الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تظاهر المحبين

تظاهر المحبين
17 يوليو 2008 02:51
للحب في الوجدان العربي ثقافة خاصة، وتراث شعري زاخر· وغالبًا ما يصطدم بالروابط العائلية وتقاليد المجتمع؛ فيتخذ له مسارب خفية متشعبة· وقد سجل بعض الشعراء شواهد على جبروت الطبيعة العاشقة وقدرتها على التحايل، فهذا شاعر يصف طريقته الخاصة في التواصل مع محبوبه: يكذّب أقوال الوشاة صدودها ويزداد شكًا في هوانا قعيدها أنازع من لا أستلذّ حديثه ويجتازها طرفي كأن لا أريدها وتحت مجاري الطرف منا مودة ولحظات سرّ لا ينادي وليدهـا رفعت عن الدنيا المنى غير ودها فلا أسأل الدنيا ولا أستزيدها فهو يتجاهل صاحبته وهي تصدّ عنه، ويتشاغلان عن بعضهما بالكلام مع ''من لا يُستلذُّ حديثه'' بينما يتواصلان سرًا بنظرات لا يدركها غيرهما، تشق مجراها بمودة لا نظير لها، وشاعرنا يكتفي من الدنيا كلها بهذا الود المكتوم، و''يرفع من الخدمة'' بقية الأمنيات· وقد تضطره العقبات الصارمة إلى أن يصل في تظاهره إلى الهجر، فيصور حينئذ موقفه بمثل قول الشاعر الآخر: هجرتكِ لا قِلًى مني ولكن رأيت بقاء وُدّك في صدودي كهجر الحائمات الوِردَ لمّا رأت أن المنيّة فى الورودِ تفيض نفوسها أسفًا وتخشى حمامًا فهي تنظر من بعيدِ كما نظر الأسير إلى طليق يُلـمُّ بلاده لشهود عيد وتجمل هذه المقطوعة قصتين إحداهما واقعية والأخرى افتراضية متخيلة· أما الأولى فقد وردت في كتب الأدب، حيث قال الزجاجي في أماليه: ''أخبرني بعض أصحابنا قال: حضرت مجلس أبي بكر بن دريد وقد سأله بعض الناس عن معنى هذه الأبيات فقال: الحائمات هي الأيائل التي تدور حول الماء ولا تصل إليه، ذلك لأنها تأكل الأفاعي في الصيف فتحمى وتلهب لحرارتها، فتطلب الماء، فإذا وقعت عليه امتنعت من شربه وحامت حوله تتنسمه لأنها إن شربته في تلك الحال، وصادف الماء السم الذي في أجوافها تلفت· فلا تزال تدفع شرب الماء حتى يطول بها الزمان فيسكن فوران السمّ، ثم تشربه فلا يضرها· فيقول الشاعر: فأنا في تركي وصالك، مع شدة حاجتي إليك، إبقاء على ودّك، بمنزلة هذه الحائمات التي تدع شرب الماء مع شدة حاجتها إليه إبقاءً على حياتها''· أما الصورة الثانية المتخيّلة فقد أجملها الشاعر في البيت الأخير، وكأنه يحكي لقطة الختام في أقصوصة شعرية مكثفة بالغة التركيز والإيحاء عندما ينظر الأسير إلى الطليق الحرّ وقد عاد بعد غيبة لشهود يوم عيد مع أحبابه، فيشعل ذلك نار التحنان والفقد لدى الأسير، ويصبح هذا اليوم أصعب عليه من سنوات الأسر كلها، ويتجلى ذلك في نظرته التى تعادل نظرة المحب الشجيّ إلى محبوبه دون أن يكون قادرًا على الإشارة إليه والتواصل معه· وهكذا نرى في ثنايا هذه الأدبيات فلذات ثمينة تختزل طاقة سردية هائلة في التمثيل الجمالي للحياة لم يقدر لها أن تتفجر إلا في قصص العصر الحديث المفعمة كذلك برواء الشعرية·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©