الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عين على العام 2020

عين على العام 2020
27 مارس 2013 20:20
أغلب الظن، أن فكرة النحت قد بدأت إحساسا ثم خبرة بشرية، فاستقرّت، أخيرا، بوصفها معرفة، حيث قلّما تتحول المشاعر إلى أفكار، والأفكار إلى معارف ترفد التجربة الإنسانية. ترُى ما هو ذلك الإحساس الذي حرّك تلك المجموعة من الأفراد في ندوة الثقافة والعلوم، ومن موقع مسؤوليتهم فيها، إلى اتّخاذ قرار بإقامة سمبوزيوم للنحت يُقام سنويا في دبي، في الوقت نفسه الذي نعلم فيه أن قرارا من هذا النوع، ينبغي أن يكون مسبوقا بوعي حادّ ما تعنيه فكرة النحت بإرثها التاريخي والفني وحتى السياسي والديني؛ وعي حتى لو كان مُضمراً فإنه حادّ الوضوح. لقد أقيمت التماثيل الكبرى، غالبا، في لحظات تاريخية حسّاسة أو قاسية في تاريخ الأمم؛ لحظات نابعة من الذات ومن مقدرة هذه الذات على أن تبني صورة لذاتها في هيئة تحفظ لها ديمومتها كأمة وتُحدث لها كينونة وحضور تحت الشمس. وتلك التماثيل كانت أحياناً على بوابات عمائر كبرى وكنائس تاريخية وأثرت في تاريخ الفن إجمالاً، وليس النحت والعمارة وحدهما، وباتت كلاسيكية من قرون خلت. إنها الآن علامات فارقة في تاريخ النحت. سادت هذه النظرة تجاه النحت حتى الأزمنة الحديثة للفن، بعد ذلك خرج فن النحت من التعبير عن الجماعة إلى التعبير عن الذات، أي أنه أصبح فنا يمارسه أفراد من أمم تخطّت مرحلة إنجاز كينونتها ووصلت إلى رغبة الفرد في التعبير عن ذاته عبر النحت، ومن هنا برزت الاتجاهات الفنية بمختلف أطياف التيارات والمدارس التي شهدها هذا الفن، خاصة في القرن العشرين، مثلما أنه حدث ذلك الافتراق الذي لا عودة عنه بين النحت والعمارة، وبين الديني والدنيوي، وبين الوظيفي والجمالي، وبين المعنى والمبنى. ولادة جديدة في هذه المرحلة من تاريخ دبي، مثلما من تاريخ الفن في دبي، تأتي ولادة السمبوزيوم، أو ما سُمِّيَ رسميا بـ»ملتقى دبي للنحت» يُضاف إليه رقم السنة التي يُقام فيها كأنما ليكون معبّرا، بذلك، عن ولادة جديدة للملتقى. لكن ما السياق الفني الذي يولد فيه السمبوزيوم، بمعنى آخر: ما الوضع الذي هو عليه فنّ النحت الآن في العالم؟ خاصة وأنّ الملتقى الذي بدأ عربيا يُخطّط له أن يكون عالميا، وذلك بدءا من دورته الثانية. بحسب ما أعلنت اللجنة القائمة على الملتقى والمنبثقة عن مجلس إدارة الندوة. هناك اليوم الكثير من الاتجاهات الفنية المتداخلة في فن النحت، مثلما هي الحال في الفنون والآداب إجمالا، إلى حدّ أنه ما مدارس أو تيّارات أو ملامح لاتجاهات محددة يمكن من خلالها لناقد أن يؤطر هذا الفن كما كان يحدث سابقا. بات النحّات وحده هو الأكثر تعبيرا عن نفسه، من خلال إبداعه الذي تتقاطع فيه اتجاهات وأفكار وتقنيات ومعارف مسبقة عن فن النحت جعلت منه صنيع نفسه و»اتجاه» أو مدرسة ذاته، أي بات وليد لحظته التي يعيشها ويحسّ بها ويعبّر عنها في اللحظة ذاتها. بناء على ذلك، يبدو أن عدم إخضاع المشاركات في السمبوزيوم