الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نحو الخروج من التحقير الثقافي المتبادل

نحو الخروج من التحقير الثقافي المتبادل
26 مايو 2010 20:10
يتهم الغربيون عموماً العالمين العربي والإسلامي باحتضان التطرف والإرهاب، المحلي والدولي، وتشجيع الحركات التي مارسته ولا تزال، في الداخل وعلى الصعيد العالمي. ويقدمون هجوم 11 سبتمبر وما نجم عنه من تفجير استهدف برجي مركز التجارة العالمي، مثالاً قوياً على خطورة هذه الظاهرة التي لن تكف عن الانتشار، كما تشير إلى ذلك العمليات اللاحقة التي أدمت العديد من العواصم الأوروبية، في باريس ولندن ومدريد وبرلين بعد واشنطن ونيويورك، في السنوات القليلة الماضية، بالإضافة إلى عمليات أخرى جرت وتجري في القارات الأخرى وتنسب إلى القاعدة. يشير هؤلاء في السياق نفسه إلى الصعود الكاسح داخل البلاد العربية والإسلامية لحركات الاسلام السياسي، الذي زعزع أسس استقرار الدول العربية والإسلامية التي تربطها بالغرب والعالم علاقات اقتصادية وسياسية واستراتيجية عميقة. وعزز الاعتقاد بأن الإسلام والعنف شيئان لا ينفصلان. كما يبرز هؤلاء في السياق ذاته اعتماد الحياة السياسية العربية الداخلية على العنف والانقلاب والمنازعات الدموية، وعداء نظمها السياسية للديمقراطية واستسلام مجتمعات العرب للديكتاتورية، وصمتها على الانتهاكات الخطيرة والدائمة للحقوق المدنية والسياسية للأفراد، وفساد النخب الحاكمة، وتقهقر شروط الحياة المادية والمعنوية. وما رافق هذا التقهقر في السنوات الماضية من تنامي معدلات الهجرة من العالم العربي إلى الغرب، وتزايد عدد الجاليات الإسلامية هناك ومعها الخوف من أن تتحول إلى غيتوات أو معازل مغلقة، وتنقل معها تقاليدها وأفكارها ونزاعاتها الأصلية إلى بلاد المهجر. وهذا ما دفع بالعديد من الدول الغربية، في الولايات المتحدة وأوروبا إلى إصدار تشريعات تحد من حرية الأفراد، وتضع العرب والمسلمين في دائرة الشك المسبق والمراقبة الدائمة. فصارت متطلبات الأمن في تناقض واضح مع مبادئ الحرية الفردية والثقة المبدئية. بالمقابل، لم يشعر العرب في أي حقبة سابقة بعمق الهوة التي تفصلهم عن الغربيين ونزاعهم معهم، بما في ذلك الحقبة الاستعمارية المظلمة كما يشعرون بها اليوم. ويبدو عداء الغرب لهم عداءً شاملاً. فهو عداء ديني يرمي إلى تشويه صورة الاسلام وتقويض أركانه واستبداله بعقائد مادية أو دينية والمس بموقعه في النظام الاجتماعي باسم العلمانية. وعداء ثقافي يهدف إلى تغيير منظومة القيم والمعايير المرجعية والاختيارات الفكرية التي تنظم الحياة العمومية، ومن وراء ذلك تدمير الهوية العربية وقطع الطريق على إحياء الحضارة العربية الإسلامية، باسم الديمقراطية وحقوق الانسان. وعداء سياسي على النفوذ والتأثير المادي والمعنوي داخل المجتمعات. فيتهم الغرب بتحالفه مع النخب الحاكمة العربية والضلوع معها في تثبيت الأوضاع القائمة باسم الاستقرار، ومشاركته في بلورة السياسات الفاسدة واللا وطنية فيها، من خلال دعم السياسات القمعية أو ممارسة الضغوط الاقتصادية والعسكرية والسياسية أو حتى القيام بالانقلابات العسكرية. وعداء جيوسياسي يتعلق بسعي الغرب إلى الإبقاء على سيطرته الاستراتيجية في الشرق الأوسط. وهو أخيرا عداء عسكري يتجلى عبر الحروب العديدة التي تشنها الدول الغربية على العرب، مباشرة أو عبر وسيطها التاريخي والإقليمي الرئيسي إسرائيل، في فلسطين ولبنان والعراق والسودان والصومال