الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن الحرية والجرأة.. والرقيب

عن الحرية والجرأة.. والرقيب
28 مارس 2013 13:59
استضافت الدورة الثالثة والعشرين لمهرجان أيام الشارقة المسرحية الذي تنظمه دائرة الثقافة والإعلام تحت رعاية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، أكثر من 100 شخصية فنية من كافة أقطار الوطن العربي وقدمت 15 عرضاً مسرحياً واحتفت بـ 18 نشاطاً ثقافياً موازياً وتزاحمت على صالات عروضها في مسارح معهد الشارقة والفنون وقصر الثقافة، اعداد كبيرة من الجماهير.. ومن هنا بدت الدورة التي اختتمت مساء أمس زاخرة، مقارنة بالدورات السابقة وهي تميزت أيضا على مستوى عروضها التي جاءت في معظمها ثرية ومثيرة للأسئلة الصعبة سواء في ما اقترحته من رؤى جمالية عبر أساليبها أو في ما قدمته من مقاربات لقضايا اجتماعية وفكرية شتى، علاوة على ان مشهد عروض المهرجان هذه السنة توسع ليضم ثلاث مسرحيات شبابية هي من ثمار البرنامج التدريبي الذي تنشطه إدارة المسرح بدائرة الثقافة والإعلام في الشارقة وقد وجدت هذه المسرحيات قبولا ملحوظا بخاصة وسط ضيوف المهرجان العرب. انطلق المهرجان، الذي يعتبر الأعرق في منطقة الخليج الان، في أوائل الثمانينات وبفضل دعم صاحب السمو حاكم الشارقة عرف استمرارا في دوراته وتقدم كثيراً في هكيليته التنظيمية خصوصاً. وفي السنوات العشر الأخير غدا من التظاهرات الثقافية الأهمّ في الساحة الثقافية العربية وجاءت الدورة الثالثة العشرين بما حفلت به من عروض وانشطة موازية لتؤكد هذا المسار الطويل الذي استغرقه المهرجان وهو ما سيحاول ابرازه هذا التقرير. بداية وملاحظات لعل من ابرز الملامح المميزة للعروض المسرحية التي قدمت انها توسطت باللغة العربية غالباً في علاقتها بالجمهور وحضرت العامية في عدد أقل من العروض، وفيما اعتمد بعض المخرجين على ممثلين شباب لجأ بعضهم الاخر إلى اسماء مكرسة بخاصة في الادوار الرئيسة بحيث بدا الأمر متناغماً بين «الرواد والشباب»، وقلّت كثيراً ـ ولكنها لم تنعدم ـ في الدورة الثالثة والعشرين ظاهرة العروض التي تعتمد على مبدع واحد في الاخراج والتأليف والسينوغرافيا والاعداد وهو ما عانت منه دورات سابقة للمهرجان، ولكن ما بدا ملفتاً في هذا السياق ان محمد العامري قدم نفسه مخرجا في عرضين الأول بعنوان «خلطة ورطة» هو لمسرح أم القوين، والثاني بعنوان «انت لست كارا» لمسرح الشارقة الوطني؛ وحضر علي جمال ممثلا ومخرجا ومؤلفا في عمله الموسوم «زيت ورق»، ونذكر هنا أيضا ان عروض الدورة المنقضية ضمت عملين للكاتب اسماعيل عبد الله وهما «خلطة ورطة» و»التريلا» الذي قدمه مسرح عجمان؛ وعلى صعيد الاخراج شارك مخرجان عربيان في عروض المهرجان فثمة العراقي محمود أبو العباس الذي قدم «مساء الورد» لمسرح دبي الأهلي وهناك الكويتي محمد الحملي الذي اخرج «التريلا»، ويخصص المهرجان سنويا جائزة تمنح لفنان عربي متميز شارك في العروض. برنامج ثقافي عمدت إدارة المهرجان هذا السنة إلى احداث تغيير طفيف ولكنه مهم في علاقة الضيوف العرب بالمهرجان فبدلا من ان يحضروا كمشاهدين ومعلقين على العروض في الندوات النقدية تحولوا إلى منتجين لرؤى واقتراحات جمالية وفكرية عبر