السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البكاء والمنافق وبطل الآكشن

البكاء والمنافق وبطل الآكشن
26 مايو 2010 20:14
غالباً ما نميل ونتضامن مع من يبكي أمامنا، خاصة إذا كان امرأة، بل أنَّ السائلة دموعه على مرأى ومسمع من (فالنشيج المصاحب للدموع ضروري لتكوين المشهد) يوحي لنا برقته وشفافيته وصدقه. وهذا الإيماء يلازمنا حتى ولو تعلق الأمر ببكَّاء، أي ممارس دائماً للبكاء عند كل سانحة، أو ذلك البكاء الذي يبحث عن السوانح كي يُمارس هذه، ماذا أسميها هنا؟، هل أسميها العادة؟. وبالتأكيد فإن أمثال هذا البكاء “المحترف” يبحث باستمرار عن جمهور يمارس معه أو عليه ذلك البكاء. إذ يصعب تصديق تحمله مفرداً انسيال العيون هذا الذي أصيب به. لكن ليس البكاء وحده من يبحث عن جمهور، فالإنسان عموماً ممثل يبحث عن جمهور يؤدي أمامه تمثله وتمثيلاته للحياة، ويلاحظ الجميع بأن هذا النزوع الإنساني للتمثيل: بكاء وضحكاً، لعباً وجداً، لغة وصمتاً، حركة وسكوناً، يظهر علينا منذ أن نكون أطفالاً وينضج، أي نجيد لعبة التمثيل، عندما نكبر.. عندما نعثر على شخصيتنا أو لا نعثر.. عندما نصبح علماء، فنستخدم هذا الاكسسوار أو ذاك من اكسسوارات العلماء، ونكون فقهاء فنستخدم هذه التقنية المعتادة أو تلك لتقديم دور من أدوار الفقهاء، ونكون ساسة، والساسة من أكثر البشر قدرة على ممارسة التمثيل التقليدي المعتاد والمخاطب للجمهور والمؤثر على البشر. وعودة للبكاء والبكائين، فإن الإنسان كممثل كثيراً ما استعان بهذه التقنية. يبكي الإنسان خشية من الله، ويبكي لأنَّ البركان الذي في داخله يغلي، ويبكي كما يبكي البحر عند الأمواج أو السماء عند المطر، ويبكي من الموت ويبكي من الحياة، ويبكي من سوء الفهم ويبكي من الفرح، ويبكي عندما يفوز فريقه بالمباراة، ويبكي عندما يبحث عن نفسه ولا يجدها معه في البيت. يبكى لكل هذا، ولكنه كذلك يبحث عن جمهور كي يقول لهم بأنه يبكي لكل هذا. كي يقول لهم بأنه ما زال ويومياً يبكي أمه التي ماتت منذ خمسين سنة، أو لغياب المشروع القومي عن الأحزاب السياسية في وطنه، أو لأن كتابه الأخير لم يوزع جيداً على القراء، أو لأنه كان على معرفة بقضية فساد ولم يكشفها، أو لأن الشعب لا يساعده على تحقيق أحلامه كرئيس حكومة، أو لأن الطائرة سقطت بعدد كبير من أبناء شعبه، أو لأنه خان زوجته، السيدة الأولى؟ أو لأن القلب الذي رباه مرّت سيارة ودهسته ومزقت أحشاءه أمام بوابة الفيلا الكبيرة. لكنَّ في جعبة الشعوب بكائين أو بكاءات محترفين ومحترفات حقاً، نأخذ ـ على سبيل المثال ـ العدّادات المصريات، أي تلك اللواتي يستؤجرن للبكاء على الميت، وهو مظهر شعبي موغل في القدم. انَّ العدّادة هُنا، تكون مشهورة بين النجوع، ومميزة بين قريناتها ومنافساتها، والأغلى أجراً كلما كانت أكثر قدرة على اللطم، والأوفر في مخزون الدموع، والأهم، كلما استطاعت أن يكون بكاءها (رغم عدم معرفتها للميت، وربما اهتمامها بموته أساساً) صادقاً، وان لم يكن فأقرب إلى الصدق. موضوع الصدق هذا أو الصدق مع النفس من الموضوعات المفضلة عند البكاء وعند الحديث عنه، فلا يعني قولنا بأن الإنسان في عمومه ممثلاً، بأنه ليس صادقاً مع نفسه تماماً. إذ هذا التمثل والتمثيل (هو ما أخرج الإنسان من الطبيعة (= اللاتفكير) إلى الثقافة، وبالتالي أقام الأخلاق والحدود، والأهم من ذلك البحث عن طبقات الذات تحت ركام الأنا، وتمزيق الأنا في مياه المرايا الجارية. ولكن أبداً كان البكاء المعتمد والمستمر على البكاء والمعتاد عليه، أو البكاء المحترف، محل شبهة على هذا الصعيد. ولقد قرأت حديثاً في “كشف الغطاء” للعجلوني (وهو كتاب تحدثت عنه في حلقة “قفص الأمواج” الماضية) يقول بأن الرسول سأل بعض الصحابة، فقال: أتدرون ما علامة المنافق؟. قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: الذي يبكي بإحدى عينيه، قال مالك بن دينار: وقرأتُ في التوراة إذا استكمل العبد النفاق مَلَك عينيه، وروى البيهقي في الشُعَب أن سفيان الثوري بكى يوماً، ثم قال: بلغني أن العبد أو الرجل إذا كمل نفاقه ملك عينيه فبكى، ولابن المبارك في الزهد عن شُعيب الجبّاني قال: إذا كمل فجور