وفي أفغانستان وغيرها. أسباب نظرية حتى فترة قريبة كان العرب ومفكروهم يميلون عموماً، انسجاماً مع النظريات الاجتماعية السائدة، إلى إرجاع هذه الأزمة إلى أسباب سياسية واستراتيجية واقتصادية، ويرون فيها ثمرة لاستمرار الغرب في اتباع سياسات معادية لاستقلال العرب وسيادتهم، أو إلى تطبيق استراتيجيات تحرمهم من حقوقهم الوطنية والتاريخية في فلسطين وغيرها، أو ممارسة الضغوط الاقتصادية والسياسية لتقسيمهم ومنعهم من تحقيق أهدافهم القومية في الوحدة والتقدم والسيادة. وربما كانت سياسة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش التي طبقتها الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط في الأعوام الثمانية الاخيرة برهاناً على هذا الطرح الذي يحمل الغرب المسؤولية الرئيسية عن تفاقم أزمة العلاقات العربية الغربية. ومن هذا المنظور الذي ينسجم مع مقاربات العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة وتطبيقاتها في ميدان العلاقات الدولية ليست القطيعة التي تميز العلاقة بين العرب والغرب سوى التعبير عن صراع المصالح المادية والاستراتيجية. وربما وجد من يعتقد، أكثر من ذلك، بأن غياب المقدرة على التوصل إلى تفاهم حول المصالح القومية العليا، كما يحصل عادة بين القوى والتكتلات السياسية، يرجع إلى إسرائيل والمكانة التي تحتلها في نظام العلاقات الغربية، ومساعيها للإيقاع بين العرب والغرب. وعلى جميع الأحوال كان العرب ولا يزال قسم كبير منهم يعتقد أن مشكلة إسرائيل والقضية الفلسطينية المرتبطة بها، هما أحد أهم عوامل التأزم في العلاقات العربية الغربية، وأن حل المسألة الفلسطينية وتحقيق السلام في المنطقة يشكل مدخلاً مهماً لتجاوز الأزمة وبناء علاقات تعاون وشراكة حقيقية مع الغرب. وبالمقابل، وانسجاماً مع تطور المدارس الانتروبولوجية الحديثة بدأت تنتشر في العالم الغربي، ثم فيما بعد في البلاد العربية نفسها، مقاربة ثقافوية تركز على أهمية اختلاف الثقافة والهوية في بناء العلاقات الاجتماعية والدولية، وتنزع إلى النظر إلى المجتمعات العربية على أنها تمثل حالة خاصة، تختلف عن غيرها من الحالات القومية، ولا تنطبق عليها مناهج العلوم الاجتماعية المعروفة، وهو ما أطلق عليه اسم الاستثناء العربي. فللعرب من هذا المنظور مناحي تطور خاصة لا تتفق مع ما عرف حتى الآن من مناحي تطور المجتمعات الحديثة. تتغذى فكرة الاستثناء العربي من الشعور المتنامي عند الرأي العام الغربي بأن المجتمعات الإسلامية لا تتطور في الاتجاه الصحيح أو العام الذي يسيطر على اتجاه تطور البلاد الأخرى، ولذلك فهي تبدو وكأنها تسير عكس اتجاه التاريخ. فهي لا تزال تتمسك بالعنف وتمارسه كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية وفلسفية، وتعود إلى الاستثمار المبالغ فيه في الدين فيما يتعلق بتنظيم الحياة الاجتماعية والدولية، وترفض الاعتراف بالتعددية والاختلاف، ولا تثق بالمعرفة العلمية كسبيل لفهم الواقع أو بلوغ المعرفة الموضوعية، وتنمي الاستبداد والطغيان، وتغيب عن حياتها العمومية كل أنواع الحريات المدنية والسياسية، وتستمر على السلوك حسب منظومات القيم والأعراف التقليدية، وترفض الاعتراف بقيم السلام والمساواة والأخوة الإنسانية، وتمارس التمييز بين الرجل والمرأة والأنا والآخر، ولا تشعر بالحاجة إلى التفاعل مع القيم العصرية، إنها باختصار تسير في عكس طريق الحداثة التي سارت عليه ولا تزال بقية الشعوب. ومع تراجع مكانة