الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ارتياب.. لا بد منه

ارتياب.. لا بد منه
30 مارس 2011 20:11
خلال عقود ثلاثة فاتت من تاريخ مصر حدث انفلات ملحوظ في العلاقة ما بين المؤسسة الأمنية والمجتمع، إذ غلفها العداء والارتياب. بدلا من أن يضفي مرأى رجال الشرطة في الشوارع أمنا وسكينة على المواطنين صار وجودهم رمزًا للبطش والخوف، ما يشي بسوء العلاقة بين الطرفين، سلوك المواطن الذي يتجنب بكل ما أوتي من وسائل التعامل مع رجل شرطة أو طرق أبواب القسم حتى إن كان شاكيًا. وهو تصرف منطقي بالنظر إلى جرائم العنف والتعذيب التي صارت متوطنة في مقار الشرطة والتي يصل النزر اليسير منها إلى وسائل الإعلام، ويضل الباقي طريقه إليها. عن هذه العلاقة المرتبكة بين الشرطة والمواطن التي توجت مظاهرها بأحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير، صدر مؤخرًا عن دار صفصافة للنشر والتوزيع بالقاهرة، كتاب بعنوان “إغراء السلطة المطلقة”، للباحثة بسمة عبد العزيز. يتتبع الكتاب مسار العنف في علاقة الشرطة بالمواطن عبر التاريخ، ويقع في 127 صفحة من القطع الكبير، وقد سبق له أن فاز كبحث بجائزة أحمد بهاء الدين للباحثين الشباب عام 2009. توالي وتواري تشير الباحثة إلى عدم وجود نقطة فاصلة في التاريخ حدث بعدها هذا التحول، لكن الفرضية المثالية في تلك العلاقة، أن فصول القمع تتوالى باستمرار، قد تتوارى في فترة وتشتد في أخرى لكنها دائما حاضرة “طالما حضرت السلطة المطلقة وغاب الناس عن المشاركة”. ويتعرض البحث لمسار العنف كمشهد واحد متصل عبر التاريخ، فـ”تتبع أداء الشرطة لدورها خلال المراحل التاريخية المختلفة يحمل شيئًا من الأهمية، إذ يتيح الفرصة لرصد العلاقة التي تكونت بينها وبين المواطن على مر قرون طويلة، ويلقي بعض الضوء على التطورات التي حدثت فيها والشوائب التي تراكمت عليها، والأسباب التي أدت بهذه العلاقة إلى أن تصل لما هي عليه اليوم في مطلع القرن الحادي والعشرين من توتر وارتياب، بل وعنف شديد في التعامل أصبح متبادلًا، وصار قاعدة لا استثناءً”. واعتمد في رصده بالأساس على وجود البشر في المكان بصفتهم الحلقة الثابتة في سلسلة طويلة من الصراعات والمتغيرات. يبدأ الكتاب بتاريخ تكوين الأجهزة الأمنية، حيث “لم يخلُ مجتمع على مر العصور من وجود جهاز أو كيان ما، تكون مهمته الأولى الحفاظ على الأمن وحماية الأفراد والممتلكات وتنظيم شؤون الحياة”، فقد “عرفت مصر القديمة منذ آلاف السنوات أقدم جهاز أمني، وشهدت بناء أعرق مؤسسة شرطة في العالم في عهد الأسرة الأولى على وجه التقريب. تعرضت الأجهزة الأمنية المصرية بوجه عام إلى تغيرات كثيرة واكبت الظروف التي مر بها المجتمع، فظهرت لها وظائف ومسميات متنوعة مع كل فترة زمنية خضعت فيها مصر لحكم جديد؛ حيث كان من المحتم أن تلبي هذه الأجهزة متطلبات واحتياجات الحكام المتباينة ـ كلٌ حسب النظام الذي يُرسيه”. ويتعرض الكتاب لشكل العنف الذي مارسته في بعض الفترات البارزة، مؤكدًا أنه “لم تكن مختلف الممارسات العنيفة بما فيها التعذيب من الأمور المخفية أو التي تمارس على استحياء، بل مثلت عقابًا مستساغًا ومشروعًا لكل من يراه “الحاكم” مستحقًا له. إنها سمة مشتركة بين العصور القديمة من تاريخ البشرية، إذ لم يكن العنف البدني أمرًا مستنكرًا بل منهجا عاديا. في أوروبا كان التعذيب وسيلة من وسائل العقاب التي ظلت مستخدمة حتى القرن الثامن عشر تقريبًا، وفي الدولة الإسلامية كان العنف والتعذيب على أشدهما رغم التحريم”، ثم ينتهي الفصل الأول بنهاية حكم الرئيس السادات، حيث يشير أن فترة حكم السادات “شهدت تراجعًا واضحًا في العنف الموجه للخصوم السياسيين، حتى كادت أحداث التعذيب أن تنحصر في عدد محدود من الوقائع المشهورة، يُذكَرُ منها على سبيل المثال: التعذيب الشديد الذي طال جميع من اتهموا باغتيال رئيس وزراء الأردن. أما سلوك الشرطة تجاه المواطنين العاديين، فقد انتابته بعض التغييرات التدريجية. إذ ظهرت بوادر لعنف أفراد الشرطة في حوادث متناثرة هنا وهناك، وإن ظلت مجرد استثناءات