الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ما تيسَّر من البوح على لسان بالون!

ما تيسَّر من البوح على لسان بالون!
30 مارس 2011 20:09
من ملاعب البراءة وزهوها المحلق في بالون يتشكل ويتلون وفق الأحلام، يقول الشاعر سالم أبو جمهور ما تيسَّر من البوح وما قل ودلَّ من الشعر. كل رصيده رغبة حارقة تشتعل في الروح للطيران، للتحرر من كل ما يجعل الحياة مشروعاً ميتاً والانطلاق الى السماء الواسعة للعيش على قيد الحرية. تماماً كما هو صديقه البالون لا شيء يحركه أو ينشئه سوى أنفاس الأطفال، يتمترس الشاعر في رؤيته ورؤياه بأنفاس إنسانية لا تعرف الألاعيب التي تمارس بكل شكل ولون لاغتيال الحرية والفرح الإنساني بالحياة. ها هنا، يصبح الشعر جارحاً كمبضع الجراح، يفتح الجروح ليكويها بنار الحقيقة، ليعلن الحكمة المبتغاة من نصوص تخفي أكثر مما تظهر. ها هنا شاعر يضع إصبعه على جراح الإنسانية ما ظهر منها وما بطن. شاعر مؤرق بهموم الناس كلهم، قريبهم وبعيدهم، يتعانق مع آلامهم في نزوع عالمي واضح لرسم صورة الإنسان في إطارها الأشد اتساعاً. فانتازيا يستعير الشاعر سالم أبو جمهور في مجموعته الشعرية الصادرة عن مشروع “قلم” أحد مشروعات هيئة ابوظبي للثقافة والتراث هذا الرمز الطفولي ليحمّله نصاً فانتازياً بامتياز، وليرمينا بسهام دهشة فنية لا تنطفئ مع آخر كلمات القصيدة. هذا شعر يشن غارة شعرية على تراجع منسوب الحرية العالمي، وعلى الكرة الأرضية الموجوعة بنقصان الحكمة والمعتلة بجشع الإنسان وحروبه العبثية التي أنتجتها وسائل الموت والدمار... لذلك لا يختار الشاعر طائرة ـ مثلاً ـ لكي يتجول فيها ويرصد ما يريد وضعه أمام عيون الكلمات التي ترى إلى مسافات بعيدة، بل يستعين ببالون الطفولة، لأن لا آثام له ولا جرائم تجعل من قصيدته نوعاً من الضلال والتضليل، بل لهذا السبب تحديداً يحق له أن ينطلق لسانه بالحكمة الثاوية في المفتتح الشعري كما في المختَتَم. حكمة خالصة سوف تتكرر في قصائد أخرى لتؤشر على أمر مفصلي في رؤية الشاعر، وهو أن الطبيعة في اتساق وتناغم ولا خصومة بين كائناتها، فيما البشر في خصام وصراع على المكانة والحيز والهوى والسلطة والمال وغيرها من العوامل الصراعية التي تفسد حياتهم وتشوه الحياة وتستولد الحروب والمجاعات. هذه المقارنة بين الطبيعة والإنسان ترافقها لازمة تعبيرية تجسدها شعرياً: السماء والأرض؛ فالسماء (حرية، مرح، لعب، سعادة لا تعرف الحدود ولا القيود)، بينما الأرض في المقابل (حروب، آلام، أشواك، نيران، خراب، صراعات، وآثام). الأرض بالون الإله! من الأنفاس فقط ينشأ البالون نشأته الأولى، لا يحتاج لأكثر من ذلك لكي يطير في الأعالي مزقزقاً صادحاً بنغمة واحدة: الحرية. محمولاً على الإحساس يطير البالون. كل العالم ملاعب له. لا حاجة به الى جوازات سفر ولا أوراق ثبوتيه.. يتجول على راحته في أربعة أرجاء الأرض متجاوزاً عمليات التقنين وخارجاً عن ميزان المألوفات، يحلق في تخوم المعنى وأرض الدلالات ليعود بأكثر من حكمة يوزعها على البشر. والبالون فكرة مشاع، كل أطفال العالم يعرفونها، وفي كل مكان ثمة متسع لأحلامهم في بالون يطير. وثمة في فنزويلا جدة حكيمة تقول إن الأرض بالون الإله تباركه أنفاسه وتملؤه بالحب والسعادة... ها هنا يقف الشاعر عند ثقافة تنتصر في موروثها الثقافي والحكائي للحياة، تقابلها ثقافة أخرى لا تنتج سوى الموت والدمار، في العراق - مثلاً - يتحول الموروث الممتلئ بالحياة ، بسبب الاحتلال والجنود غريبي السحنة واللكنة، إلى كائن غريب، مشوه، يصوره الشاعر في مرارة بليغة على لسان “بياع الورد” الذي كان بالأمس يبيع الورد للأحبة والعشاق والمناسبات السعيدة ويصلي اليوم لكي يرزقه الله حقلين من الورد لكثرة الطلب على الورود لكن هذه المرة ليس للفرح بل لينثر على اللحود. صورة قاسية بلا شك، يزيد من قسوتها تلك العلاقة التي يسلط عليها سيف السؤال عن العلاقة بين الورود والبارود... لكن المرارة تصل منسوبها الأعلى حين يسمع الرطينة الغريبة: “أمي يا بيّاءَ وَرِد!!”