لمرجعيات إيديولوجية أو سياسية أو تاريخية أمر حيوي وهام قد أنجزته الندوة، ويُحسَب لها ذلك في الدورة الأولى للسمبوزيوم على أن تستمر تقليدا راسخا لا يخضع للتحولات. هي فقط بعض الشروط التقنية التي تتصل بالحجم والارتفاع وما إلى ذلك، ربما بما يتصل في طبيعة استخدام المنحوتات داخل دبي، أو حتى بالميزانية ذاتها. اكسبو 2020 اللافت هنا هو في ما جرى الإعلان عنه من أن السمبوزيوم يأتي في سياق الاستعدادات التي تبذلها المؤسسات المعنية بالثقافة بمعرض اكسبو 2020. أي أن هناك سعياً إلى التخطيط لمواكبة حدث بهذه العالمية سوف يحدث بعد سبع سنوات وشهور، أي انه عند الوصول إلى ذلك التاريخ سوف تكون الندوة قد أنجزت ثماني دورات من السمبوزيوم. لنتخيّل النتائج آنذاك، ولنسأل كم منحوتة سوف يتم إنجازها؟ وهذا تساؤل تجيب عنه الميزانية أولا ثم النحّاتون المدعوون إلى الملتقى تباعا، وفي الأساس، إدراك إدارة هذا الملتقى للصورة التي ستكون عليها تلك المدينة دبي في حينه، ووضوح استراتيجيتها في ما يتعلق بما سوف تتنتجه خلال السنوات الثماني المقبلة، وعلى أي أساس سوف تقود هذا السمبوزيوم، وإلى أي حدّ سوف يؤثر ذلك على الاختيارات أو الدعوات، ومن ثمَّ على المُنجز الابداعي الذي من المفترض أنه سيتوزع على الساحات العامة في دبي مثلما على شوارعها وحدائقها. حقيقة الأمر، أنه لا خوف من إثارة أي جدل حول التجسيد أو إثارة أي جدل في صدده، ذلك أن فن النحت اليوم بات أبعد ما يكون عنه وأقرب ما يكون إلى الوعي الفردي وليس الجمعي، ما يعني أن مَنْ يرى أي عمل في سياق المحيط والبيئة اللتين يعيش فيهما سوف يدركه ببصره أولا وقد يؤول هذا العمل وقد لا يؤوله، أي قد يكون بحاجة إلى ذلك التأويل أو لا لأنه قد بات جزءا من نسيج المكان، هكذا هو الأمر في تلك المدن العريقة التي اعتاد أبناؤها وأجدادهم على فكرة أن يكون التمثال أو المنحوتة، إجمالا، جزءا من الحياة اليومية وقد أدركه البصر واعتاد عليه وما من موقف مسبق تجاهه. في دبي، التي تنزع إلى عالمية ثقافية، ثمة شقّان: الأول منهما لا ينتمي إلى السياق الثقافي العربي والإسلامي، ولا مشكلة معرفية معه، وشقّ آخر هويته الأساسية هي العربية والإسلامية التي ينبغي أن لا تكون هناك مشكلة معها بأي صورة من الصور. فيما يتصل بالشق الأخير، فما هو مقصود يتحدد هنا في أن فن النحت اليوم قد انفصل تماما عن الديني، وبات دنيويا بما لا يدع مجالا للشك، وهذا من ناحية. ومن الناحية الأخرى، فإن الفنون الإسلامية بلا أي استثناء قائمة على التجريد لا التجسيد في جوهرها العميق، ما يعني أنّ النظرة إلى دبي 2020 كحاضرة عالمية ينبغي أنْ تحكمها الرغبات والأشواق العليا،وليس المخاوف أو الاعتبارات المسبقة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن فنّ النحت الآن قد اختلف. أي أنه، وباختصار، ما من معنى لفكرة التجسيد في العمل النحتي الآن، إذ إن التجسيد باتت متاحفه الكنائس والمعابد والمدافن والمتاحف الكلاسيكية وليس ما يقوم