الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التطرف العلماني

التطرف العلماني
27 مارس 2013 20:26
عنوان هذا الكتاب مثير للاستغراب، بل هو مستفز، فالمؤلفة دليلة بن مبارك مصدق، وهي محامية وناشطة سياسية تونسية، تقول في عنوان كتابها حرفيا: «سوف أحمل السلاح إن لزم الأمر/ تونس معركتي من أجل الحرية»، وهي تعتبر إن حمل السلاح هو من أجل الحرية ومقاومة مشروع الإسلاميين، وتعلل موقفها هذا قائلة: انه كان بإمكانها ان تهاجر ولكنها لم تفعل، مضيفة: «لعلي كنت حمقاء أو مثالية جدا، ولكني لن أتركهم يفسدون حياة أبنائي. هم يقولون إنهم إسلاميون ولكن ماذا يعرفون من الاسلام؟ إني أكره السياسة، ولكني انطلقت في مغامرة الاشتراك في تأسيس حركة/ مواطنة وهي حركة «دستورنا» لإيماني بأنهم لا يمكن ولا يجب أن يفوزوا، وقررت أن أقوم بكل شيء حتى لا يفوزوا، وسأمر ان لزم الأمر الى حمل السلاح». والأرجح ان الكاتبة استعملت تعبير «حمل السلاح» من باب المجاز لإبراز إصرارها على مقاومة المشروع السياسي والاجتماعي للإسلاميين، ولكن قد تكون فعلا تعبر عن قناعتها بحمل السلاح ان وجدت نفسها مضطرة للدفاع عن حقوقها كامرأة والدفاع عن نمط المجتمع الذي تقول ان أطرافا متشددة تسعى الى تغييره. ويقدم الناشر الفرنسي المؤلفة في الغلاف الخلفي للكتاب بأنها «محامية ملتزمة منذ بداية «الربيع العربي» في معركة تاريخية ضد هيمنة الاسلاميين على بلادها، وان الكتاب يمثل «شهادة» مؤثرة وانه نشيد من أجل الحريّة واللائكيّة». والكتاب صدر باللغة الفرنسية في باريس، ودليلة بن مبارك مصدق (وهي اليوم في الثالثة والاربعين من العمر) أدلت بشهادتها الى الصحفية الفرنسية فاليري أورمان التي حررت الكتاب. والمحامية التونسية توجه في كتابها صرخة مدوية أشبه ما تكون بصرخة من تشعر بخطر داهم طالبة النجدة معبرة عن خشيتها، كمواطنة متمسكة بالحداثة، من السلفيين الذين تقول في كتابها بأنهم ذراع لحركة «النهضة»، وهي تجزم بوجود تواطؤ بين حركة «النهضة» وما يعرف في تونس بـ»السلفيين» وهي قناعة تتبناها المعارضة اليسارية اليوم في تونس أو بعض أجنحتها، ولكن حركة «النهضة» ما فتئت تكرر من خلال بياناتها وتصريحات زعيمها راشد الغنوشي انها بريئة من هذه التهمة. دعوة وتوجه دليلة مصدق في كتابها دعوة حارة الى النساء التونسيات من مختلف الأعمار ومن مختلف الشرائح الاجتماعية، المتعلمات منهن والأميات، التقليديات منهن والحداثيات، المسنات منهن والشابات، للوقوف صفا واحدا أمام كل من يهدد حقوقهن ومكاسبهن. والكتاب ملتصق في مضمونه بالتزام المؤلفة السياسي، فهي مناضلة يسارية وناشطة في حركة «دستورنا» التي اشتركت في تأسيسها مع شقيقها جوهر بن مبارك، وقد خصصت فصلا كاملا من كتابها عنوانه «الخطر الإسلامي» هاجمت فيه بشدة ما اسمته بـ»الرسالة السوداء المظلمة» لحركة «النهضة» مركزة بشكل خاص على