الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ميزان العدالة شيطان قتل أمه

ميزان العدالة شيطان قتل أمه
22 يناير 2009 23:46
فشل في التعليم فشلاً ذريعاً ولم يحصل على أدنى الشهادات ولم يجتز المراحل التأسيسية الأولى وخيب آمال أبيه وأمه وهو وحيدهما حيث جندا حياتهما من أجله وأراد أبوه بلا جدوى أن يسلحه بالعلم وينقذه من الجهل· ولم يرد الأب لابنه أن يُعاني مثل معاناته، ويعيش على هامش الحياة وبذل كل جهده ليلحقه بالمدرسة بعدما أصبح التعليم متاحاً لأبناء جيله وتوفرت المدارس والجامعات بالمجان، وأصبح الجميع متساوين فيها والمجال مفتوحاً للمنافسة والتفوق لا فرق بين غني وفقير· لكن ''سامي'' لم تعجبه المدرسة ولا الدراسة ورفض هذا كله وبكى في بداية الأمر بحرقة ليستعطف والديه من أجل اخراجه من المدرسة ورضخا له بعد أن استطاع أداء دوره التمثيلي بإتقان· وعندما تكررت حيله وألاعيبه وأصبحت مكشوفة بحث عن غيرها وأوهم أبويه بأنه يذهب في الصباح إلى المدرسة بينما يذهب إلى اللعب والتسكع في الطرقات إلى أن يحين وقت العودة فيرجع إلى البيت ولا يفوته أن يظهر الإعياء الوهمي من كثرة الدروس والواجبات وفي ذلك الوقت لم تكن هناك امتحانات ولا تقويم كان يتم نقله من سنة إلى أخرى تلقائياً، وفي أول شهادة بعد ست سنوات انكشف المستور ورسب وتأكدت الصدمة لأبويه، وإذا به يرفض بشكل قاطع الذهاب إلى المدرسة وهو أصلاً لا يذهب إليها· عرف طريقه إلى أصدقاء السوء من أمثاله وراحوا يُشاركونه فشله وألاعيبه، وكانوا من المدخنين رغم حداثة سنهم، ولأن ما يتقاضونه من مصروف يومي لا يكفي رغباتهم لجأوا إلى سرقة بعض الأشياء من منازل آبائهم، وما تقع عليه أيديهم من الأموال ومع تقدم العمر بهم وانتقالهم إلى مرحلة الشباب تعاطوا المخدرات بكل أنواعها ينفقون عليها من المال الحرام وأدمنوا هذه السموم كما أدمنوا السرقة· وارتكب ''سامي'' وشلته جرائم لا حصر لها ولا يتذكرون ضحاياها ولا تفاصيلها· فكل يوم لهم ضحايا جدد ومات أبوه حسرة وكمداً بعدما أعيته تصرفات ابنه الوحيد وانحرافه وتركه مع أمه الضعيفة التي لا حول لها ولا قوة· وتخشى التعامل معه أو مجرد الحوار فكثيراً ما دفعها وصفعها وركلها من أجل أن يحصل على القليل مما معها من القروش التي تجمعها كل يوم من تجارتها البسيطة في بيع الخضر على الرصيف· وهي قانعة راضية بما يرزقها الله به كل يوم ولا تطلب إلا الستر وأن يهتدي ابنها وتستقيم أخلاقه وسلوكياته· وجاءت لحظة التحول في حياة ''سامي'' عندما تتبع امرأة في الشارع مع آخرين من أقرانه وأصدقائه الذين هم على شاكلته واستوقفوها وهددوها بالسكاكين أن تخلع ما بيدها من حُلي ومجوهرات ولم تستطع الاستغاثة وحبست المفاجأة صوتها وعقدت لسانها وأصيبت بالخرس وخارت قواها، ترتعد خوفاً ورعباً، فعيونهم تظهر الشر كله وتصرفاتهم تنم عن أنهم من أرباب السوابق والجرائم ولن يتورعوا عن إلحاق الأذى بها إن هي نطقت بكلمة واحدة أو عارضت مطالبهم وليس أمامها إلا الاستسلام التام وإلا فالموت الزؤام· وكان الشارع خالياً تماماً من المارة إلا أن بعض الذين يسيرون هناك بعيداً وتتراءى خيالاتهم وظهر من بعيد بعض الأشخاص قادمين نحوهم مما جعل المجرمين يتعجلون إنهاء مهمتهم فلم يستطيعوا أن ينتزعوا الأساور الذهبية من يد المرأة التي كانت بدينة وبكل قسوة وتجرد من الرحمة والإنسانية قطعوا ذراعها كله وألقوه في كيس بلاستيكي بدمائه ومجوهراته وتركوا ضحيتهم تنزف وتصارع الموت إلى أن تم اكتشاف أمرها وحضر رجال المباحث وتم نقلها إلى المستشفى وبعد إسعافها روت تفاصيل الحدث الجلل والمصاب الأليم وأدلت ببعض أوصاف الجناة وأصواتهم وملابسهم· وأثناء محاولتهم بيع الذهب المسروق تم القبض عليهم وأمرت النيابة بحبسهم وتقديمهم لمحاكمة عاجلة· وأمام محكمة الجنايات لم ينكروا فالتهمة ثابتة وقضت المحكمة بمعاقبتهم بالسجن 15 عاماً لكل منهم· وأم ''سامي'' ينفطر قلبها لهذه النهاية الأليمة والطبيعية لابنها جزاء ما اقترفت يداه من آثام· وتحجرت دموعها