الإنسان يملك عينيه، فمتى شاء أن يبكي بكى، ومن ثمَّ قيل: دمع الفاجر حاضر، وقال الصلاح الصفدي: رأيت من يبكي بإحدى عينيه ثم يقول لها قفي فيقف دمعها، ويقول للأخرى أبكي فيجري دمعها، ورأيت آخر له محبوب فإذا قال له محبوبه أبك يبكي، وإذا قال له وهو في وسط البكاء اضحك يجمد دمعه، ورأيتُ من يبكي بإحدى عينيه”. وأكثر ما لفتني في هذا الحديث غير “امتلاك العين، أو التحكم بها، وهو ما يعتبره المخرجون السينمائيون من أعلى قدرات الممثل (نتذكر هنا مثلاً “عيون” مونرو أو المليجي). ما قاله الصلاح الصفدي. فهو أولاً يتحدث عمن يبكي بعين واحدة، بينما العين الأخرى مستيقظة (لا تغطيها ستارة الدموع) ترصد بالتأكيد ردّات فعل الجمهور. أن البكاء كجهشٍ، تدفق داخلي، يتحول هنا إلى قارورة دموع قيد الاستعمال، وهذه الحرفنة لا تتوقف عند هذا، بل وأنَّ البكَّاء هُنا يتحول إلى مهرج يلعبُ على ذلك الحبل الخفي بين العينين، متنقلة دموعه بخفة من هذه العين إلى تلك، حافراً السطور لتلك الدموع الجاهزة على هذه الصفحة من الوجه، ومن ثمَّ يقلبها كي يحفر سطوراً وللدموع نفسها على الصفحة الأخرى من الوجه. أما ثانياً، فلفت انتباهي وجود محبوب عند البكّاء، وأن المحبين (جمهوره الخاص) هو من يطلب من البكَّاء القيام بالعرض، أو التوقف عنه. إنَّ الجمهور كذلك بحاجة إلى بكَّاء. يذهبون إليه ويتحلقون به، وينتظرون عرضه. لم يا ترى؟. هل لتذكيرهم بموتاهم أو بأحيائهم؟ أم لإيقاظ ما تناسونه أو تناسي المستيقظ فيهم؟ أم لطوافهم حول رقة مفقودة، أو خشونة جرحت مياههم؟ أم لماذا...؟ فالدمعة حتى ولو لم تكن حارة أو معتادة تجذب الفراشات أو غيرها من الحشرات والحيوانات والزواحف كي تجربُ الاحتراق كل مرّة عند النيران التي تتراءى في ذلك الخشب. وعلى ذكر المحبين، كان بإمكان الهولندي الذي تركته حبيبته أن يذهب إليها معتذراً ويبكي تحت قدميها، أو يدق على بابها النهار كله وهو يبكي، أو يجلس نائحاً تحت شرفتها طوال الليل. ولكن ذلك الشاب، من سكان لاهاي، والذي يبلغ من العمر 18 عاماً، لم يكن رومانطيقيا كأغلب البكائين غير المحترفين، أو لم يكن رومانطيقياً كما يكفي، فكما يقول الخبر الذي قرأته في جريدة “الشرق الأوسط” (11-04-2010) “قرَّر استعادة حبيبته السابقة بتنفيذ عملية نهب. وخطط الفتى لإثبات استحقاقه بأن يهب إلى إنقاذ الآنسة خلال تعرضها للخطر. في البداية كانت كل الخطوات تسيرُ حسبما خطط له: الفتاة تعود إلى منزلها منتصف الليل، ثم يظهر مقنَّع يحملُ سكيناً يهددها بها، ومثلما يفعل أبطال الأكشن الحقيقيون، يظهر الحبيب السابق فجأة ويهب لنجدتها، ويطارد المعتدي وينقذها بعد معركة درامية، بينما تشاهد الحبيبة كل ذلك لتعيد التفكير في علاقتها بالحبيب السابق”، ولربما تركض كي تعانقه وتبكي بكاء المشتاقين على صدره، بينما يعانقها الشاب بلهفة ويبكي بكاء المعتذرين. لكن عذولاً لم يكن بالحسبان كان كامناً على مفرق الشارع. وكان بإمكان النهاية أن تكون سعيدة بعد هذا البكاء المشترك لولا كاميرات الـ “سي سي تي في” اللعينة والمزعجة والمنتشرة في كل مكان، فالشرطة التي قامت بالتحقيق على أثر بلاغ من الحبيبة (أم من الحبيب؟. لا يحدِّد الخبر هذه النقطة الرئيسية، وذات العلاقة الأساسية بالاهتمام والتمثيل ومن ثم البكاء) عثرت على لقطات لبطل الأكشن وهو يُناقش المعتدي قبل العملية مثلما يناقش الأصدقاء الحميمين، وعندما ووجه بالدليل، أُجبر الفارس على الاعتراف بأن ما جرى كان مخططاً لانتزاع اعجاب فتاة أحلامه. وحسب ما نقلت عنها وسائل الإعلام الهولندي قالت الفتاة: “كنتُ أشعرُ بأنَّ هناك شيئاً غريباً في كل ما جرى عندما كان المعتدي يصرخ في وجهي لتسليمه حقيبتي. لم تكن لديّ أي حقيبة”. ورغم كل هذا، رغم كل شيء، فلقد أعجبني، أنا كاتب هذا المقال المغرض، ما قالته بعض وسائل الإعلام تلك، حين تساءلت: “... ألا يُمكن للشرطة أن تغض الطرف؟ ففي نهاية الأمر. الآن قل حلَّ الربيع، فصل الحب، موسم للجنون، ولكل الكائنات: صغيرها وكبيرها. تحوّلُ حلم شاب من لاهاي بالبطولةِ إلى لا شيء. إلى مجرد وهم... آه، يا لقسوة الحب”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©