الايديولوجيات العصرانية، القومانية واليسارية، بدأت الطروحات السياسية والاجتماعية تنحسر في العالم العربي أيضا لصالح هذه الطروحات الثقافوية التي تركز على تعارض الثقافات ومنظومات القيم والنماذج الحضارية. وتتفق هذه الطروحات مع الايديولوجيات الاسلاموية السائدة اليوم، والتي تؤكد على الاختلاف الحضاري، من خلال تركيزها على خصوصية الثقافة أو الحضارة العربية، ومراهنتها على العودة إلى الأصول بوصفها الاستراتيجية الوحيدة الناجعة لمقاومة نزعة الاستلاب للغرب، والتحرر من سيطرته الثقافية والسياسية، وبناء المقاومات القوية القادرة على مواجهته والتصدي لسياساته العدوانية. وتكاد هذه الحركات تكون الأكثر استهلاكاً لطروحات صدام الحضارات، واستلهاماً لها في سياساتها وممارستها اليومية. فأهم ما يهدف إليه الغرب من سياساته العدوانية وسيطرته على العالمين العربي والاسلامي يكمن في نظرها في محاربة الهوية العربية الاسلامية، ونزع الشخصية، من أجل استرجاع الشرق إلى الأملاك الغربية، كما كانت تهدف الحروب الصليبية. فلا ينبع العداء للعرب من مطامع جزئية أو من صراع على مصالح مادية او استراتيجية وإنما من رهانات كلية، تتعلق بالوجود نفسه، أي الوجود الحضاري. ولذلك فهي لا ترى الأزمة من منظار الحاضر والنزاعات المرتبطة به، وإنما تنظر إليه كاستمرار لصراع حضاري طويل، بدأ مع نشوء الاسلام، ولا يزال مستمرا إلى اليوم، مرورا بالحروب الصليبية، ثم الحروب الاستعمارية، واليوم حروب فلسطين والعراق والسودان والصومال وغيرها من الحروب التي أشعلها الغرب ولا يزال يغذيها في اكثر من بلد عربي أو إسلامي. ينجم عن ذلك أن الصدام مع الغرب والصراع معه قانون تاريخي لا فكاك منه. وأن المقاومة والممانعة هي الطريق الوحيد للحفاظ على الهوية والسيادة والحقوق التاريخية. طريق التحرر من الاستلاب الثقافي والسياسي والتبعية الاقتصادية والعودة إلى الحلول الأصيلة المستمدة من ثقافة المسلمين ودينهم وتقاليدهم. ومن الطبيعي أن يؤدي اللقاء حول فكرة صدام الحضارات وصراع الأديان بين الطرفين الغربي والعربي إلى تفاقم الأزمة واستفحال القطيعة. فهي تقدم لهما ايديولوجية جديدة تغذي الشعور بأن الصراع القائم بين العرب والغرب ليس صراعا مؤقتا ولا عابرا، ولا يتعلق بمصالح محددة يمكن حصرها وتعيينها، وبالتالي التفاوض من حولها، وإنما هو صراع دائم، يدور من حول الوجود بأكمله بمقدار ما يمس الهوية، أي الدين والثقافة والقيم الخصوصية والذاتية. ومن هنا لم يعد الصراع خياراً من بين خيارات عدة، وإنما أصبح أمرا مفروضا، وبالتالي واجبا لا يمكن تجاوزه ولا الالتفاف عليه. من هنا كان لابد أن يلتقي أصحاب عقيدة صدام الحضارات على استنتاج مشترك وهو حتمية الحرب والجهاد. فكما يبين صاموئيل هينتغتون هدفه بوضوح في نظريته عن صدام الحضارات، وهو أن يعرف الغرب أن الحرب مع عالم الإسلام حرب حتمية لا يمكن تجنبها ولابد من الاعداد لها منذ الآن، لا يخفي أصحاب عقيدة الجهاد من السلفيين المحافظين بأن الجهاد واجب ديني، لا اختياراً سياسياً، وأن القيام به هو جزء من العقيدة، وفريضة بقيت غائبة لفترة طويلة ولابد من إحيائها والعمل بها حماية للمسلمين ودفاعا عن دينهم وعقيدتهم، وتحقيقاً للوعد الإلهي بالنصر. في منظور هذه القراءة التاريخية، تبدو الامور مفهومة وواضحة وبسيطة. ولا تطرح أي مشكلة على البحث الاجتماعي. فالصراع يقدم نفسه منذ البداية على أنه بديهة عقلية. الغرب غرب والشرق شرق