لا تشكل منهجًا سلوكيًا عامًا” . ويستعرض الفصل الثاني بدايات العنف المنهجي في الثمانينيات والتسعينيات والتطورات التي لحقت به، واتساع الدائرة التي أخذ يطال أفرادها، حيث “لم يقتصر العنف على تعذيب مشتبه فيه أو متهم في أماكن الاحتجاز المتنوعة التي تراوحت بين الأقسام والمعسكرات، فعلى الجانب الآخر تنامت السياسات الأمنية العقابية ورصدتها تقارير المنظمات الحقوقية”، فقد “أبدت الملاحظات (التي جاءت في تقرير المنظمة العربية لحقوق الإنسان للعام 1988) تخوفًا مُلِحًا من الظاهرة وأطلقت عليها مسمى “الحملات الأمنية”. تطور الوعي وفي الفصول التالية يلقي الكتاب الضوء على صورة الشرطي التي تكونت في وعي المواطن وعلى مدار سنوات من القمع المتواصل، ثم يتعرض للعوامل والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي يمكن في ظلها فهم التطور في العلاقة بين الشرطة كونها أداة تنفيذية للدولة والمواطن، وطرفًا أصيلًا في عقد اجتماعي ينبغي أن يضمن له حقوقًا غير خاضعة لأية مساومات، وينتهي الكتاب باستعراض رد فعل المواطن على كم العنف الموجه إليه ومآل العقد الاجتماعي الذي أصابته الشروخ في جهات متعددة، فقد تنبأ البحث الذي صدر قبل أيام قليلة جدًا من أحداث الخامس والعشرين من يناير، بغرض اللحاق بمعرض الكتاب والذي كان قد تقرر افتتاحه في التاسع والعشرين للشهر نفسه، قبل أن يتم تأجيله إلى أجل غير مسمى، بما حدث يوم جمعة الغضب 28 يناير، حيث أوردت الباحثة في نهاية الكتاب فصلًا بعنوان “الأدوار المتبادلة” والذي يستعرض رد فعل المواطن على كم العنف الموجه إليه، من خلال استباحة المواطن ل”القانون”، وما تستبيحه الشرطة لنفسها، واستباحة المواطن للشرطة، ثم “انفراط العقد وغياب الدولة” حيث أشارت تحديدًا تحت بند “واستباحة المواطن للشرطة” أنه “لم يعد في استطاعة الناس تحمل مزيدًا من القهر والإذلال من دون أن يلمسوا أي أمل في تحقيق تقدم أو بناء مستقبل أفضل، فلا الدولة المستبدة قادرة على تحقيق مستوى معيشة مقبول، ولا هي تحفظ لهم الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية.. لم تعد العلاقة بين المواطن والدولة وعسكرها مبنية على الخوف والخضوع فقط؛ بل تلونت بكثير من التحدي والعداء”. ويؤكد البحث أن مقتل الشاب السكندري خالد سعيد بعد ضربه وتعذيبه في الشارع على يد اثنين من أفراد الشرطة أحدث تغييرًا كبيرًا في وعي الناس، من ناحية فإنه جذب اهتمام الكثيرين إلى قضايا التعذيب والعنف الأمني، ومن ناحية أخرى دفع بحركة واسعة منظمة انتقلت إلى الشارع عبر الإنترنت؛ هدفها الأول ـ كما يبدو ـ هو متابعة الإجراءات والتطورات لعدم نسيان القضية والضغط لضمان عقاب عادل لمرتكبي الجريمة، الآليات التي اتبعتها هذه الحركة شجعت الكثيرين على الانضمام لها؛ إذ لم تدع إلى عمل ميداني عنيف، بل على العكس؛ فإنها استخدمت وسائل غاية في البساطة والذكاء تحايلت بها على جميع الأفعال التي تجرمها حالة الطوارئ، من ثم؛ فإنها قد أوجدت ليس فقط تعاطفًا، بل ومشاركة متزايدة من الناس العاديين، المثابرة والإصرار على التذكير بمقتل الشاب تطور جديد في الأداء، فقد جرت العادة على أن تفتر الحماسة المصرية سريعًا وينسى الناس بسرعة أكبر مآسيهم ويعتادوا على أزماتهم، وهو الأمر الذي ظهر جليًا في الثورة التي قام بها الشعب المصري في 25 يناير من العام الحالي، ولعبت تلك الحادثة دورًا كبيرا في التمهيد لتلك الثورة. اعتمد البحث في مادته على المواطن الذي لا ينتمي إلى أي حزب أو جماعة أو أي كيان معارض سياسيًا كبؤرة أساسية للاهتمام، لذا فهو يغفل عدة مباحث في علاقة الشرطة بالمجتمع منها علاقة الشرطة بالجماعات الدينية وما قامت به هذه الجماعات من حوادث عنف تجاه الأجهزة الأمنية وأفرادها، لأن العنف المتبادل بينهما “لا يمكن أن يُقَدم كرافد رئيسي من روافد التوتر في العلاقة بين الشرطي والمواطن العادي، الذي صار يخشي من مجرد المرور بجوار قسم أو مركز من مراكز الشرطة من دون أن يكون مذنبًا حتى إن كان شاكيًا”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©