الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شاعر متنكر بزيّ جندي

شاعر متنكر بزيّ جندي
27 مارس 2013 20:17
ربما تكون تقلبات الحياة هي ما تدهش الحياة نفسها بسبب رعب الغرابة والمصادفة، فتعطيها مذاقا خاصا، ولا أدل على ذلك من روح المشابهة بين الشاعر الأميركي الجندي براين ترنر والشاعر العراقي الجندي حيدر الكعبي، واللذين التقيا هناك عند غربتهما، في العراق عندما كان الأول فيه، وفي أميركا، عندما اصبح للثاني وطنه الجديد، غير انهما لم يعرفا ابدا أنهما سيلتقيان عند ضفاف الشعر وولعه الوجودي. حيدر الكعبي، شاعر عراقي مولود في البصرة سنة 1954، وفي عام 1979 ترك دراسته في جامعة بغداد، ثم سيق جندياً في حرب الثمانينيات، لكنه استطاع الهروب منها وبقي متخفياً، بهويات منتحلة، وفي أماكن عراقيةٍ شتى. وبعد الثاني من آذار عام 1991 أمضى ما يربو على ثلاث سنوات لاجئاً في مخيمي أرطاوية ورفحاء. يقيم الكعبي حالياً في الولايات المتحدة الأميركية، ويحمل جنسيتها، وأكمل دراسته الجامعية والعليا فيها، ترجم وقدم مؤخراً للشاعر الأميركي براين ترنر ديوانه «هـُنا أيّتها الرّصاصة». يؤكّد الكعبي في مقدمته أنه قرأ بعض قصائد الشاعر ترنر قبل أن يلتقيه عام 2009 إذ كانا ضمن المدعوين من قبل دار نشر جامعة ميشيجان لقراءات شعرية، من «أزهار اللهب: أصوات العراق غير المسموعة» وهي أنطولوجيا الشعر العراقي الصادر عن تلك الدار عام 2008، وحين صعد براين المنصة قال: إنه يأمل أن تقام أمسية مثلها في العراق لكي يشارك فيها إلى جانب الشعراء العراقيين». ضد الحرب براين ترنر، الشاعر الواقف ضد الحرب، لم يدعَ للدخول في الجيش الأميركي، لكنه عند بداية الاستعدادات لعملية «تحرير العراق» كما كانت تسمى، تطوع فيه، وقد تجاوز عمره الثلاثين عاماً، إضافة إلى انه يحمل شهادة الماجستير. وفي كل ما جرى معه من أحاديث كان يواجهه السؤال التالي: «لماذا تطوعت في الجيش، هل لتسهم في هذه الحرب، البعيدة عن حدود أميركا، وأنت المعروف انك مناهض للحرب هذه»!، فيرد بأجوبة عدة تحمل ذرائع شتى بعضها شخصية، وأخرى عامة، لكن كل تلك الإجابات، تتلخص بدوافع ثلاثة، وهي عائلية وسيكولوجية واقتصادية، وبالنسبة للعامل الأخير يوضح براين: «كنت قد تزوجت منذ فترة قصيرة وقلت لنفسي سأعود مما وراء البحار لأكون عائلة، وهي طريقة مثلى وعملية لشخص حديث الزواج، فالذهاب للجيش يحل معظم المشاكل المالية وعبره سددت قروضي الدراسية». ويذكر: «نشأتُ وفي عظُمة كتفيَّ شريحة بروليتارية»!. وهذا يعني انه ينتمي لعائلة فقيرة. ويعلن بصراحة انه «في بداية زواجي لم يكن لدينا ما يكفي لشراء حتى وسادة»، والذهاب للجيش حل كل هذا، إضافة إلى أنه مكنه من أن يسدد قروضه الدراسية الجامعية العليا، فمن المعروف أن تلك الدراسات باهظة الكلفة جداً في الولايات المتحدة الأميركية، وهي في هذا تكون من نصيب الأثرياء غالباً. بسبب تطوعه في الجيش يؤكد براين أنه تمكن من حل المصاعب الاقتصادية التي كانت تواجهه، وهنا يكشف عن الوفرة المالية التي تتعامل بها الإدارة الأميركية مع منتسبي مؤسستها العسكرية وهو «سخاء يشطب بجرة قلم واحدة كل المشاكل المادية التي يرزح تحتها» كل مَنْ ينخرط في الآلة العسكرية الأميركية. زي جندي وفي الجيش الذي اجتاح العراق أخفى براين عن الجميع كونه شاعراً وبقي شديد الحرص على أن يظهر بصفة الجندي فحسب والمقاتل المتخم