ولا يمكن أن يلتقيا. بالعكس، إن تصور نمط آخر من العلاقات بين الغرب والشرق هو الذي يطرح في هذه الحالة مشكلة، لأنه لا يجد أساساً يقوم عليه، بعد أن بين التاريخ في الماضي والحاضر، وجود هذه العلاقة العدائية واستمرارها. وهذا هو انطباع الانسان العادي الذي يميل إلى التعميم السريع وينزع إلى تبني التفسيرات الجاهزة. بيد أن هذا ليس موقف الباحث العلمي الذي لا يؤخذ بالمظاهر السطحية، ولا يبني موقفه على تعميم الملاحظات الجزئية أو التفسيرات البسيطة او المبسطة التي تحل التناقضات والنقائص في المعرفة التاريخية بتعديد الأمثلة التاريخية. بالعكس تبدو هذه القطيعة العميقة التي يعيشها العرب على مستوى وعي العلاقة مع الغرب استثنائية من نواح عديدة، لأنها مناقضة للوقائع المادية ولمنطق التاريخ في الوقت نفسه. من هنا تطرح إشكالية التأويل العلمي، ليس من حيث هي إعادة قراءة الوقائع وتأويلها، وإنما لما تحمله من مخاطر الخلط بين تفسير التاريخ وتبريره بذريعة إيجاد الاتساق والانسجام غير الموجود أصلاً فيه. وهذا ما يحصل عادة عندما يخفق المؤرخ في إدراك الطابع الاستثنائي وأحياناً المركب والمفارق للظواهر التي يسعى إلى تفسيرها. فأين يكمن العادي، أي التاريخي، الذي ينسجم مع منطق التاريخ وقوانينه العادية، في هذا الصراع بين العرب والغرب، في تطور العالم العربي، وأين يشكل هذا التطور، بالعكس، ظاهرة استثنائية تتجاوز السياقات التاريخية ومنطق العلاقات الدولية العادية، وبالتالي تظل مستعصية على الفهم وخارجة عن نطاق السيطرة والتغيير والتبديل ؟ أين يكمن الصراع الذي لا مهرب منه والمتعلق بالدفاع عن الهوية والوجود وأين يكمن الصراع الذي يدور حول موارد ومواقع ومكتسبات، ويمكن أن تحصل من حوله تسوية تاريخية؟ في الإجابة على هذه الأسئلة تتحدد إمكانية أو عدم إمكانية الخروج من الصراع أو تقييده وإصلاح العلاقات العربية الغربية أو تحسين للتواصل بين الجماعتين. الأفكار الشائعة والواقع بعكس ما تشيعه الايديولوجية السائدة في الغرب والشرق معا، أي ايديولوجية المحافظة الجديدة والسلفية الاسلامية، لم يكن العالم العربي أقرب إلى الغرب مما هو عليه اليوم، في أنماط تفكيره واستهلاكه وتحالفاته الاستراتيجية والسياسية. ولا ينبغي للشعور الساحق بالعداء للغرب وسياساته، وهو حقيقة قائمة، أن يمنعنا من ملاحظة سيطرة الليبرالية وقيمها، ولو كان ذلك في صورتها الأكثر انحطاطاً وابتذالاً، في ميدان الحياة العملية، في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، وفي المعارضة والدولة على حد سواء. ولا تشكل السلفية الدينية إلا آلية دفاعية، أو حجاباً، يجنبنا مواجهة الحقيقة المرة، أعني تناقض الممارسة والواقع مع المبادئ والأفكار والالتزامات الأخلاقية. وهو ما يعبر عنه أفضل تعبير وضع القضية الفلسطينية، حيث يتم استعمار فلسطين الثاني وانتزاعها من أيدي العرب، في ظل سيطرة خطاب جهادي لم يعرفه العالم العربي في أي حقبة سابقة. وتأويل ذلك أن منطق الحياة اليومية وزمانيتها لا يتطابقان مع منطق الصراعات الجيوستراتيجية بل الاستراتيجية الكبرى وزمانيتها. إذ أن النزاع على السيطرة، أو مقاومة الخضوع والاستسلام والهيمنة، لا يقضيان على الحاجة إلى تأمين متطلبات الحياة اليومية، حسب ما يقتضيه العصر، وعلى ضوء قيمه ورمزياته، ولا يشكلان بالتالي وبالضرورة، الانشغال الدائم للجماعات والأفراد، لا في الشمال ولا في الجنوب. فمنطق الصراعات الجوستراتيجية يعمل في