جملة من الندوات والحلقات النقاشية التي تكاملت في موضوعاتها غطت كل أيام المهرجان ما جعل الصورة العامة للمهرجان غنية ومتنوعة بخاصة ان هذه البرامج الموازية تطرقت إلى قضايا تهم الكثير من المشتغلين والمنشغلين بـ «أبو الفنون»؛ ونذكر منها الحلقة النقاشية التي ضمت مجموعة من مديري المهرجانات المسرحية العربية وانعقدت تحت سؤال» كيف السبيل إلى حالة تنسيقية وتكاملية بين المهرجانات المسرحية العربية» والتي زادت على طرحها امكانات أفضل للتنسيق والتكامل، الكثير من الأفكار النقدية حول البنى التنظيمية للعديد من المهرجانات المسرحية العربية، كما انها اوضحت ان مهرجانات المسرح العربي تعاني الاشكاليات ذاتها تقريباً فهي اعلامية غالباً وينقصها دائما ان تواكب ما يحصل في العالم من تحديثات في طرائق اعداد مثل هذه التظاهرات فضلا عن انغلاقها على وجوه محددة تتكرر في كل عام. وهناك اللقاء الذي ضم مجموعة من الممثلات العربيات تحت عنوان «المرأة ممثلة.. المرأة موضوعا للتمثيل» وخلص إلى جملة من التوصيات لتفعيل الحضور النسوي على خشبة المسرح العربي ليس كممثلة فقط ولكن مخرجة وكاتبة وناقدة؛ فعلي الرغم من العديد من الانجازات التي حققتها المرأة العربية على صعيد المسرح، مقارنة بحضورها في المجالات الإبداعية الأخرى، إلا ان حضورها المسرحي اقتصر على مزاياها الجسدية أكثر من أي شيء اخر فاغلب المسارح العربية لم تعرف المرأة المخرجة أو الكاتبة. وقد أوضحت احدى المشاركات في تلك الندوة ان السنوات الاخيرة شهدت بروزا للمرأة المسرحية الاكاديمية ولكن هذا الاعتبار العلمي لم يغير كثيرا من الصورة الذهنية الراسخة حول المرأة لدي إدارات ومؤسسات المسرح العربية التي دائما ما تصر على تحجيم دور المرأة وتحديده في نطاقات ضيقة. وفي الندوة التي جمعت ثلة من المسرحيين العرب المهاجرين إلى أوروبا تعرفنا على صعوبات جمة يواجهها المسرحي العربي حين يحاول نقل ما تعلمه هنا إلى الغرب ولا يتعلق الأمر هنا بحقيقة ان ما نتابع انجازه هنا في الوقت الحاضر هو مما تم انجازه سابقا في أوروبا، بل يتعلق بحقيقة ان المسرحي العربي يكتشف منذ الوهلة الأولى ان عليه مخاطبة الجمهور بما يفهمه وبما يحس انه جزء منه وإلا في ان التجربة لن تتقدم كثيراً. ونظم المهرجان ملتقى فكريا تحت «أي دور للمسرح العربي في الوقت الراهن؟» ومن ابرز التوصيات التي خرج بها: لفت نظر الفنان المسرحي إلى مسؤوليته تجاه الإبداع مستندا على مبادئ الإلتزام والحرية والجرأة وتجاوز الرقيب الداخلي، وأن يكون جزءا من التاريخ لا خارجه، ودعوته إلى أن يستقل بمسرحه وأن يعتمد على جمهوره، ويتخلص من الارتهان بمسرحه للدعم والتمويل، وبشكل خاص الخارجي، والتخلص من قاعدة أعطني تمويلا أعطيك مسرحية، فهذا التوجه ينتج مسرحيات لا حركة مسرحية، ووجه المشاركون في الملتقى الدعوة إلى نقابات الفنانين للعمل على حث الحكومات في بلادها لإصلاح نظام التحصيل الضريبي من المسارح الخاصة وتشجيع الاستثمار في هذا القطاع، كما دعوا النقاد إلى الالتفات للنقد التقييمي للإبداع المسرحي العربي نصاً وعرضاً للعمل على رصد دور المسرح وقدرته على التفاعل مع التحولات والمتغيرات السياسية ـ الإجتماعية التي اجتاحت العالم