السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مجاورات واختلاطات حروفية

مجاورات واختلاطات حروفية
26 مايو 2010 20:08
على مدى الشهرين بدءا من السابع من الشهر الماضي وحتى السابع من الشهر المقبل، قدم ملتقى الشارقة لفن الخط العربي في دورته الرابعة ما يقرب من الخمسين فعالية، تنوعت ما بين المعارض والندوات، وجرى فيه منح جوائز متعددة ومتنوعة فضلا عن الندوات المتخصصة وغير المتخصصة وورشات العمل وما إلى ذلك، بل واحتضن كل ما يمكن القول إنه تجريبي في حقل اللوحة الحروفية العربية، بل أبعد من ذلك، فقد فتح أبوابه لكل ما يمكن أن يكون إبداعاً في هذا الحقل. توزعت الفعاليات على أنحاء مختلفة من إمارة الشارقة، فقدمت مواهب فنية جديدة إماراتية وعربية وإسلامية وغير إسلامية، لكنها، أساسا، قدمت أسماء مؤثرة جدا في حقل الحروفية العربية التي يبعث منجزها، لا على الإعجاب بها فحسب، إنما تشير إلى أسئلة وتكشف عن قلق معرفي وإنساني عميق، يلقي على المتلقي عبء أن يتلقى، بدوره، أعباء أسئلة الهوية، وخاصة الفنانين العرب منهم. وبالطبع بوصف ذلك قراءة خاصة لا أكثر قد تصيب وقد تخطئ. في واحدة من دلالات ظهورها، بوصفها لوحة مسندية قائمة بحدّ ذاتها إلى جوار اللوحة المسندية المعهودة التي باتت كلاسيكية الآن، ربما كانت اللوحة الحروفية العربية شكلا من أشكال التعبير عن الذات وعن الهوية العربية، على نحو صميمي، سواء عليها أكانت ذات محتوى إيديولوجي أم لم تكن. إنها صورة الذات بإزاء الذات “ذاتها” إنما بتنويعات ثقافية عديدة. غير أن جملة معارض ملتقى الشارقة لفن الخط العربي، الذي افتتح في السابع من أبريل الماضي ويختتم في السابع من الشهر المقبل، بما تشتمل عليه من تجارب فنية غزيرة وغنية تنتمي إلى أجيال متعددة تشير إلى أن القيمة الجمالية للحرف العربي بحد ذاته هي الأعلى شأنا من سواها بل هي تعبير عن ذات الفنان المفردة وعن موقفه الجمالي من العالم ومن المعرفة. لايبدو هذا الحديث جديدا، لكن ذلك التجاور الشديد بين معارض الملتقى زمانيا ومكانيا تطرح على متلقيها كلها دفعة واحدة العديد من الأسئلة حول مستقبل هذه اللوحة. أسئلة من النوع الذي يثيره دخول التقنية واستخدام إمكانات الحاسوب الجافة والباردة في إنتاج جماليات تعبيرية لما هو أكثر الفنون التصاقا بالهوية العربية من بعد الشعر والأرابيسك أو في المستوى نفسه من إلحاح الهوية. ليست أسئلة من النوع الذي يشكك في الجدوى بل من النوع الذي يطرحه المرء على نفسه وعلى مستوى القدرات المعرفية التي تعينه على استيعاب هذا الاختلاط كله بين ما هو حداثي وما بعد حداثي وما هو كلاسيكي أصلا كلها خلال دفقة من الزمن الذي لا يتجاوز الساعات الثلاث، لكنه زمن مدوّخ بالفعل إذ ينقسم ويتجزأ ويتعدد ويلتئم ثم ينفصل بالانتقال من موقع لمعرض إلى آخر. إن الملمح الأول والراسخ للحروفية العربية بثقلها الكلاسيكي هو النمطية والتكرار، حيث تنجذب العين إلى بنية هندسية علمية، إذا جاز التوصيف، نحو جمالية خاصة جرى إنتاجها ضمن مقاييس صارمة، كما هي لوحة تاج السر حسن، الحروفي العربي العريق، التي يتغزل فيها ببيت من شعر للمتنبي بحيث جعل الحرف كأنما يرقص عبر معادلة لونية ذات جاذبية خاصة، مقارنة بعمل أو أكثر للفنان اليمني سلطان المقطري، الذي تقترب أعماله بروحها وجماليتها من علم التصميم وتنأى عن المفهوم الكلاسيكي أو الراسخ للوحة الحروفية العربية خاصة وأن التقنيات التي يتيحها جهاز الكمبيوتر قد تمّ استخدامها في هذه الأعمال. أي