خشيتها من فقدان المرأة التونسية لحقوقها التي ضمنتها لها (مجلة الأحوال الشخصية) ومن بينها مثلا منع تعدد الزوجات ووجود العصمة بيد المرأة والرجل على حد السواء والطلاق عبر المحاكم وغير ذلك كثير من الحقوق. ومن اليسير للقارئ ان يقف على قناعة الكاتبة بضرورة ان يبقى المجتمع التونسي مجتمعا حداثيا، وأن يبقى النظام السياسي علمانيا، وعلى سبيل المثال فإنها لا تحبذ مثلا ان تغلق المطاعم في شهر رمضان، وأوردت في هذا السياق حادثة في كتابها خلاصتها ان والدها خرج ذات يوم في شهر رمضان مع حفيديه واحدهما طفل في الثالثة عشرة من عمره والثاني لم يتجاوز السابعة، وقد أحس هذا الأخير وهو في الشارع بالجوع وطلب من الجد ان يشتري له قطعة «بيتزا» فكان رد الجد ان المحلات مغلقة في شهر الصيام. ونقلت الكاتبة ان الطفل الصغير أبدى نقمة وغضبا وحنقا لعدم تمكنه من الحصول على قطعة «البيتزا» فقال لجده: «عندما أكبر سأذهب للعيش في الولايات المتحدة الأميركية التي تتوفر فيها الحرية للفرد»، مضيفا: «ان أميركا ستكون هي بلدي» وتعلق المؤلفة بأن الطفل، وهو ابن شقيقها، فهم كل شيء لأنه يريد ان يحيا حرا. والمؤلفة تؤكد بأن من تسميهم السلفيين لم يشاركوا في الثورة وان الكثير منهم كانوا في السجون، وبعد ان أطلق سراحهم عادوا الى سالف نشاطهم، وضربت مثلا بشاب منهم يدعو اليوم الى حق الطالبات في ارتداء النقاب، والمؤلفة هي طبعا ضد النقاب وقد نقلت في كتابها استغراب ابنتها نادية الطالبة بسنة أولى طب من كون 80 في المائة من طالبات السنة الاولى متحجبات رغم ان بن علي كان في عهده يمنع على التلميذات والطالبات والموظفات ارتداء الحجاب. وتسرد المؤلفة تفاصيل الحملة الانتخابية التي مهدت لاختيار أعضاء المجلس التأسيسي، وهي تجزم بأن «حركة النهضة» جندت فيلقا من «الفايسبوكيين» وتصفهم بـ»الآلة الحربية» التي تحركت بقوة اثناء الحملة الانتخابية. وكشفت ان حركة النهضة اشترت أهم الصفحات المقروءة لدى متابعي «الفايسيوك» وضربت مثلا بموقع «كورة» الذي يتابعه عدد ضخم من المتصفحين للانترنت، واشارت ان النهصة اتبعت أسلوب التدرج في هذا الموقع وغيره لتمرير رسالتها ودعايتها لكسب مزيد من الانصار وللتصدي للمنافسين لها. والكتاب تضمن يوميات المؤلفة طيلة فترة مشاركتها في الحملة الانتخابية للدعاية لحركة «دستورنا»، واوردت كل تفاصيلها المهمة منها وغير المهمة وسردت كل جزئيات حياتها العامة والخاصة وما لحقها من تغيير بسبب تفرغها للعمل السياسي، وتذهب الى حد إعلامنا بأن وزنها زاد 8 كيلوغرامات لإهمالها الأكل المنتظم والصحي في البيت، وانها أهملت زينتها وأناقتها وتركت مهمة العناية ببناتها الى زوجها الذي قبل الأمر. ذكريات وتستعرض الكاتبة دليلة بن مبارك مصدق في الفصل الأول من كتابها ذكرياتها وهي طفلة في الثالثة من عمرها عندما كانت تزور رفقة والدتها والدها السجين السياسي