الخفاء وعلى مدى طويل، ولا يدخل في حسابات الناس الذين يعيشون حياتهم بشكل طبيعي، ويخضعون في تفكيرهم لمنطق سد حاجاتهم اليومية الضاغطة. ولم تمنع الصراعات الجوستراتيجية العميقة من نشوء أسواق مشتركة، وتبادل السلع، بل ونسج علاقات صداقة وزواج حميمية بين شعوب ضفتي المتوسط، حتى في أحلك ظروف الحرب والقتال، كما يدل على ذلك تاريخ العلاقات بين المسلمين وسكان الممالك الصليبية في القرون الوسطى. وهذا ما ينطبق أيضا على وضعنا الحالي. فلا يمنع العداء المتبادل بين العرب والغربيين عموماً تبادل المصالح والمنافع، ولا استيراد السلع من الغرب وتصدير السلع العربية للغربيين. وأكثر من ذلك لم يمنع الصراع بين العرب والإسرائيليين، وهو صراع ثقافي وسياسي وعسكري استراتيجي، نعيشه يومياً وبشكل حي، بعكس الصراعات الجيوسياسية التاريخية، من أن يعيش العرب بأغلبهم حياتهم الطبيعية، ويتبادلون في كل الميادين مع الدول التي تدعم إسرائيل علناً، بل يوقعون معاهدات دفاعية معها، في الوقت الذي لم تتوقف المعارك في داخل فلسطين ومن حولها، ولا تزال حركة الاستيطان الاستعماري في اتساع مستمر. فالعداء للغرب لا يمنع بالضرورة من الخضوع له والتكيف مع سيطرته، تماماً كما أن التعلق بثقافة الغرب أو الدفاع عن الايجابي منها لا يحكم على أصحابهما بالعمالة للغرب أو الخضوع لأوامره. بل من الممكن القول إنه فيما وراء المواقف المختلفة والمتمايزة، تفرض الوقائع أنماطاً من العلاقة غالباً ما تكون مخالفة للموقف النظري أو الشعور السائد. فتثمين النهضويين والإصلاحيين العرب والمسلمين للتراث العلمي والتقني والأدبي والفني للغرب قد دفعهم إلى النشاط والاجتهاد من أجل بناء ثقافة عربية حديثة مستقلة عن الغرب ومناظرة له. وطور لديهم شعوراً بالندية يكمن في أساس النهضة الفكرية والأدبية التي لا نزال نرجع إليها في مشاريع تطوير حداثتنا الثقافية. وبالمثل، لم يمنع الأخذ بمفاهيم الدولة والسياسة والوطنية القوميين والليبراليين العرب والمسلمين في القرن الماضي من بذل الجهود لاقتلاع جذور الاستعمار والعمل ضده. فقد كان ذلك شرطاً للنجاح في إقامة دول مستقلة وذات سيادة وتبني نظم التعددية والديمقراطية لإضفاء الشرعية القانونية عليها. ومن دون التمسك بمفاهيم الحداثة السياسية ما كان من الممكن تصور مشروع دولة وطنية ديمقراطية وتعددية تستمد سلطتها من الشعب، وإنما عودة إلى الصيغة التقليدية السلطانية، بما يفترضه ذلك من صراع لا ينتهي بين القوى المتنازعة على إقامتها والسيطرة عليها وإخضاعها لحاجات الهيمنة الدينية. وبالعكس، تشهد الحقبة الراهنة، التي تسود فيها نظرة الرفض الشامل لثقافة الغرب وحضارته وسياساته الاستعمارية معاً، خضوع العالم العربي والإسلامي بشكل لم يسبق له مثيل للغرب وتبعيته له، في اقتصاده وأمنه وعلمه وتقنيته وأدبه وثقافته أيضا، وانتشاراً واسعاً لأنماط المعيشة الغربية، من استهلاك ونماذج تسلية وترفيه ومناهج تربية ولغات يتجاوز تداولها أكثر فأكثر ميدان التعليم الخاص أو العالي ليدخل في صميم العلاقات العائلية والرسمية. ولم يعرف العالم العربي فترة كان فيها الاعتماد قوياً على الغرب في ضمان الأمن والاستقرار في المنطقة كما هو عليه اليوم، ولا كان الاعتماد المتبادل في الاقتصاد والمال مثل ما هو عليه في الحاضر. ولم يكن النزوع إلى نقل حضارة الغرب ومؤسساته العلمية والفنية ومراكز أبحاثه أكبر في العالم العربي مما هو عليه الآن، حتى أصبح هناك بالفعل خطر