الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ارتباكات بني البشر

ارتباكات بني البشر
17 يوليو 2008 02:49
ثمة في المتون العربية القديمة إصرار على إسناد الحكايات والأخبار إلى أكثر من راو، حتى أن السند يطول، أحيانا، أكثر من المتن نفسه· ولئن كانت هذه الطريقة في ابتداع الحكايات وتناقلها تهدف إلى منح الحكاية مصداقية حتى يسلّم المتلقي بصحّتها، فإنها تشير أيضا إلى أن الحكي في الثقافة العربية كان طقسا جماعيا تشترك الأجيال في ابتداعه وتمنحه القدرة على توسيع دائرة انتشاره عبر التاريخ· والناظر في العديد من الحكايات يلاحظ أنها لم تكن تنشد التسلية بقدر ما كانت تصوّر ارتباكات بني البشر من جهة كونهم مجرّد بشر، وتكشف للمتلقي ما يربض في دواخله من أهواء وتمجيد للذّات· يكفي أن ننظر في حكاية وضّاح اليمن التي تناقلها الرواة جيلا بعد جيل وسيتبيّن أنها ليست حكاية رجل افتتن بامرأة وانقاد إليها فأسلمته إلى حتفه، بقدر ما هي حكاية تريد أن تخدع المتلقّي وتمكر به وتضعه شاهدا على ما في نفسه من نزوات· فأمّ البنين التي تغزّل بها وضّاح اليمن، ثم تسلّل إلى مخدعها متحديا سلطة الخليفة ليست امرأة عاديّة· إنها امرأة محصّنة بالممنوعات التي تجعل الوصول إلى مخدعها أمرا مستحيلا· فهي زوجة في عصمة رجل· وليس زوجها رجلا عاديّا بل هو خليفة له على أرزاق الناس وأعناقهم سلطة مطلقة· هكذا تبتني الحكاية فكرة منازلة المستحيل وما ينتج عنها من تهلكة، لتلحّ على أن الصعاب والمخاطر هي الطريق إلى البطولة والمجد· وهي تنجح، على بساطتها واقتضابها، في إضفاء هالة أسطوريّة على وضّاح اليمن· فهو الذي يتخطّى الصعاب ولا يبالي بالمخاطر والعواقب حتى أنه يلقى مصيرا فاجعا في منتهى القسوة· غير أن هذا المصير الفاجع هو الذي يجعل المتلقي يحتفي بوضّاح باعتباره بطلا نازل المستحيل· يتجلى مكر الراوي أيضا في الاقتضاب ومحو التفاصيل· فهو لا يحدّث عن كيفية تسلّل وضّاح إلى مخدع أم البنين· كيف تخطّى أسوار قصر منيع· كيف نجح في مخاتلة العسكر والحرّاس· كيف عبر الأروقة والدهاليز· كيف استدلّ على الطريق المؤدية إلى المخدع المستحيل· إن الراوي يتعمّد ترك كل هذه التفاصيل لخيال المتلقي حتى يشركه في حدث السرد ويورّطه في تأثيث الحكاية وبناء السرد وامتداداته· وبذلك يوطّد العلاقة بين الحكاية ومتلقيها، فيما هو يحوّل وضّاحا إلى رمز ويجعله محبّبا إلى النفس، ويستدرج المتلقي ويدرجه في عالم الحكاية فيصبح مورّطا في فعال وضّاح التي تتعارض مع الأخلاق والأعراف· لقد ارتقى وضّاح إلى مصاف الرمز بأفعاله، والافتتان بشخصية يتضمّن افتتانا مماثلا بأفعاله· وتلك طرائق الحكاية في إطلاع المتلقي على ما يربض في لاوعيه من ميل للنزوات والأهواء· حتى لكأن الحكاية تستدرج إلى النور نزوعات مرمية هناك بعيدا في مدائن أعماق المتلقين كي تضعهم في حضرة ارتباكات بني البشر من جهة كونهم مجرّد بشر·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©