أنه ما من ضربة فرشاة تنتج ملمسا صلبا أو قاسيا أو خشنا على السطح التصويري بل هناك الابتكار والخلق الذي تنتجه المخيلة الابداعية لكنه لا يستند إلى أدوات الكلاسيكية في إنتاج النص البصري، تجعل منه نصا قابلا للقراءة أو التحليل أو إنتاج خطاب ما حوله، وذلك بالنسبة لكاتب هذه السطور بوصفه متلقيا عاديا، كما هي الحال مع أعمال الفنان القطري علي حسن الذي يقترب، في أعماله المعروضة، من خطاب الحروفية الصوفية التي تذهب نحو أحرف عربية بعينها لتعيد إنتاج جماليتها الخاصة بها كالألف والنون. وهنا يشعر المتلقي حقيقة أنه أمام لوحة تخاطب المشاعر والأحاسيس والعقل معا، وتجعله قادرا على إدراك الملمس على السطح التصويري عبر البصر وإدراك جماليات اللون وكذلك الخطاب الفكري الذي يقف وراء هذه اللوحة والذي هو خطاب ينأى عن ما هو إيديولوجي ويقترب من الإنساني والشفيف، خاصة وأن اللون في حد ذاته يمثل قيمة جمالية حاسمة بالنسبة للفنان، وبالطبع فإن الكلام هنا عن علي حسن يأتي على سبيل المثال لا الحصر، فثمة الكثير من النماذج الراقية التي قدمها الملتقى بالفعل من سائر الدول العربية والإسلامية وسواها، والتي من غير الممكن تناولها جميعا على وجه الإجمال والاختزال، فالملتقى ليس معرضا جماعيا، بل هو أوسع من ذلك بكثير. غير أن هنا الأمر يبقى في سياق اللوحة الحروفية العربية وما يطرأ عليها، وعلى الكلام الذي يدور حولها أي النقد، من تطورات وتجديدات وتحويرات في إطارها الخاص بوصفها لوحة مسندية، لكن في معرض “صحراء على حافة الضوء” للمصور الفوتوغرافي الإماراتي سيف حميد الزري، الأمر يختلف تماما، إذ يشعر المرء أنه، بالفعل، بإزاء “كولاج” من الأزمنة، حيث تلك الصورة التي اختار لها صاحبها أن تكون بالأبيض والأسود، أي التي تنتمي إلى ستينات القرن الماضي والقرن الذي سبقه أيضا، وقد تمّ إجراء نوع من الاستدخال للحروفية العربية عليها عبر الاستفادة من تقنيات الكمبيوتر الحديثة، أو بمعنى أدق الراهنة والتي تشهد إحداث تطويرات عليها يوميا تقريبا. ويبدو أن النجاح في الجمع ما بين فن الفوتوغراف واللوحة الحروفية من عدم هذا النجاح، واستقلاله عن الفوتوغراف بشرطه الخاص ليكون لوحة حروفية أمر منوط بإنجاز تراكم فني في هذا الحقل بحيث يمكن إنتاج خطاب نقدي مواز للعمل الفني بحد ذاته. لكن يمكن القول، إن ما هو أساسي في إنتاج التجربة الجمالية لدى سيف حميد الزري هو كامن في الصورة الفوتوغرافية في حدّ ذاتها وليس في استدخال الحروفية إليها، بل، ربما وبقدر من المبالغة، أن الحروفية فائضة عن حاجة الصورة على الرغم من جمالية الكلام الذي تقوله هذه اللوحة للناظر إليها على السطح الفوتوغرافي: “اندلقت مياه العالم في جوفي فشربتها دمعة دمعة ومضيت” في الصور، يلحظ المرء أن هناك تقشفا مثيرا لاهتمام العين وبالتالي الفكرة التي تستدعيها الرؤية البصرية في ذهن الناظر إليها. فلا عناصر أخرى سوى الشجر والرمل، وتلك التشققات في الأرض التي تشير إلى المعنى نفسه التي هي الاستدخال الحروفي الوحيد إلى الصورة، على الرغم من جمالية القول الشعري فيها. بهذا المعنى، ينتمي سيف حميد الزري إلى ذلك الاتجاه في التصوير الفوتوغرافي الذي يذهب إلى التقاط الجماليات في الواقع القاسي، ليُحدِث نصا بصريا جديرا بالتأمل والقراءة، وهو اتجاه أصيل في التصوير الفوتوغرافي عالميا وبرز من خلاله العديد من الفنانين الفوتوغرافيين من الذين أثّروا في عالم التصوير حتى على الصورة الصحفية بحدّ ذاتها، وشهد القرن