العربي. وتضمنت التوصيات إشارة إلى ضرورة البحث عن صيغة عملية تشجع الناشطين المسرحيين العمليين على حضور الندوات الفكرية ومتابعتها والتفاعل معها، وبالتالي إيجاد حلقة وصل بين قاعة الندوات وما يجري على خشبة المسرح. تجارب وذكريات وحول ذكرياتهما عن المسرح الإماراتي جاءت الندوة التي تكلم فيها الممثل والمخرج السوداني يحيى الحاج والقاص والناقد السوري نواف يونس واستضافها فندق الهوليداي انترناشونال مساء يوم 23 مارس حيث تعرف الحضور على محطات مختلفة من مسارات المسرح الإماراتي بدءاً من تلك الدورة التدريبية المطولة التي نظمتها وزارة الثقافة والإعلام في 1983 واستمرت لشهور عدة تحت اشراف جملة من الخبراء المسرحيين العرب منهم صقر الرشود ومنصف السويسي. نواف يونس قال ان المسرح الاماراتي، خطى بشكل جاد نحو تأسيس قاعدة مسرحية متقدة فكريا وفنيا، منذ بدايات الثمانينات من القرن الفائت، واستطاع خلال هذه المرحلة، أن يكون لنفسه تلك الخصوصية على مستوى الجانب الفكري أو الأدبي، الى جانب البعد الجمالي أو الفني، حتى تبوأ هذه المكانة على المستويين الخليجي والعربي، ومرد ذلك يعود الى الجيل المؤسس أو الرائد وما تلاه من هواة ومحبي للمسرح، على الرغم من أننا نتلمس باستمرار ذلك التفاوت في المضامين الفكرية والأبعاد الفنية في المشهد المسرحي، نتيجة تفرع التراكم الثقافي والمعرفي لدى العاملين فيه. وتابع يونس كلامه مشيرا إلى ان الجيل المؤسس شكل تلك القاعدة المتينة وحقق نقلة فنية وفكرية على مستوى الاخراج والتمثيل والتأليف المسرحي، ولو استعرضنا الأسماء لن تنتهي القائمة، اذ تعج بالأسماء المعروفة التي لا تعمل فقط في مجال المسرح أو تحبه، بل هي مهمومة أيضا بالمسرح ليس بوصفه فرجة ومتعة، فهو أيضا بالنسبة لهم، قضية ثقافية حضارية فاعلة ومؤثرة في حراك المجتمع وتطوره وتقدمه. اما يحيى الحاج فقد شاء ان يتحدث عن مشاركته كمدرب في أول تجربة عملية في إعداد الممثلين شهدتها الإمارات، وكانت من تنظيم وزارة الإعلام والثقافة 1982 وشارك فيها 80 متدرباً قسموا إلى مجموعتين، ضمت الأولى الجيل الرائد من المسرحيين الإماراتيين مثل عبيد بن صندل، ومحمد يوسف الجناحي، وسواهما، ووسمت بفرقة “صقر الرشود” تقديراً لجهود ذلك المسرحي الكويتي الراحل، أما الفرقة الثانية فأطلق عليها اسم الفنان الإماراتي الذي رحل منذ فترة “سلطان الشاعر” وضمّت أسماء شابة حينذاك مثل أحمد الجسمي، وسميرة أحمد، وإبراهيم سالم وغيرهم، وكان المسرحي التونسي المنصف السويسي يشرف فنياً على فرقة الرواد، ويحيى الحاج على فرقة الشباب، واستمرت التجربة لنصف عام وأثرت ايجابا في تشكيل المشهد المسرحي الإماراتي في تلك البدايات كونها استمرت وقتا طويلا وتوسعت في تغطية مجالات المسرح المختلفة وهي بدت مثل معهد مسرحي مصغر. واستعرض الحاج مجموعة من المحاور التي قامت عليها ورشات عمل سابقة كان شارك بها وأكد ضرورة أن تتواصل الجهود النظرية العربية بحثاً عن صيغة عربية للتمثيل. وكان الممثل السوداني بدأ حديثه بذكريات أول يوم جاء فيه إلى الإمارات كما ذكر مجموعة من الاسماء التي رافقته في تلك المرحلة. ملتقى الأوائل ومن البرامج المتميزة التي عرفتها الدورة الثالثة والعشرين