الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دخول روائي في أرشيف المكان

دخول روائي في أرشيف المكان
30 مارس 2011 20:11
ما يميز رواية “من المكلا إلى الخبر” للروائي عبدالله المدني هو أنها رواية خالية تماما من التداعي الذي لامبرر له ومقتصدة بحيث لم تفقد حسها الفني ولا طريقتها في قول ماتريد. رواية قصيرة تحكي مرحلة أواخر الخمسينيات عبر أبطالها سالمين وسعد الدوسري وآخرين. سالمين الذي انتقل إلى الخبر المدينة السعودية في الشرقية قادما من المكلا المدينة اليمنية، ليبحث عن فرصة أخرى لحياة أفضل، وفي زمن بدأت مدينة الخبر في تطور متسارع ومذهل ونمو ورخاء، وحتى إن كان سالمين لايملك وقتذاك سوى بعض شلنات أفريقية كما يعبر عنه المدني، لكن حلمه كان يكبر ويزداد حتى تحقق له مايريد وأصبح اسما مرموقا في عالم التجارة الذي بدأه بشكل متواضع جدا عبر “دكان صغيرة”. يقول المدني: “خلال أقل من عامين استطاع سالمين باسامر أن يعزز مركزه التجاري، ويكسب ثقة الكثيرين، ويبني لنفسه سمعة حسنة، وذلك على حساب جاره ومواطنه ومنافسه في التجارة سعيد بادريس الذي كان يمثل لمعظم سكان “الفريج” كتلة من الأسرار، خصوصا وأن جسمه الممتلـئ، وبشرته الداكنة، ووجهه المحفور بآثار مرض الجدري، وعينيه الجاحظتين المُحمرّتين على الدوام، وقلة حديثه، وندرة خروجه من دكانه، كانت تثير الشك والخوف عند كل من يتعامل معه. ولعل ما زاد من حيرة ذلك المجتمع الصغير حيال هذا الرجل الغامض هو أنه كان يغيب لفترات طويلة داخل المساحة المخصصة لنومه ضمن نطاق دكانه، تاركا باب الدكان موارباً. وهناك يلتقي بسعد الدوسري وتربطهما علاقة كبيرة مع أن فارق السن بينهما كان كبيرا (تعلق سعد بسالمين أكثر فأكثر وزادت ثقته فيه مع دخوله مرحلة المراهقة، فأخذت الأسئلة للأخير تأخذ منحى مختلفا صار يسأل عن المرأة والجنس ألخ..)”. تطورت علاقتهما وعاصرا معا تلك الظروف العربية في الستينيات وكان سالمين يمثل الأب الروحي لسعد في تساؤلاته وقلقه، سعد الذي سافر وتورط وسجن ومر بالكثير من المتاعب لكن عيني سالمين ظلت ترقبه في كل اتجاه حتى وهو الآن رجل أعمال شهير ويملك الكثير من العقار ومن الأعمال التجارية، ثم تظهر سها في النص، سها التي يستخدمها الروائي لتكون رمزية عالية على الاختلاف الثقافي والمعرفي فمن خلالها ـ خصوصا وهي الفلسطينية الموجودة مع عائلتها في الخبر ـ نعثر على كثير من أسئلة المرحلة الهامة تلك المصحوبة بتطور بالغ وكبير في المدينة وفي عالمنا العربي. سها التي حلم بها سعد وأحبها وانتظرها وهام بها تفكيرا وهاجسا، لكن سالمين كان يرغب بالزواج منها كزوجة ثانية له، وبدأ مايشبه الصراع الخفي بينهما، وتحد غير معلن على الحصول على سها والارتباط بها، ومع أن سها رفضت سالمين حين تقدم لها إلا أن سفر سعد إلى مصر لإكمال دراسته الجامعية جعل الأمور تسير بشكل يريده سالمين، توافق عليه سها في نهاية الأمر مظطرة نظرا لضغوطات عائلتها ووضعهم المادي الحرج، ونظرا لثراء سالمين القادم من المكلا ـ والذي حصل بعد زواجه على الجنسية السعودية ـ والذي يكفل لها حياة آمنة، تمر الأعوام ويعود سعد طبيبا للأسنان في عيادة مدينة الخبر، ومن ثم يلتقي بسالمين لأكثر من مرة، وفي قلبه لايزال ثمة حب عميق لسها لم تمحه السنوات، إلا أنه لم يكن يطمع سوى بالقليل مما يؤجج الذاكرة وبأمل وحيد أن ينفصل عنها سالمين احتمالا ً أو كما هو واضح من خبايا النص، عاد سعد ليشهد بعينيه كل تلك التطورات على صعيد من يعرفهم أو على صعيد هذه المدينة التي نمت ونهضت بقوة وامتداد كبير فلم تعد هناك أمكنة لذاكرته التي تركها قبل أربعة أعوام، ومن ثم قرر بعد حين أن يذهب إلى كندا وهناك تزوج بعد قصة حب عميقة بكارولين الكندية التي كانت تشعر بغربة مضاعفة في السعودية وقتذاك، وبعد ان حصلا على الماجستير قررا أن يعيشا في البحرين القريبة من الخبر، وظل سعد الذي ظن انه نسي حبه لسها الفلسطينية أسيرا لسها في داخله، ولم يهدم ذلك الحب تقادم الأعوام الطويلة ولا حالتها مع سالمين، ثم يصدم فيما بعد بوفاة سها بالسرطان الذي دمرها بالإضافة إلى حياتها الصعبة مع سالمين، ولم يتسنى له حتى حضور جنازتها بسبب تأخره في نقطة التفتيش وتعنت الجوازات والجمارك في تمرير حالته. عبدالله المدني يكتب هذه الرواية وهو يعي تماما تلك المرحلة بكل مافيها من صخب وهدوء ومن أحداث ومواقف يوظفها جيدا ليعطي النص الروائي بعدا آخرا بعيدا عن أدلجة مضامينه أو رؤاه الخاصة ويحيط الرواية بذاكرة وأرشيف جيد للأمكنة الأولى في الخبر من المقاهي والشوارع والمستشفيات والمساجد فيترك هامشا صغيرا مع كل إشارة ليشرح شيئا عن المكان او الحدث. نقرأه في صفحة 107 حين يتحدث تفكير سعد بالدراسة في جامعة فرنسية وكيف أنه تعلمها بعشق في المرحلة الثانوية فيعلق في هامش الصفحة: “حتى عام 1970 كانت المناهج السعودية للمرحلة الثانوية تتضمن دراسة اللغة الفرنسية كلغة أجنبية ثانية إلى جانب الإنجليزية”، ويشير مثلا إلى “أحد أشهر العيادات الطبية الخاصة في الخبر منذ الخمسينات وكان يديرها الطبيب اللبناني ناجي النعماني بمساعدة زوجته في شارع التقاطع السابع ألخ... هذه المعلومات الكثيرة في النص عن مدينة الخبر تشكل إضافة لقيمة العمل الإبداعية مما قد لانعثر عليه بسهولة في بحثنا أو من خلال الأرشيف المكتوب، ولعل المدني يعتمد على ذاكرته الشخصية والاستقصائية المباشرة في ذلك وهذا عامل آخر يجعل هذه الرواية متميزة، نعثر على اسم أول مخبز وأول عمدة للمدينة وأول متجر وهكذا وهي معلومات حقيقية في رواية لم تتحفظ على شيء بل كانت جرئية وتطرح قضايا شائكة متعلقة بمصير الانسان وتحديه مع عالم متغير بشكل سريع بل وينمو كل يوم بشكل ملفت وفي حقبة زمنية مهمة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©