بسجن «برج الرومي» وهو المعتقل الشهيرالذي بناه المستعمرون الفرنسيون في مدينة بنزرت (60 كلم شمال تونس العاصمة) والذي كان يسجن به بعد استقلال تونس العديد من المعارضين لحكم الرئيس الحبيب بورقيبة ومن بعده المعارضون لنظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. وتقول المؤلفة إنها كانت تزور والدها السجين السياسي اليساري رفقة شقيقها الوحيد جوهر مبارك الذي هو اليوم ناشط سياسي وحقوقي. ولأنها كانت صغيرة السن فقد أوهمتها أمها عندما اخذتها معها للسجن أول مرة أنها ستسافر معها الى فرنسا، وقد صدّقت الطفلة الرواية وأنها ورغم صغر سنها شعرت بقبح المكان ووحشته، وبعد أن قبلت والدها من خلال الحاجز الفاصل بينهما قالت لأمها معربة عن مشاعرها: «أنا لا أحبّ فرنسا هذه!». وقد علمت الطفلة عندما كبرت أن والدها كان سجينا سياسيا تمّ القبض عليه ومحاكمته ضمن المجموعة اليساريّة المعروفة «آفاق» في السنوات الأولى بعد استقلال تونس، وقد قضى والدها ستّة أعوام ونصف العام في السجن، كما تمّ ـ وفق ما جاء في الكتاب ـ إيقاف والدتها مدّة شهر بسبب إخفائها لمعارض سياسي لنظام بورقيبة في البيت ومساعدته على الفرار إلى فرنسا التي هاجر إليها منذ ذلك التاريخ وبقي فيها إلى اليوم. وتصف المؤلفة معاناة أمّها طيلة فترة سجن والدها لإعالة ابنيها والسهر على توفير كل أسباب العيش الكريم لهما، ورغم انها تدير صالون حلاقة للنساء في مدينة «صفاقس» (280 كلم جنوب تونس العاصمة) إلاّ أنّ مداخيل الصالون كانت لا تكفي لإعالة الأسرة في فترة سجن الأب الذي تم قطع راتبه بوصفه كان مدرسا بالتعليم الابتدائي، ولمّا عاد والدها إلى المنزل بعد قضاء عقوبته كان عمر ابنته مؤلفة الكتاب 9 سنوات. وحرصت المؤلفة انه لم يسمح لوالدها بعد مغادرته السجن العودة إلى ممارسة مهنته كمعلم، ولمّا بلغت الكاتبة دليلة سنّ المراهقة ـ كما تقول في شهادتها ـ نقمت على أبيها الذي رأت وقتها أنّه ضحى بأبنائه في سبيل نضاله السياسي وأنّه ترك أسرته في حرمان مادي ومعنوي ليمارس العمل السياسي كمعارض للرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، ولأنه طرد من عمله فقد اضطرّ والدها لفتح مقهى في وسط مدينة «صفاقس» وهو المقهى الذي أصبح ملتقى للمثقفين والمعارضين من اليساريين خاصة وللمخبرين من البوليس السياسي الذين كانوا يراقبون المقهى والزبائن ويعدّون التقارير إلى المخابرات التونسيّة، وتتذكر المؤلفة أنّ والدها كان يعرف المخبر المكلّف بمراقبته معرفة جيدة، فهو يجلس بانتظام في المقهى كزبون وكان والدها يقول له: «أكتب في تقريرك أنّه لا حريّة صحافة في البلد!»