لقاء أوائل المسرح العربي الذي استضاف عشرة من طلاب المسرح المتميزين وهم من سوريا ولبنان والعراق والأردن والسودان والجزائر والمغرب وتونس ومصر والكويت، وقد نظم لهم المهرجان مجموعة من الورشات التدريبية التي اشرف عليها اساتذة من بلدان عربية مختلفة أيضا. وبحسب أحمد بورحيمة مدير المهرجان يهدف لقاء الأوائل إلى تعميق معرفة هؤلاء الطلاب بأجواء مثل هذه المناسبات المسرحية واتاحة الفرصة لهم للاطلاع على التجربة المسرحية الإماراتية وتعريفهم برموزها وأهم محطاتها. المسرح الجديد ومن الندوات التي ستظل راسخة في ذاكرة الدورة الثالثة والعشرين تلك الندوة التي جاءت تحت عنوان «المسرح العربي الجديد.. سهرة تلفزيونية» وشارك فيها أمل بنيوس من المغرب وآمنة الربيع من سلطنة عمان وماهر صليبي من سوريا وجمال ياقوت من مصر وأدارها الإعلامي القطري حسن رشيد، وقد شهدت الندوة نقاشا حارا حول مفهوم الجدة وخصوصاً انه ظل مرتبطا بالتجربة المسرحية العربية منذ بداياتها إذ لطالما ردد المسرحيون كلامهم عن التجاوز والمغايرة والتحديث ولكن التجربة في واقعها لم تتغير وظلت تراوح مكانها. وقد قدمت بينوس المغرب مجموعة من الخلاصات التي رأت انها تميز بعض العروض المسرحية العربية المنتجة حديثاً ومنها النص المفكك والتوسط بعدد من الوسائط الفنية لانتاج عمل فني واحد/ تركيب، وفي هذا السياق ذكرت الناقدة المغربية اسماء عدة. من جانبها تحدثت آمنة الربيع عن التجديدات التي عرفتها اساليب الكتابة المسرحية العربية وهي خصصت كلامها بتجربة المخرجة التونسية جليلة بكار؛ وتحدث ماهر صليبي عن أثر الواقع السياسي الجديد الذي طبعته الحركات الاسلامية المتشددة على التوجهات المقبلة للمسرح وهو بدا متشائماً واعرب عن خشيته من مستقبل شديد التعقيد سيعرفه المسرح العربي ليس بعد عقد أو سنين ولكن بعد وقت محدود. وعن مهرجانه الموسوم «مسرح بلا انتاج» تحدث المخرج المصري جمال ياقوت وقال ان تجربة المهرجان تمثل شكلا جديدا للتحايل على واقع غياب الدعم، مشيرا إلى ان محاولة البحث عن صيغ تنظيمية أقل كلفة تدخل في إطار الملامح الجديدة للمسرح العربي الذي يتبلور الآن. أفلام وأفكار ومن البرامج التي عرفتها الدورة الثالثة والعشرين ايضا هناك العرض الفيلمي الوثائقي الموسوم «إننا محكمون بالأمل» وهو قدم جانبا من حياة الفنان السوري الراحل سعد الله ونوس، وقد تحدث مخرج الفيلم قيس الزبيدي عن الفيلم: كيف جرى اعداده ومتى انتج وما إلى ذلك.. فيما اشاد الحضور بالعرض كونه يساعد المتلقـي وخصوصا المهتـم بســيرة ونوس في التعرف على جوانب مهمة من سيرته الحياتية. وقد تكون الفيلم من إفادات لعدد من رفقاء الراحل وكان بينهم التشكيلي والناقد والممثل والسينمائي وقد تكلموا بمداخل عدة عن سيرة الراحل ومواقفه السياسية وخبرته مع الكتابة المسرحية تحديدا. ومن التجارب الفيلمية المهمة أيضا ثمة عرض بعنوان «جزء خارج 1» وقدمه الفنان البصري يوسف الرياحني الذي عمد إلى تقديم عرضه بمقدمة نظرية اثارت جدلا وسط الحضور إذ تكلم خلالها عن «موت الممثل» بالمفهوم التقليدي وقال ان المستقبل هو للفنان «المؤدي» ومثّل للأمر بعرضه الذي بدا عنوانه غير مفهوم للكثيرين «جزء خارج 1». يصر الرياحني