. والأمر نفسه يحدث في رحلته الثانية الى بغداد “أميرة العشاق” التي يجدها ترفل في دمائها وحزنها الحالك مثل ليل بلا نجوم.. هكذا حين تحضر ثقافة الموت، تغادر الأشياء وظائفها المتعددة لكي تمارس وظيفة واحدة ليست بالتأكيد أجمل وظائفها. البالون في حكمته ثمة خيط خفي يربط القصائد في لحمة واحدة هو البالون، فالبالون هنا هو الرمز البؤروي التي تتشكل حوله القصائد في دوائر أشبه بتلك الناجمة عن حجر يلقى في الماء، وهو حجر الشاعر الذي يلقي من خلاله أسئلته في بركة الحياة الراكدة لعله يحركها أو يستثير الوعي بالتضاد. وهو الناطق المفوض عن الإنسان/ الشاعر في إعلان مواقفه من الحياة والوجود: يتحدث/ يعلق/ يحاور/ يثور/ يقيم مظاهرة في السماء/ يهتز حيرة أمام ضيق أفق البرج الضخم، البرج الذي يتسع لسكان دولتين ثم يهتز أمامه هو الذي لا يزيد وزنه على وزن ريشتين، يسرد حادث المنصة وما ساد من هرج ومرج، وكيف في ضبابية الرؤية تختلط الأمور ولا يميز المرء مصدر الحقيقة/ يحمل احتجاج الكائنات على عبث الإنسان بالطبيعة، ويبشر بالطوفان الذي لن ينجو منه أحد/ وينتقد كل ما يجري في الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية من زيف ودجل، والخوف من تسمية الأشياء بأسمائها... لكن المفجع بعد هذه الحرية كلها أن البالون (يقتل) في فلسطين حين يصوب عليه جندي حاقد رصاصه لأنه تجاوز الجدار. ويأبى الشاعر أن يسلمنا لهذا المصير المأساوي فيختم المجموعة بقصيدة عن بالون يحمل كلمة الحب الخالدة ويطير بين حبيبين، معلناً أن خلاص البشر يكمن فقط في “الحب”. وإذا كانت الحكمة/ زبدة القول تأتي في قصص كليلة ودمنة على لسان الحيوانات فإنها في هذه المجموعة تأتي على لسان البالون لتقدم رؤية بالونية، وهذه المفردة ليست من عندي بل من عند الشاعر. وللشاعر من الحياة موقف شعري متقدم، رمزي لكنه غير غارق في التلغيز أو التعمية، بل تقدم القصيدة للقارئ مفتاحها الذي من خلاله ينسرب إلى تفاصيلها، ويفهم مدلولاتها، وهو مفتاح يضيء القصيدة في الآن نفسه الذي يضيء عالم الشاعر ورؤاه التي لا تخرج في إطارها العام عن الدعوة الى التحرر من ربقة الأرضي/ الطيني إلى جمال السماوي/ الروحي، وترك الغرور الطاووسي الذي يجعل من الشخصية فارغة، جوفاء، فالغرور حجاب يصيب المرء بالعمى ويجعله عاجزاً عن رؤية ما يجري حوله، والبحث خلف المظهر عن الجوهر، والحلم بمدينة السلام العالمية التي تحقق لمواطنيها الأمن والأمان، والاستمساك بالتنوع، بشجرة الحرية التي تقاوم سلطة تنميط البشر ونسخهم نسخاً مكررة، تماماً كما يتنوع ثمر الأشجار لابد أن تكون ثمار الحرية متنوعة... وفي كل هذا يكتب الشاعر نصاً ماكراً، ملفعاً بلبوس الرمز الذي يأتي في غلالة رقيقة تشف عن مدلولاتها بقدر ما تزيدها غموضاً وفتنة. البناء اللغوي والشكلي في مستويين تأتي لغة المجموعة، في الظاهر تبدو أقرب الى مفردات الأطفال وعوالمهم، لكنها في المستوى المستور تمتلك مستويات دلالية مغايرة بحيث تحقق في أكثر الأوقات انزياحات ماكرة تأخذنا على حين غرة إلى أماكن مغايرة لما تأخذنا إليه القصيدة، وبينما يفكر العقل في اتجاه تأتي دلالة أخرى لتسحبه الى اتجاه آخر في نوع من المكر الفني المستحب والمرغوب. من حيث شكل القصيدة يمكن تقسيم المجموعة إلى قسمين: قصائد طويلة وأخرى قصيرة (قصيدة الومضة)، أما الأولى فتتميز ببساطة عميقة، لكنها شديدة الإيحاء على المستوى المضموني، وبحضور واضح للنفَس القصصي بل إن بعض القصائد قصص تشبه قصص الاطفال ويتوفر لها الحوار، والتوتر الدرامي ولحظة التفجير التي تنير القصيدة في الخاتمة. بهذه البساطة ينشئ الشاعر قصيدة ذات مستويين: نص معلن ونص خفي، ووراء كل مقال ثمة ما هو مسكوت عنه، والفكرة تقود الى الفكرة في تسلسل يذكر بتقينات القص، وليونة في الانتقال من موقف إلى آخر أو تفسيره أو التعليق عليه بلغة لا تنسى جماليات الصورة الشعرية. أما القصائد القصيرة أو قصائد الومضة فتتوفر على الكثافة الشعرية، والاختزال، والاقتصاد في الكلامات فضلاً عن كثافة المعنى، والالتقاطات الجميلة لما هو شعري، جميل، مفاجئ، لا يخلو من الدهشة، ناهيك عن حضور المفارقة التي تهب النص عادة جمالاً إضافياً. دائماً تهرب الكتابة الى الأماكن العالية، ودائماً هناك: “أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”، وهذا من الشعر الذي يمكث في الأرض.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©