به النحّاتون في العالم في هذه اللحظة الراهنة، التجسيد اليوم ليس رهنا بالإلهات أو الأشخاص المبجلين، أو الأفكار المتعلقة بهم، بل هي تجسيد لخيالات ورؤى فردية، بات تعبيرا إنسانيا ودنيويا مطلقا. وهذا أمر قد انتهى الجدل فيه في العالم كله، حتى في تلك الثقافات التي تنتمي إلى الجوار القريب، بل وإلى القوس الحضاري العربي والإسلامي. مبالغات تجريدية هناك العديد من الأعمال التي انجزها ملتقى نحت دبي 2013 التي نأت عن فكرة التجسيد، إنما ليس لأسباب فنية، بل هي بحسب النتائج، كما لو أنها كانت تأخذ بعين الاعتبار الطبيعة المحافظة للمجتمع الإماراتي. فهل صحّ ذلك أم لم ينعكس إيجابيا تماما على الأعمال؟ لقد مكّنت هذه الفكرةُ الطابعَ التزييني للأعمال أن يغلب على ما عداه، إذ ثمة مبالغة في التجريد والتجريد التعبيري في الأعمال النحتية إلى حدّ أنّ أي تأويل أو قراءة لعمل ما سوف تكون ضربا من الإفراط في هذا التأويل، أو أن يُحمّل العمل ما لا طاقة له به. أضف إلى ذلك أن نحّاتا أو أكثر قد أعادوا تكرار التجربة ذاتها التي خاضوها في أعمال أخرى وبعض منها في دبي ذاتها، وكأن أمر فن النحت قد تحوّل إلى مهنة فحسب وليس مهنة خلاقة وتحفز على الإبداع والتطوّر. أي أنّ العديد من النحّاتين قد جاؤوا بتصورات مسبقة عن دبي في راهنها الحاضر وليس بتطلعها إلى العام 2020. أيضا، وفي السياق ذاته، وإذا كانت دبي تتطلع إلى التميزّ فنيا بوصفها بنية مدينية عالمية آنذاك، فما يُفهم من ذلك أن القائمين على السمبوزيوم يتطلعون بدورهم، إلى إحداث اختراقات في الأعمال النحتية التي سوف تتوزع في جنباتها وأمكنتها وتضاعيفها، أي أنهم يصبون إلى أعمال تدخل بدبي إلى ذاكرة تاريخ الفن، على اعتبار أن القائمين على الأمر يريدون ذلك بالفعل بدلالة تطلعهم إلى مستقبل قريب. خلاصة هذا الأمر، هي في حكاية تُروى عن النحّات الانجليزي الشهير هنري مور، ومفادها أن جارا له مرّ به أثناء ما يعمل في حديقة منزله ويحمل إزميلا ومطرقة ويهمُّ بمعالجة حجر، فسأله الرجل: ماذا ستصنع؟ أي ما شكل المنحوتة التي ستخرج بها إلى العالم، فردّ بالقول، وبما معناه: لو كنت أدري حقا لما كنت نحّاتا. إنما قالها مور بما يعني: لما كنت صانعا أو خالقا أو مبدعا. هذا يعني، من ضمن ما يعنيه، أنّ هناك فارقا شاسعا بين أن يكون النحت مهنة وسببا للعيش والرزق، وهذا مشروع تماما، وبين أن يكون إبداعا في آخر الأمر، أي مشروعا فرديا يؤكد المرء من خلاله تعيّنه في العالم واستمراره فيه. لكن ما لا محيد عن قوله هو أن السمبوزيوم، وفي دورته الأولى، قد خرج ببعض الأعمال التي لم تكن محكومة إلى وجهة نظر مسبقة، وبعض الأعمال التي ترددت قليلا في إحداث اختراق ما لأسباب تقنية من بينها نوعية الحجر الذي قد لا يكون النحّات أصلا قد اختاره، فضلا عن بعض الأعمال التي جاءت تلبية لرغبة في إنجاز عمل نحتي فقط، وهذا النوع الأخير كان مثيرا للاهتمام من باب نزعته التجريبية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©