على ان المسرح في طريقه إلى ان يكون رقمياً وإلى ان يواكب ما يحصل من تحديثات في مجال وسائط الاتصال؛ فالمسرح لا يموت وحين يشعر بضعف اقبال الجماهير يسعى إلى ان يتجدد بتغيير شكله ومضمونه. استطرادات د. حاتم الصكَر حاضنة الفنون كثيرا ما نذكّر في جدلنا حول تسيّد الفنون وإزاحتها لبعضها بأن الشعر كان الحاضنة التي التمَّت في فضائها مختلف الأنواع وفاضت منها إلى التداول، واقترضت مزاياها من طبيعة الشعر، حتى حين استقلت عنه جنسا وشعريةً وتقبّلا. واذا كانت المسرحية والقصة والخطابة تدين له بأولوياتها من حيث كتابتها شعرا، فإن الفنون المستحدثة كالسينما والتشكيل تلونت نصوصها بإيقاعه وتقنياته، وهذا التمدد الشعري في الفنون الأخرى يخفف من غلواء الزعم بإزاحة الرواية مثلا او السينما لدوره ومكانته، فهو موجود داخل تلك الفنون الغالبة بصيغ شتى هي مجال دراسة واستقصاء نقدي وجمالي. ورفضاً للحكم على الشعر بالتوقف او التراجع تداوليا تصبح دراسة علاقة الشعر، خاصة بالفنون الأخرى، ذات أهمية متجددة تدعمها المحاكمة النصية لتلك العلاقة، واسترجاع مقولات النظريات الفلسفية حولها، ومناقشة إمكانها وبيان حدودها وأنواعها وأمثلتها في النصوص. ويأتي كتاب «العلاقة بين الأدب والفنون الأخرى» للدكتور الرشيد بوشعير (ضمن كتاب الرافد) ليثير مجددا تلك العلاقة. وسنجد أن المقصود بالأدب في غالب المبحث هو الشعر، حيث كانت له ولتجلياته في الرسم والنحت والعمارة الحصة الكبرى رغم قرب السرد من بعض تلك الفنون في أدواتها وإجراءاتها، لكن المحرّك الشعري هو الأكثر اهتماماً في الأطروحات الجمالية منذ القديم، وفي برامج الفلاسفة المعنيين بالعلاقة سواء أقرّوا بإمكانها مثل كروتشه، أو بعدم إمكانها كما يذهب ليسنغ في نظرية المجال التي فصل فيها بين الفنون. وفي واحدة من لحظات القراءة نحس أن هدف الكتاب بيان العلاقة بين الشعر حصرا والفنون الأخرى، لا بسبب الحيز الذي أخذه في الكتاب، ولكن لما يقدمه الباحث من أسانيد وأمثلة على تشبّع الفنون المجاورة للشعر بمزاياه واحتوائه أيضا على كثير من مزاياها. ومنها مثاله لوصف امرئ القيس لحصانه الذي يجسم فيه صورة حركية له في حالة الكر والفر والإقبال والإدبار في الآن نفسه، وهو ما لا يحصره تمثال منحوت. ويمكن أن نضيف سلسلة الأوصاف التي أسندها للحصان وهي مستعارة من الظبي والنعامة والثعلب والذئب في السرعة والقوة معا، وبذلك ينحت لفرسه تمثالا لغويا وصوريا فيه الكثير من إجراءات الفن وآلياته وحتى غرابته في جمع صفات حيوانات متعددة لأجزاء جسم حصانه يمكن تعليلها بخياله الجامح المتجاوز للصفات الخارجية، ما أمكنه من توليف هذا التمثال الغرائبي للفرس.. ومن الشعر العالمي يستشهد الباحث بجزء مطول من الإلياذة يصف فيه هوميروس ترس المقاتل الإغريقي أخيل وصفا خارجيا مفصلا يكاد يضع أمام القارئ صورة الترس الذي عرف به أخيل وأخاف المحاربين. وتظل دلالة التقاء الفنون بالشعر والأدب عامة ذات بُعد يفوق ما يعرف نقديا بالتناص النوعي أي تضمين مزايا من نوع ما في نوع آخر؛ فهي تشير إلى مكانة الشعر في العقل البشري فضلا عن احتوائه فيض عاطفة الإنسان وإحساسه ووجدانه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©