الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«صهيل الطين» ترصد الصراع المهووس لبلوغ الكمال

«صهيل الطين» ترصد الصراع المهووس لبلوغ الكمال
27 مارس 2012
كيف يمكن للكبت والقهر أن يولدا طاقة شعرية وجمالية تجعل الضحية في حالة متواصلة من التمرد الصامت والمتواري، والذي يخفي مفاجآت عدة على صعيد المقاومة الداخلية المتنامية، والمتشكلة ضد رغبة الجلاد وضد قوانينه المجحفة، والمصدّرة لمتواليات العنف الجسدي والإذلال النفسي، وما يحيط بهذه المتواليات الجارحة من سجون وقيود وأغلال متجسدة وحاضرة، وأخرى مندسة في دهاليز الوعي المقصي والمضطهد للضحية؟!. هذه الأسئلة المرّة، وغيرها من الإيحاءات الداكنة كانت حاضرة بقوة في مسرحية “صهيل الطين” التي عرضت مساء أمس الأول على خشبة مسرح قصر الثقافة بالشارقة ضمن العروض المتنافسة على جوائز الدورة والثانية والعشرين من أيام الشارقة المسرحية. عرض “صهيل الطين” من إنتاج مسرح الشارقة الوطني ومن تأليف إسماعيل عبدالله، وأداره إخراجيا وصمم فضاءه السينوغرافي الفنان محمد العامري، وبمشاركة أدائية متوهجة لكل من الفنان المخضرم أحمد الجسمي والفنانة الكويتية حنان المهدي والفنان الإماراتي الشاب أحمد إسماعيل. وجاءت مدونة العرض زاخرة بالإشارات والتنويعات البصرية والكلمات المكثفة التي مهدت للدخول إلى أجواء العرض، وهيأت مساحة أولى للتعاطي مع مناخ العمل واجتراحاته الظاهرة والضمنية، حيث يهدي المؤلف إسماعيل عبدالله نص مسرحية “صهيل الطين” إلى الشاعر الراحل أحمد راشد ثاني في بادرة وفاء تؤكد على قيمة وتأثير أحمد راشد على نص إسماعيل عبدالله والذي يقول في المدونة “إليك يا من علمتني أن حب الأرض فرض، مثل حب الأم، بل لا قد يفوقه، إليك يا من علمتني كيف أسير على تراب الأرض، ألثمه ولا أدوسه، إليك يا معلمي، يا من زرعت في قلوبنا وحناجرنا الصهيل، وآثرت الرحيل”. أما مخرج العرض محمد العامري فيقول وفي إشارة مكثفة للعبته الإخراجية: “ذات نهار، نسيت قوانين اللعبة، ولكي أعود نقيا وبريئا، كان علي أن أعرف كيف تلعب اللعبة من جديد، فإذا لم يمتلك الطفل اللعبة، يصنع اللعبة في خياله” ومنذ الدقائق الأولى التي سبقت العرض يستشعر المتفرج وجود مناخ من الهيبة المدّخرة، والرهبة التي تملأ الخشبة وسط ظلال محتشدة مع إضاءات خافتة تتلألأ بخفر واستحياء في عمق الخشبة، وعندما تنجلي الظلال بشكل متدرج، نكتشف عناصر السينوغرافيا الموزعة على جانبي الخشبة وفي وسطها، حيث نرى سلما كبيرا على يسار الخشبة، وعلى يمينها هناك كرسي عال مع انتشار السلاسل الحديدية المعلقة في وسط المسرح، وثمة أجساد وتشكيلات طينية جامدة وأخرى حية موزعة على المساحات المتبقية على الخشبة، ولتفكيك رموز هذه العناصر الغامضة تدخل فتاة (حنان المهدي) بملابس ملطخة بالطين كي تبوح لنا بأزمتها الداخلية المعقدة والتي تسبب بها والدها المفرط في قسوته، والمهووس بفكرة جنونية تتمثل في صنع كائن طيني يصل إلى حدود الكمال البشري، وحتى لا تتسرب أفكار وتقنيات وأسرار هذه الصنعة يحرم ابنته من الخروج ويحبسها في المنزل مدة عشرين عاما، ذاقت خلالها كل صنوف الذل والقهر والكبت العاطفي، فلجأت إلى حيل خفية ومعاكسة للأسلوب القاسي الذي يتبعه الأب في صناعة تماثيله، فهو يفضل استخدام النار والأفران لتجميد منحوتاته، بينما انحازت هي لفكرة استخدام الماء الذي يمنح الكائن الطيني حسا إنسانيا وطابعا آدميا يمكن التعاطف معه والتواصل معه روحيا، فكانت تجمع ولسنوات طويلة مياه الأمطار النقية كي تسبق والدها وتصل في النهاية إلى تحقيق حلمها الشخصي في نحت كائن من الطين ومغسول بمياه السماء، كي يعوضها عن كل سنوات الفقد والحرمان والجفاف العاطفي، وعندما يرى الأب هذه المفاجأة المدوية والمجسدة في التمثال الحي (الفنان أحمد إسماعيل) يصاب بلوثة عارمة ويدخل في صراع عنيف، ينتهي بموت الأب واحتراقه في الفرن، وخلاص الفتاة من جبروت الأب وسلطته الخانقة. امتاز عرض “صهيل الطين” بالكوريغرافيا الرشيقة التي اعتمدت على حركات تشكيلية راقصة وتنويعات أدائية تستند إلى مرونة الجسد وطاقاته التعبيرية، وهو أمر نفتقده في المسرح الإماراتي، ويعد محمد العامري من المخرجين القلائل الذين يستعينون بالجسد وبهذا النوع من التعبير الحي والمتداخل مع أجواء النص، وسبق للعامري الاعتماد على هذا التكنيك البصري التفاعلي في عرضه الناجح “دهن عود” والذي قدمه قبل سنوات من الآن، ورغم تداخل النص مع أسطورة (بيجماليون) إلا أن الحمولات الشعرية الثقيلة في نص إسماعيل عبدالله سعت إلى مخاطبة الإشكالات الراهنة المحيطة بنا، فكانت دلالات وإشارات النص متراوحة بين الخطابات العالية والمباشرة في القصيدة العربية الكلاسيكية، وبين الحوارات النثرية التي نجت من الجزالة اللفظية المقحمة، ولكن ظلت الحوارات الشعرية الطويلة في النص وكأنها تقف في وجه الارتجال البصري الحرّ وتعرقل ديناميكية المغامرة البصرية والسمعية المتفجرة والمحلقة في الأسلوب الإخراجي لمحمد العامري.
المصدر: الشارقة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©