إلا من قطرات سالت على خديها وحاولت أن تعزي نفسها بأن السجن إصلاح وتهذيب وتأديب· لعل الزنزانة والأقفاص الحديدية والأسوار الشائكة تنجح في إصلاح فساده ويخرج صالحاً مستقيماً كما يحدث للكثيرين· وودعته بنظرات الأم التي تفقد ولدها الوحيد رغم كل سوءاته فهو فلذة كبدها ونسيت كل تصرفاته معها وإهاناته لها ولم تتذكر إلا أزمته الراهنة وما ينتظره من ظلام في السجن وتقييد للحرية· واقتادوه إلى محبسه وهو لا يعبأ بما حدث ولا يحرك ساكناً·· فمشاعره توقفت عن العمل وأحاسيسه مفقودة منذ زمن طويل وودعته أمه وهي لا تجد كلمات تقولها له ولا لنفسها واكتفت بأن تعيش مع أحزانها الدفينة وتعود به إلى منزلها المتواضع تستعيد شريط حياتها من بدايته· وتمر السنوات بطيئة ثقيلة على كليهما فهو يعاني آلام السجن ومعاناة أمه كانت أكبر فهو يأكل ويشرب وينام ولا يتحمل أي مسؤولية ولا يهتم بشيء وهي تعاني كل المعاناة بين عملها وتحصيل رزقها وادخار كل ما يقع في يدها من مال قليل تجمعه إلى أن تحين زيارته الشهرية فتتحمل عناء السفر البعيد وتتكبد مشقته وتنتظر موعد الزيارة لتدس في يده المال مع ما تحمله إليه من طعام محاولة التخفيف عنه ومع ذلك فإنه لا يرى في صنيعها ما يشبع نفسه الأمّارة بالسوء ولم يقدِّر لها متاعبها ولم يرحم شيخوختها بعدما تقدمت بها السن وقد قاربت الستين من عمرها وضعفت قواها وتتحرك بصعوبة· بالاضافة إلى الأمراض الكثيرة التي داهمتها لكن لا تهمها حياتها وترى أن ذلك ليس مهماً فقد عاشت طوال هذه السنين نصف امرأة تحمل جسد أنثى لكنها تقوم بأعمال الرجال· خاصة منذ أن رحل شريك حياتها وودَّع الدنيا وترك لها هذا الولد الشقي ورضيت وعاشت السنين من أجله وحده ولم تكن تنتظر منه شكراً ولا ثناء ولا رداً لمعروف بل تريده راضياً سعيداً مستقراً في حياته· ومضت سنوات السجن الخمس عشرة بطولها وعرضها وانتهت بمرها فلم يكن فيها يوم يمكن أن يُقال أنه حلو على كليهما· وخرج ''سامي'' وقد اقترب من الأربعين من عمره وعاد إلى بيت أمه التي أقعدها المرض ومنعها من الذهاب إليه في ذلك اليوم الذي كانت تنتظره وتتمناه· وجاء قبل أن تودع الدنيا لترى فلذة كبدها حراً طليقاً بل لم تستطع الوقوف على قدميها اللتين هدَّهما المرض وجلس بجوارها وتعلقت برقبته وغلبتها دموع الفرحة فهذه هي اللحظة الوحيدة التي فرحت فيها في حياتها غير أنها لم تدم طويلاً وكانت قصيرة ولم تتكرر واستطاع أن ينهيها ويعكر عليها صفوها في الأيام الأولى بتصرفاته وسوء خلقه الذي لم يؤثر فيه السجن والعقاب فزادها غماً ويئست وفقدت كل أمل خاصة أنه يختفي أياماً ويعود إليها ساعات قليلة ليحصل على ما معها من نقود لينفقها على ملذاته وإدمانه الذي عاد إليه· ولم تردعه سنوات السجن وظلامه وقسوته، ولم تزده إلا عنفاً وقسوة· ستة أشهر مرَّت على خروجه من السجن وتوجه إليها يطالبها بالمزيد من المال لكن هذه المرة يريد مبلغاً كبيراً ليتمكن من الزواج وكان ذلك فوق طاقتها فهي لا تملك من متاع الدنيا شيئاً كل ما كان في يدها أنفقته عليه في سجنه ولم يرحمها وعاد لسبها وشتمها وضربها رغم آلامها الشديدة وخرجت منها كلمات تدعو عليه وهي تعلن غضبها وعدم رضاها عنه· وأخذته العزة بالإثم فاستل ساطوراً كان يرتكب به جرائمه وانهال عليها ضرباً وشطرها نصفين وأراد أن يخفي جريمته معتقداً أن أمه لا قيمة لها ولن يسأل عنها أحد غيره فوضع كل نصف في جوال بلاستيكي وألقى الجثة في مواسير الصرف الصحي ولكن ظهرت جريمته وتم العثور أولاً على نصف المرأة السفلي وتم تكثيف التحريات وجمع المعلومات والتوصل إلى شخصية المرأة التي كما عاشت نصف امرأة ماتت أيضاً نصف امرأة وألقي القبض على المتهم ليعود إلى السجن مرة أخرى ولكن هذه المرة وهو يقارب الأربعين من عمره ويقضي حكماً بالمؤبد فلم يكن في القانون عقوبة أكبر من ذلك في مثل هذه الجريمة رغم بشاعتها غير أنه لن يجد من يزوره في هذه السنين القاسية العجاف، فقد قتل من كانت تحنو عليه
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©