على التعليم الرسمي الجامعي أمام منافسة فروع الجامعات الأجنبية، بل على استمرار اللغة العربية كلغة للمعرفة العلمية والبحث. وتدرج سياسات العولمة الاقتصادات العربية بشكل سريع في الاقتصاد الدولي والغربي منه بشكل خاص فتحل الشركات الصناعية والتجارية الكبرى في المحل الأول من بين الشركات العاملة في بلداننا بينما ينمو حجم استثماراتنا في الخارج ليصل إلى أكثر من 2 تريليون دولار قبل الأزمة المالية العالمية التي أبرزت هي نفسها درجة ارتباطنا بالغرب أيضاً وبمنظومته المالية. ويكفي الخروج من مثال المواجهة العربية الغربية، والانطلاق في تحليل العلاقات بين ما يسمى الحضارة العربية والهندية والصينية حتى يدرك المرء خطأ هذه المقاربة القائمة على افتراض حتمية صراع الحضارات نتيجة اختلافها، بل على افتراض وجود مثل هذه الحضارات المستقلة والقائمة بذاتها التي تحبس المجتمعات في تاريخهم الخاص وتحرمهم من إمكانية التفاعل مع منتجات الحضارات الأخرى وفهم قيمها وآدابها. صراع المصالح والقيم ليس لنظرية صراع الحضارات سوى وظيفة واحدة هي خلط الأوراق وطمس طبيعة المصالح المادية والاستراتيجية المتنازع عليها، وإغراقها في مصلحة مطلقة ومجردة لا يمكن النقاش حولها ولا التنازل فيها، ولا مجال لحفظها إلا سوى القتال، كما هو الحال في مسألة الهوية. ففي صراع الحضارات، الطرفان، الغرب وعالم الاسلام، لديهما الحق نفسه في الدفاع عن هويتهما، أي في تبرير جميع أشكال العنف والخداع والتشويش وتشويه صورة الآخر، طالما تحولت المسألة إلى مسألة حياة أو موت للحضارة والهوية نفسيهما. حرب الحضارات تعني إذن خلط الأوراق وقلب الوقائع ومعاني الأحداث بحيث لا يعرف أحد أو لا يستطيع أحد من الجمهور البسيط أن يميز المصالح الشرعية من المصالح غير الشرعية، وحيث يغطي النزاع على الرموز، مثل الحجاب والصورة الكاريكاتورية والمقال والتصريح والكلمة الجارحة، النزاعات الحقيقية والواقعية على مصالح استراتيجية واقتصادية وسياسية لا يريد أحد الكشف عنها أو تعريضها للنقاش والمساءلة. هكذا تستخدم النخب الغربية استراتيجية خلط الأوراق فتوهم بأن سبب النزاع ومسببه عنف الثقافة العربية أو ثقافة العنف التي ترفض الآخر وتحاربه، حتى تحرف النظر عن السياسات غير الأخلاقية وغير القانونية التي تطبقها في الشرق، سواء فيما يتعلق بالدعم اللامشروط لمشروع الاستيطان والاستعمار الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية، أو في ما يتعلق بالإبقاء على علاقات الهيمنة الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية التي تفرضها على بلدان المنطقة، بذريعة الحفاظ على مصالح حيوية، أو استراتيجية، أو محاربة الإرهاب وضمان الامن. وبتشويشها على صراع المصالح هذا تأمل النخب الغربية في تبرير سياساتها غير المشروعة تجاه رأيها العام أولا والرأي العام العالمي ثانيا. وتعتقد أنها تضمن بذلك استمرار نفوذها في منطقة حساسة جيواستراتيجيا. ويلوح معظمها بالخطر الاسلامي والارهابي الشامل والحتمي ليجعل من المشروع استخدام وسائل تدينها مبادئ نظامها الفكري والسياسي نفسه، أي انتهاك سيادة الشعوب والتضحية بها، والتدخل الدائم في الشؤون الخاصة لدول المنطقة، واستتباعها والتلاعب بمصيرها ورأيها العام ودعم نظمها الاستبدادية. ولأنها لا تزال ترفض الاعتراف بالعرب كمحاور أصيل وكفؤ وشرعي، فهي لا تقبل التفاوض معهم على ما تعتبره مصالحها الحوية والاستراتيجية، وتفضل النظر إليهم من