العشرين الكثير من الأسماء التي تنتمي لهذا الاتجاه الذي هو الأصعب في فن التصوير الفوتوغرافي. والحال أن المعرض العام، وربما هو المعرض الأكثر إثارة للاهتمام ضمن الملتقى، يعيد طرح تلك الأسئلة القديمة المتجددة في ما يتصل بالحروفية العربية على وجه الإجمال. إنها أسئلة التأصيل لا الحداثة، وأسئلة المفارقة بين واقع معاش وآخر ربما يكون من ذلك النوع المحلوم به. أسئلة من نوع: هل من الممكن فصل الحروفية العربية، والعربية هنا ذات صلة بهوية منفتحة، عن إرثها الديني العريض والمتنوع والمتعدد؟ هل يمكن لها أن تعيش زمنها الخاص؟ وهل تكمن جمالية الحرف العربي بشكله في حدّ ذاته أم بأمور وأسباب أخرى؟ هل سيمتد ذلك الاتجاه في الحروفية العربية الذي يستقي ذريعته الفنية من الواقع أو من الثقافة الشخصية كما هي الحال في الكثير من الأعمال في معرض “الحرف والكتاب” كما هي الحال لدى المغربي محمد بستان والتونسي عمر الجمني والبحريني عباس يوسف التي تشير وتشي بـ”إرثها الثقافي” في الوقت الذي تذهب فيه عميقا نحو التساؤلات الشكلية بدءا من السطح التصويري للوحة المسندية وليس انتهاء بطبيعة الورق الذي يجري الاشتغال عليه والجمالية والخصوصية الفردية التي من الممكن أن تتحقق من خلاله؟ حقيقة الأمر، إنها أسئلة مدوِّخة. ينضاف إلى ذلك، تلك الحيرة الشخصية، وربما تنتاب أي متلق عادي، من ذلك النوع الذي خرج من عباءة الثقافة العربية بكل إشكالياتها وتناقضاتها وإيجابياتها وسلبياتها، أمام أعمال حروفية عربية صميمية أنتجها فنانون ليسوا أجانب فحسب، إنما من خارج القوس الحضاري للثقافة العربية والإسلامية، وتحمل قيمة جمالية من طراز رفيع، حيث لا يكفي القول بأن هذه الثقافة لها جاذبيتها الخاصة. لكن ربما يكون الأقرب إلى الصواب هو أن الحروفية العربية هي حقل معرفي شديد التخصص بالنسبة لهؤلاء الفنانين، ومن غير شكّ فهو حقل صعب ويحتاج إلى دأب واستغراق فيه، ربما، لعمر بأكمله. خذ مثلا أن تفوز الألمانية ماريانا ماندا بجائزة الاتجاهات الحديثة في الخط العربي، فتنتج عملا يجدر بتأمله طويلا وكذلك التصور الثقافي الذي انتجه، وكذلك هي الحال مع رابعة أمجد من اليابان الفائزة بواحدة من جوائز الاتجاهات الأصيلة. علي حسن وأسرار النون يعتقد الفنان القطري الكبير علي حسن أن حرف النون يملك الكثير من الأسرار المعنوية والجمالية خصوصا وأن الله سبحانه وتعالى أشار إليها في القرآن الكريم في الآية الأولى من سورة القلم “نون والقلم وما يسطرون”. ويجد الفنان علي حسن في هذا الحرف تلخيصاً بلاغياً ورمزياً لمعان وصور لا حصر لها في خياله، ففي انسيابه، يلاحظ في لوحاته انسياب رمال الصحراء، وفي صعوده صعود أمواج البحر، وفي نقطته شموساً وأقماراً وكواكب معلقة في سماء الله الواسعة. ولد الفنان في الدوحة وعمل خطاطا في الصحف المحلية في العام 1972، وهو حاصل على بكالوريوس آداب قسم تاريخ عام 1982، وعلى دورة في مجال صيانة التراث العربي الإسلامي من جامعة بلجيكا عام 1984، وأيضا على دورة تخصصية في مجال الحفر من كلية الفنون الجميلة في القاهرة عام 1986، وقد عمل رئيسا لمجلس إدارة المركز الشبابي للإبداع الفني ورئيسا لمجلس إدارة مركز إبداع الفتاة في الدوحة من 2004 إلى 2008، وأسس صالون الشباب في الدوحة عام 2005، وهو أيضا المنسق العام لمعرض قطر بين الماضي والحاضر والمستقبل الذي نظمه معهد العالم العربي بباريس خلال الفترة ما بين 2007 و2008.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©