والمدجج بالتجهيزات العسكرية، وتظهره الصور «شاهراً بندقيته، مقطباً مستعداً لإطلاق النار»، كان براين إذن «شاعراً متنكراً في زي جندي». تتألف «هنا أيتها الرصاصة» من 170 صفحة، وتحتوي على مقدمة للكعبي، التي نؤكد استفادتنا منها في ما يخص الشاعر براين. تنقسم «هنا أيتها الرصاصة» الى أربعة أقسام، احتوى الأول منها 14 قصيدة والثاني 13 والثالث 6 والرابع 13، وثمة ملاحظات للكعبي، كان لابد منها، وتنحصر في حرصه بقدر ما يستطيع على اختيار الكلمات والعبارات المعروفة الشائعة على السنة الناس في العراق، كما قام بتثبيت الاستشهادات التي يوردها الشاعر في مقدمة نصوصه التي يقتبسها من القرآن الكريم، والتي سبق وترجمها نسيم جوزيف داوود الى الإنكليزية، لكن الكعبي يؤكد اعتماده النص العربي، كما ورد في القرآن نصاً في اللغة العربية، وفعل هذا مع النصوص المقتبسة من المعري والجواهري وفاضل العزاوي. قصائد براين ليست من صنع الخيال الجامح، لشاعرٍ لا يحدق فيما يراه، بل هي الواقع الذي شاهده وتلمسه والتصق به عن قرب، والجحيم الذي عاشه والعذاب الذي جربه، والمجهول الذي كان يخشاه كـ «إنسان» زجَ بنفسه للأسباب المذكورة أعلاه في المكان الخطأ والزمن الخطأ وبإرادته الشخصية، والتي يكمن خلفها ما تطرقنا إليه آنفاً. بعض هذه القصائد قصيرة وأخرى طويلة ولكنها مكثفة ومقطرة إلى حد كبير، ولا فائض لا معنى له فيها: ما أنْ تنطقْ كلمة «موت» حتى تسمعَ سلاسل الرياح تندفع صوب حُجُبِ المجهول ? ? ? الدبابات تدير سرفاتها الثقيلة كجنازة المتحف باتجاه وزارة النفط أحد الرماة يراقبُ أسداً يتعقب حصاناً ? ? ? الكراكي تعشش فوق خطوط الكهرباء في أوكار هائلة كطاسات كبيرة من العيدان والغصون. أحد العرفاء،على الخط السريع، يطلق النار فيصيب واحداً، يَذهلُ الطير، لحظةً، كأنه يَعْجبُ أن يأتيهُ الموت هنا، في الساعة السابعة من هذا الصباح الجميل قبل أن يميلَ إلى الجانب، ويتهاوى ببطء منحلاً إلى اجنحة وريش. ? ? ? ثمة قمر من الدم معلقٌ فوق دجلة. وثمة طلب بإخلاء الجرحى ينقله المذيع مشوشاً، وتفاصيل عن انزلاق شاحنة أسلحة وسقوطها في مياه الصيف الداكنة السريعة الجريان وعن رجلين لم يتمكنا من الخروج. المصائر المحزنة براين ترنر في قصائده المترجمة لا يبتعد عن قصيدة الذات، لكنها المبصرة، انه يربطها بالوجود الشخصي والمصائر المحزنة والمأساوية لعامة الناس وبالتاريخ في العراق، وفيما جرى فيه ولشعبه، قبل تلك الحرب وخلالها وبعدها، يكشف الأميركي براين ترنر الشاعر المتنكر بـ»زي الجندي» أنه لم يكن يتنزه لقضاء عطلة نهاية الأسبوع أو للسياحة هنا، فعلى هذه الأرض جاء ليقتلَ أو يُقتلْ، وثمة هنا أيضاً من البشر مَنْ مات أو سيموت، قتلاً، من المدنيين والمدنيات، بغض النظر عن المهمات، بلا ذنوب أو آثام أو خطايا، وفي كل الأعمار، ومن كل المكونات، التي تعيش في بلد عاثر الحظ طوال قرون: في الجوار امرأة عجوز تحتضن حفيدها تهمس له وتهزه فوق ركبتيها كأنها تهده لينام، يداها مبللتان بدمه، ثوبها الأسود مشرب بدمه، فجأة تنهار ساقاها تحتها فتلتحم بالطفل على الأرض ? ? ? يقال إن جنة عدن قد ازدهرت هنا ذات يوم وإن هذا ما تبقى منها: غبارٌ وعقاربُ رياحٍ وطيورُ أبي زريقٍ، الشبيهة بالغربان، تنعب بصوتٍ محشرجٍ مثل أطلال أغنية، شبحُ جمال غابرٍ يتشبث بمساقط الظل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©