السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

منطق القدس المحزن

19 يوليو 2008 23:07
في السوق الصغير بحي المستوطنة الألمانية في القدس، يوجد محل لبيع اللحوم مشهور بجودة منتجاته، الشخص الذي يديره على مدى السنوات العشر الأخيرة رجل يدعى ''عابد'' -عربي مسلم ولد في القدس قبل نحو أربعين عاما- وأب لثلاثة أطفال (وقد يكونون أربعة) صورهم معلقة خلف المحل-، المكان يقصده سكان الحي عدة مرات في الأسبوع، وبخاصة لشراء التوت أو الكستناء، في كل مرة تقريبا، كنت أجد نفسي أتحدث مع ''عابد'' حول هذا الموضوع أو ذاك، قبل أن أبدأ في القدوم إلى السوق من أجل التحدث، حتى وإن لم أكن في حاجة لشيء، فأنا أكثر من مجرد زبون بالنسبة له، وهو أكثر من مجرد بائع بالنسبة لي· ''عابد'' شخص سريع البديهة، ابتسامته عريضة، وله عينان تشبهان عيني بطل فيلم ''الدكتور زيفاكو''، وقد حدثني ذات مرة عن قصته حين كان في المدرسة الثانوية وكيف اتفق وأصدقاؤه على مخطط لدراسة القانون، وبأن اثنين منهم ذهبا إلى القاهرة للحصول على شهادات جامعية، ولكنه اراد أن يبدأ في كسب المال، ففاته القطار لأسباب يندم عليها الشباب لاحقا، ولكنه عمل بجد من السادسة صباحا إلى الرابعة بعد الظهر يوميا وعلى مدى عشرين عاما· وعندما تمكن عابد أخيرا من ادخار ما يكفي من المال في مطلع الألفية الجديدة، شرع في بناء منزل كبير في حي ''بيت حنينا'' شمال القدس، وفي 2003 قام بنقل أسرته إلى المنزل الجديد -منزل أحلامه- وهو الوقت الذي كانت فيه أعمال العنف خلال الانتفاضة الأخيرة في أوجها، حيث تم تفجير مقهى ''هيلل'' المقابل للسوق في تلك السنة، وعلى غربها على مسافة ميل ونصف الميل حدثت -حسب إحصائياتي- 10 تفجيرات انتحارية لمتاجر ومطاعم وحافلات منذ ·2001 في 2004 أعلنت السلطات الإسرائيلية عن بناء جدار أمني يحمي عاصمتها ''الموحدة'' -الشرقية العربية والغربية اليهودية- من الإرهاب القادم من الأراضي الفلسطينية، ولسبب من الأسباب شاءت الأقدار أن يكون حي ''بيت حنينا'' في الجانب الآخر من الجدار، فكان أن مُنح عابد وأسرته مهلة أسابيع لإيجاد مكان ليعيشوا فيه على الجانب الغربي من الجدار، والا فإنهم سيُعتبرون من سكان الأراضي الفلسطينية، وليس القدس، وفي تلك الحالة سيفقد وظيفته، وستفقد أسرته الضمان الاجتماعي والمزايا الصحية رغم الضرائب التي دفعها طيلة هذه السنين· وهكذا لم يكن أمام أسرته خيار آخر غير العيش في شقة تتألف من غرفتي نوم بحي يقع داخل الجدار، غير بعيد عن المنزل الذي يعيش فيه أشقاؤه، وعندما سألته: ''من يعيش في المنزل الآن؟''، كان جوابه لي: ''الطيور''، قبل أن يضيف ''الله كبير!''· حكى لي ''عابد'' القصة باستياء وحسرة، ولكن من دون كلمة واحدة تنم عن الكراهية، ولم تغرورق عيناه بالدموع إلا حين أخذ يشرح لي كيف أنه اضطر إلى سحب أطفاله من المدرسة، وإخبارهم بأنهم لن يستطيعوا من هنا فصاعدا اللعب مع أصدقائهم، ثم اغرورقت عيناه بالدموع مرة أخرى، وهو يمسك بيدي، عندما تم هدم منزل شقيقه، وتلك هي العقوبة التي يعاقب بها عادة من يقدم على إضافة طوابق بدون ترخيص من البلدية، والحال أن هذه التراخيص لا تُمنح أبدا، كما أن الهدم هو مصير لا تعرفه منازل اليهود· أحكي هذه القصة لأن ''عابد'' لم يستيقظ الأسبوع الماضي وشرع في قتل اليهود - ليس كـ''حسام دويات'' الذي قتل بجرافته ثلاثة أشخاص وجرح الكثيرين- مثلما لم يفعل ذلك أحد من عرب القدس الشرقية الـ،249000 وذلك على الرغم من أنهم غير راضين عما يحدث في المدينة التي أبصروا فيها النور لأول مرة· اليوم تتحدث الحكومة الإسرائيلية عن تسوير المدينة، غير أنها من الواضح أنها ستسور معها الشعور بالظلم والإحباط، والغضب الأعمى أحيانا؛ فما يفترض أن يكون رحلة تستغرق خمس دقائق من جامعة القدس، أو منزل الأخت في ''حزمة'' أصبح اليوم رحلة تستغرق ساعة عبر نقاط التفتيش في شمال المدينة، مرورا بمنزل ''عابد'' والطيور· بيرنارد أفيشاي- القدس مؤلف كتاب الجمهورية العبرية ينشر بترتيب خاص مع خدمة لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©