، وكان البوليس السياسي يغلق المقهى بين فترة وأخرى عقابا وانتقاما من الأب المعارض. خصوصيات والمؤلفة لا تجد حرجا في الحديث عن خفايا حياتها الخاصة، فهي تكشف انها تزوّجت من شاب زميل لها في الجامعة مؤكدة بأنه كان ملتزما دينيا حتى انه كان يؤذن لصلاة الجامعة، وأنجبت منه ابنة إلاّ أنها تشير بأنه ـ وهو رجل محافظ ـ منعها من التدخين ولبس التنورات القصيرة وقد قرّرت الطلاق منه وكان عمر ابنتهما نادية إذاك لم يتجاوز الثالثة. وخصصّت دليلة فقرات مطوّلة للحديث عن علاقتها بجلبير نقاش وهو تونسي يهودي ومناضل سياسي يساري وصديق لوالدها، وقد سجن في عهد الرئيس بورقيبة بسبب مواقفه، وتقول المؤلفة إنه كلما وقع خلاف لها مع والدها أو مع زوجها إلاّ والتجأت لبيته الذي كان يعجّ بالشباب اليساري الثائر المتشبّع بالثقافة وقيم الحريّة. وجلبير نقاش عاش بعد خروجه من السجن في تونس ثم غادر للإقامة الى اليوم في باريس مترددا من حين لآخر على تونس. والمؤلفة تعتبر نقاش والدها الروحي وتؤكد انه كان حاميا لها متفهما لمواقفها مساندا لها دائما. وتروي المؤلفة كفاحها بعد طلاقها من أجل ضمان حياة كريمة لها ولابنتها، فقد غضب والدها من إصرارها على طلب الطلاق في حين أنّ والدتها كانت تبعث لها ببعض المال لمساعدتها. وتقول دليلة انها قبلت القيام بعمل لا يتناسب مع مستواها العلمي لتنفق على نفسها وعلى ابنتها. وهكذا فالكاتبة تسهب في استعراض مسيرتها مما يجعل كتابها في بعض فصوله كتاب سيرة ذاتية لامراة تونسية يسارية. ولم تجد حرجا في البوح بأنها عاشت بعد طلاقها ثلاث سنوات مع رجل دون عقد زواج، ثمّ تزوّجته مؤكّدة بأنّ زوجها الحالي هو نقيض زوجها الأوّل، فهي تصفه بأنّه رجل متفتّح عصريا مثقف ويعمل راقصا وله مدرسة لتعليم الرقص لابناء وبنات الطبقة البورجوازية! ومعه اكتشفت المجتمع المخملي للبورجوازيّة التونسيّة. كما تذكر بأنّها كانت حريصة ليكون بيتها ملتقى لجميع الأصدقاء تجمعهم في مآدب وفي مناسبات كثيرة وقد تصالحت مع والدها بعد خلاف وقطيعة، وقالت إنها عقدت معه اتفاقا معنويّا بأن لا يتدخّل في حياتها الخاصّة بأي شكل من الأشكال. مواقف وتعترف دليلة بن مبارك مصدق أنها كانت في فترة حكم بن علي «محايدة»، ورغم علمها بالمظالم والقمع إلاّ أنها لم تنخرط في النضال السياسي خشية أن يتمّ ـ على غرار ما كان يحصل ـ تلفيق تهمة لها مثل دس المخدرات في سيارتها أو في مكتبها في غفلة منها أو أي قضية أخرى، وهو الأسلوب الذي اتبعه بن علي لتشويه المعارضين وتخويفهم واذا لزم الأمر إيقافهم والزج بهم في السجون. وهي تعترف بأنها كانت تريد أن لا تدخل السجن يوما وترغب أن تعيش حياة هنيئة هادئة، مشيرة بأنها كانت تسمع كلّ ما كان يدور حول الرشوة والفساد لبن علي وزوجته ليلى وعائلتهما، ولكنها كانت ومن باب الحيطة والحذر تقفل هاتفها الجوّال وتنتزع منه بطاريته حتى عندما تكون مع زوجها في غرفة نومها، وتتجاذب أطراف الحديث عما كان يتداوله كل الناس عن الفساد ومغامرات زوجة الرئيس.. وهذا مثال من «جمهورية الخوف» في عهد بن علي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©