنت فاتنة حقا يا شاهندة.. تعالي. ـ ألا تخشى السيدة التي هي زوجتك الراقدة بالحجرة المجاورة؟ ـ شاهندة أنت لا تعرفين الكثير من تقاليدنا، هنا كل شيء مباح للرجل، له الحق في كل شيء حتى ولو كان على فراش زوجته. ـ ولكني لا أعطيك هذا الحق، ابتعد أيها التاجر الجشع، أنت لا فرق بينك وبين سالم النّخاس، هو يتاجر في البشر، وأنت تتاجر أيضا في البشر، لقد مات كل الرجال على السفينة لكي يتمكنوا من تسديد ديونهم لك، هي في الأول والآخر تجارة عبيد. (الرواية ص 98 و101). من المستويات المتعددة في الرواية استخدام تقنية “المونولوج الداخلي” لخصوصية التعبير الذاتي والغوص في العالم الداخلي للشخصية في لحظة زمنية معينة، حيث يوقف المونولوج حركة الزمن الخارجي ليطفو العالم الداخلي بتفاصيله ولغته الشعرية على سطح السرد الحاضر، وقد نجح الكاتب في ربط الحوار الداخلي بعالم الأماني الذي تتطلع الشخصية إلى تحقيقه في المستقبل، مع وصل ذلك بالسؤال الأزلي المؤرق للوجدان الإنساني، لماذا يحدث هذا معي؟ لكن ما يهم الإشارة إليه في شاهندة، هو حضور الحوار الداخلي غير المباشر، وهو ذلك النمط السردي الجميل الذي يقدم الكاتب من خلاله نوعا من المعرفة القادمة من وعي الشخصية بأزمتها، على نحو هذه المناجاة للبطلة مع خالقها: “يا ربي.. يا ربي ماذا فعلت؟ ما هي الجريمة؟ ولماذا العذاب؟ ربي لم أغضبك لأنني لا املك حتى مقومات غضبك، فأنا مملوكة يملك إرادتي غيري.. يا ربي بل لماذا لم أكن ابنة التاجر حسين.. وأنعم بحياة عادية هادئة؟” (الرواية ص 14). وكما يبدو فهذا فالمونولوج المكثف القصير، يكشف ببساطة شديدة عن أفكار شاهندة ومشاعرها تجاه عبوديتها، ما يدفعها للتساؤل عن الذنب الذي ارتكبته حتى يحدث لها كل هذا، وهو في الحقيقة سؤال الذات والوجود الذي يطرحه كل الناس تجاه مصائرهم، فإحساسها بالوحدة والغربة والضياع دفعها للتأمل، وترجيح الوصف باعتباره وسيلة تخدم النص، ونستذكر هنا ما قاله “بارون” وهو من مؤلفي القرن التاسع عشر: “أول ما يجب مراعاته هو عدم الوصف بغاية الوصف، ولكن لإضافة شيء قد يكون مفيدا للسرد أو تقوية الجانب الشعري” (كتاب “بنية الشكل الروائي”، حسن بحراوي، ص 176). وحسنا فعل الزميل إبراهيم الملاّ حينما كتب عن الرواية في 9 ديسمبر عام 2006، على هامش ندوة خصصت للحديث عن الرواية في معرض الشارقة الدولي للكتاب، تحدث فيها الدكتور سمر روحي الفيصل، ونبدأ أولا بما كتبه الملاّ تحت عنوان “شاهندة الرواية الناقصة”: “وهي أيضا الرواية الناقصة بحكم أن الجدل المحيط بها لم ينته بعد، وما زال محفوفا بالأسئلة والغرابة المحلقة على أجوائها وشخوصها ومناخاتها، رواية مكتملة شكلا، وتكنيكا، ولكنه الاكتمال الموهوم والمتخيل، تقف “شاهندة” وتنتصب كتجربة عالية في المشهد الأدبي المحلي، ولكنه الوقوف المترنح أيضا والمتمايل على أكثر من سند نقدي وفني وتاريخي، هي رواية شبيهة ببطلتها من دون شك لأنها قادمة من أرض غريبة ولم يؤسس لها أحد، أنها ابنة الضباب، والموجة الغامضة والسرية، التي ورّثت الساحل كل هذا الجنون المزهر، وكل هذا الانتقام الجليل من الصمت الروائي في المكان، أضرمت “شاهندة “ النار في بحر الكلام، وفي صحراء السرد فتناسل الضوء وتباهى وتورّد، وتكاثر على إثره الرواة والشعراء والقاصّون ونسّاك الكلمة ومريدوها، وهاج غبار كثير في أفق الكتابة، غبار من ذهب، وغبار من فضّة، وغبار خفيف ورخيص أخذته الريح في هبّاتها ولم تعد، ولم يعد يذكرها أحد، وبقت “شاهندة” وحدها في عزلة ظليلة ونسيان بارد، وكلما أهملها الزمن نفضت الرماد عن ردائها الملكي الطويل وخرجت للعيان مثل شهقة بتول، ومثل حكاية عذراء في فم الفجر”. أما أهم ما جاء في حديث الفيصل حول الرواية ما تعلّق بالتقنيات الفنية ويقول: “يستطيع أي مدقق في “شاهندة” ملاحظة أبرز إيجابياتها، وهو حياد الراوي”. “بعض المبالغات التي وردت في الرواية كان هدفها تنفير المتلقي من تجارة الرقيق من خلال تصوير الآلام التي لحقت بشاهندة وما جرّته هذه الآلام على شخصيتها من تناقض”. الصورة المشهدية نضيف إلى ما جاء في تناول الدكتور سمر روحي الفيصل للرواية وبخاصة فيما يتعلق بعنصري الزمان والمكان، أن الكاتب قد استعاض عن نسقهما في أجزاء محددة من الأحداث، بالوصف المشهدي ولغته، (المشاهد التي تم وصفها في البحر والصحراء وتصور رحلة شاهندة ووالدها نحو مصيرهما المجهول)، باعتبار لغة الوصف تجسد المكان والأشياء، في حين تجسد لغة السرد حركة الأحداث وتتابعها الزمني. ويلجأ النعيمي في روايته إلى توظيف تقنية الوصف بصورة تسترعي الانتباه، لأنها تعمل على إبطاء زمن السرد في الأجزاء الأولى من الأحداث، وذلك نتيجة لكثرة الوقفات الوصفية، فتعمل على استطراد زمن الخطاب وسعته، إلى جانب دورها في رسم الشخصيات وتجسيد الزمان والمكان، ومن يمعن النظر في الرواية يجدها زاخرة بالمقاطع الوصفية المختلفة، ويعدّ وصف الحالة النفسية لشاهندة في ظلال علاقتها بالتاجر حسين، الذي يمثل أبشع صورة للاستغلال والإقطاعيات الصغيرة، من أكثر المقاطع الوصفية عمقا في استبطان ذات الشخصية، والكشف عن الذكاء الحاد الذي كانت تتمتع به بطلة الرواية، ليصبح ذلك معادلا موضوعيا منطقيا لطريقة الانتقام التي انتهجتها شاهندة لرد الاعتبار لكرامتها التي سفحت على يدي من تاجروا بها. ونستخلص من كل ذلك أن المقطع الوصفي يعدّ تقنية أساسية في بناء النص الروائي، وهو ركيزة قوية تتجلى أهميتها من خلال علاقة الوصف بالعناصر النّصية التي بدت متماسكة إلى حد ما لدى الكاتب. أما بالنسبة للمكان من حيث التكوين والاستخدام في المتن الروائي، فقد أعادتنا “شاهندة” إلى حقبة قديمة من تاريخ المنطقة، تم رصدها بدقة متناهية، من حيث الواقع الاجتماعي المعاش بكل سلبياته، كما لعب المكان دورا نفسيا مهما في الكشف عن العلاقات الفاسدة في مجتمع التجار والأغنياء في مختلف الفضاءات المكانية مثل: القرية بشقيها الساحلي والبحري وما فيهما من جهل ورذيلة مستورة ومن حبّ أهلها للنميمة (القيل والقال)، ما يقيم صراعا اجتماعيا خفيا، والمدينة بكل ما فيها من شخصيات فاسدة وقيم زائفة، وضغط نفسي ومادي، ومن هذا الرصد الدقيق لبيئات المكان استطاع الكاتب أن يقدم لنا (المكان الضد) وأهميته في تحديد علاقات وصراع الشخصيات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©