زاوية البنى العشائرية والطائفية والعائلية البدائية. باختصار إن تحقير الثقافة العربية والاسلامية وتسويد صفحتها يهدف إلى حرمان الشعوب التي تنتمي إليها من أهليتها الانسانية، او على الأقل من الحق في الندية، ويبرر استخدام المعايير المزدوجة إزاءه إن لم يضف الشرعية على سرقة موارده. والذين يتحدثون دائما عن مصالح حيوية تخصهم في الشرق الأوسط لا يخطئون ولو مرة واحدة ويتحدثون عن المصالح الحيوية لشعوب المنطقة نفسها في السلام والأمن والتنمية والاحترام والكرامة والحرية والحقوق الإنسانية. الاستثناء الثقافي العربي هو إذن أفضل وسيلة للاستثناء العربي من الثقافة بما هي حقوق وحريات ومبادئ ومعايير إنسانية. ولسبب مماثل تلقفت النخب العربية بسرعة البرق نظرية صراع الحضارات نفسها. فهي تفيدها في التغطية على مسؤولياتها في أخطر قضيتين تعاني منهما الشعوب العربية. الأولى فشلها المريع في النهوض ببلادها والدخول بها في القرن العشرين، أعني تحديثها اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، وتركها في حالة يرثى لها، بما يتضمن ذلك من خسارة معركة التحرر الذي أطلقنا عليها، في منتصف القرن العشرين، اسم التحرر الوطني، وبناء أسس حياة سياسية واجتماعية واقتصادية وطنية سليمة ومرضية. والثانية إضفاء الشرعية على نظم حكم تنتمي للقرون الوسطى بكل معنى الكلمة، وتعامل الشعوب كرعايا لا يملكون حقاً ولا أهلية، وفي السياق نفسه تبرير تأييد هذه النظم والفئات الحاكمة في السلطة وتأليه رجالها وزعمائها، وفي بعض الحالات رفعهم إلى مستوى الألوهية. تقدم شيطنة الغرب وإدانة ثقافته باللا إنسانية والعداء الطبيعي والحتمي للعرب وسيلة للتهرب من المسؤولية وتوجيه التهمة فيما وصلت إليه الاوضاع العربية إلى عدو خارجي وحشي لا يرحم ولا يخضع في سلوكه لأي معيار منطقي أو أخلاقي. وهذا ما يضمنه التوحيد المطلق بين ثقافة الغرب وسياسة حكامه ويحوله إلى كارثة طبيعية أو شبه طبيعية لا يمكن لا لسياسة ولا لغيرها التفاهم معها أو الحد من شرها. من هنا يمكن القول إن المأزق الذي وصلت إليه العلاقات العربية الغربية بجعلها الصراع صراعاً على الثقافة والقيم بدل الصراع على المصالح، وبالتالي لا يحسم إلا بتغيير أحد الأطراف لمنظومة قيمه، سواء أكان ذلك بضرب قلعة الكفر في الغرب وفي أميركا بالذات او قلعة الظلام والفاشية والشمولية الوحيدة الباقية في العالمين العربي والاسلامي وتغيير نظرة المسلمين للدين والعقيدة والسياسة والعلم، أي تغيير ثقافاتهم، هو ثمرة التقاء خوفين كبيرين: خوف النخب الغربية التي تعيش حالة انحسار واضح للهيمنة في المنطقة على ضياع مصالح استثنائية ورثتها من موقعها السابق كقوة استعمارية أو شبه استعمارية وحرصها على حمايتها من أي تهديد، وبأية وسائل، بما في ذلك التحايل على القانون أو انتهاكه، وخوف النخب العربية على مواقعها السياسية والاجتماعية بعد الإخفاق الكبير الذي عرفته في مشروعها الوطني والتحرري، ورغبتها في تخليد حكمها وسيطرتها بوسائل لا قانونية. وهذا الخوف الذي يوحد بينهما هو الذي يوحد أيضا فكرهما ويجعلهما يشاركان في عقيدة صراع الثقافات والذوات نفسها. فلا يعادل فكرة الاستثناء العربي التي يرعاها الغرب سوى فكرة الخصوصية الحضارية التي تستخدمها النظم العربية لتبرير رفضها أي تحولات ديمقراطية تسمح بتوسيع هامش الحريات واحترام الحقوق المدنية لمواطنيها. فوراء القطيعة المتزايدة والمصطنعة إلى حد كبير بين الشعوب وثقافاتها يكمن إذن التحالف الموضوعي العميق، وأحيانا الذاتي والواعي بين نظامين آفلين للسيطرة الداخلية والخارجية. وكلاهما يدرك أنه لم يعد يستطيع البقاء من دون تعليق القانون وتجاوز السياسة ووضع العالم والشعوب تحت إشراف قانون طوارئ وأحكام عرفية دائمين. وكلاهما يبرر سياساته اللاإنسانية بالتأكيد على تخلف الشعوب وافتقارها لمعاني الحرية والسيادة والحقوق، وبالتالي استحقاقها للمعاملة الانسانية العادية. وكلاهما يؤكد على أن جوهر هذه الخصوصية وتلك الاستثنائية يكمن في دين من طبيعة خاصة، يتقدم حيث تتراجع الاديان ويخلط بين الروحي والزمني حيث تفصل الأديان. من هنا التركيز المتزايد على الاسلام كعلة أولية أو علة العلل. فهو الذي يغذي في نظر هؤلاء جميعا، بسبب تجمده المفترض، وقرسطويته وتخلفه ورفضه الحداثة والعلمانية والعقل والحرية، التعصب والأصولية والعنف، ويبرر بالتالي، الحرب على الإرهاب، أي المعاملة الاستثنائية للشعوب العربية، بما في ذلك فكرة التدخل العسكري والضغط المباشر والتلاعب بالسيادات والمصالح والمصير، بل إملاء شروط التغيير، كما يبرر استمرار النظم الاستبدادية ورفض التحويل الديمقراطي الذي سيكون وسيلة لانتصار الاسلام الأصولي المتخلف في نظر النخب الفاسدة الحاكمة في العالم العربي. كيف وأين يكمن الحل؟ أولاً في مراجعة سياسات الحكومات الغربية المستهترة بحقوق الشعوب العربية، والطامحة إلى تخليد نموذج من السيطرة شبه الاستعمارية في المنطقة، لم يعد من الممكن الحفاظ عليه من دون تكاليف معنوية وسياسية بالغة وخطيرة النتائج. وثانيا مراجعة أساليب الحكم السياسي المحلي، ووضع حد لنظام السيطرة بالقوة وتخليد الحكم الاستثنائي والعرفي الداخلي، والعمل من أجل تحويل ديمقراطي يعيد الحياة المدنية والسياسية في المجتمعات العربية إلى إطارها الطبيعي، ويقيمها على مبدأ الاختيار والمسؤولية لدى الحاكمين والمحكومين معا، والكف عن استخدام صورة الضحية أو الكارثة الطبيعية والحتمية للتغطية على الإخفاقات الوطنية. وأساس هذه المراجعة الفصل الواضح، عند الجمهور العربي، ومثقفي التغيير، بين الحداثة والغرب، أو إذا شئنا تحرير فكرة الحداثة من ممارساتها وتجسداتها في المجتمعات الغربية في شكل نظم وسياسات استعمارية. فالحداثة شيء والاستعمار والسيطرة التي هي قانون العلاقات الدولية منذ القدم، قبل الحداثة وبعدها، شيء آخر. ولا يزال النظام الدولي يحتاج إلى إصلاح حتى من وجهة نظر الحداثة ذاتها، لأن مبادئ الحداثة بقيت بعيدة عنه وليس العكس. وأساسها أيضا، عند الجمهور والرأي العام الغربيين، الفصل بالمثل بين الإسلام، من حيث هو دين وثقافة وتقاليد خاصة بشعوب عديدة، وبين المسلمين والعرب كتشكيلات تاريخية وكنظم اجتماعية وسياسية. العنف لا يأتي من الاسلام ولكن من تأويل المسلمين للإسلام في سياق ظروف خاصة، لا يمكن فصلها عن الظروف التي يضعهم النظام العالمي فيها، وبشكل خاص ظروف السيطرة الغربية وتحدي السيادة وإرادة التحرر والتقدم والبناء الوطني والقومي والإنساني. * من المحاضرة التي ألقاها الدكتور برهان غليون بدعوة من المركز الثقافي الإعلامي لسمو الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان ممثل صاحب السمو رئيس الدولة بعنوان “أزمة العلاقات العربية ـ الغربية”. والدكتور غليون أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة السوربون الجديدة في باريس.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©