الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خلود المعلا في بَرْق الشعر

خلود المعلا في بَرْق الشعر
26 مايو 2010 20:23
عادت الشاعرة خلود المعلا من كوستاريكا بغنائم صغيرة تحكي عنها بحب عميق، وبتجربة شعرية وإنسانية جميلة وحقيقية لا تزال ممتلئة بجمالها وفرادتها، وبصداقات مع الشعراء الكوستاريكيين الذين كانوا يرددون أنها أول مبدعة من الخليج العربي تحل ضيفة على كوستاريكا وكانت تعدهم أنها لن تكون الزيارة الأخيرة، وبكتاب يحوي مختارات من أشعارها بـ”الإسبانية” يحمل عنوان: “دون أن أرتوي” أصدرته جامعة كوستاريكا بالتعاون مع بيت الشعر بـمدينة سان خوسيه، وسيصدر قريباً باللغة العربية، ويضم 46 قصيدة من دواوينها الأربعة. ترجم قصائد الديوان الأستاذ الدكتور عمرو محمد سيد، وراجعها البروفيسور محمد عبدالرؤوف، والشاعر الكوستاريكي روديلفو دادا من الطرف الإسباني. وقام بتصميم غلاف الكتاب والإشراف عليه الشاعر الكوستاريكي نوربيرتو ساليناس، أما لوحة الغلاف، فهي للفنانة التشكيلية الكوستاريكية إلسا ساليناس. هناك، في كوستاريكا، وخلال مشاركتها في الدورة التاسعة لـ”مهرجان الشعر العالمي”، الذي نظمته مؤسسة بيت الشعر في سان خوسيه بتنسيق مع جامعة كورستاريكا، والذي انطلقت فعالياته في مدينة هاكو على ضفاف المحيط الهادئ، شاهدت خلود بكل حواسها كيف يكون الاحتفاء بالشعر استثنائياً، مما جعلها تتمنى، كما تقول، أن تكون مهرجاناتنا العربية مملوءة بمثل هذا التقدير والاحتفاء بالشعر والإبداع، عندها ستتلاشى المسميات ولا يبقى سوى الشعر والمحبة وقلوب تحتضن بعضها. تقول خلود: “عدت بمحبة لذلك الجزء من العالم الذي كان بعض طلابه وطالباته في المدارس والجامعات التي زرتها يرددون على مسامعي “نحن نحب العرب”. هذا بالنسبة للعرب، أما الخليج العربي فهم متعطشون للتواصل معه واكتشاف المجهول منه. وأثناء قراءاتي الشعرية في المدارس والجامعات لم تخلُ الحوارات من أسئلة واستفسارات تتعلق بالإمارات وثقافتها، أنشطتها الإبداعية والفكرية، العادات الاجتماعية، المرأة وأوضاعها والحجاب وغيرها. كانوا سعداء بي وكنت أكثر سعادة أنني بالشعر أقوم بمهمة التعريف بالمرأة الإماراتية والعربية عموماً، والمرأة المبدعة خصوصاً. مهرجان يلمس القلب تعتقد خلود المعلا أن هذه المشاركة مختلفة عن غيرها وجديرة بإلقاء الضوء عليها، وأن لهذا المهرجان نكهة خاصة وحميمة، تقول: “هذا مهرجان يلمس القلب. يستقبلك مدير المهرجان شخصياً في المطار. يأتي بنفسه وفي سيارته ولا أحد معه سوى ابتسامته وأحلامه وآماله القيمة التي يجاهد لتحقيقها. تعرفه من لحظة الخروج من صالة القادمين.. رغم ازدحام المكان بوجوه كثيرة تنتظر من تنتظر.. إلا أنك تميزه فور أن يقع نظرك عليه.. الشاعر الكوستاريكي الجميل نوربيرتو ساليني بابتسامته الصادقة، تراه واقفاً ينتظرك بمحبة رافعاً كتابك المترجم الصادر حديثاً.. يلوح لك بفرح ويتقدم إليك مسرعاً ليحييك بحرارة ويناولك كتابك بيديه الاثنتين وهو يشكرك بامتنان على تلبية الدعوة.. ويأبى إلا أن يحمل عنك حقائبك.. يسألك عن رحلتك، ويطمئن على ما إذا تمت إجراءات المطار دون أي متاعب... يأخذك إلى حيث تقف سيارته وهو يحدثك عن الضيوف.. وفي الطريق يحدثك عن بلاده، وعن سماتها وثقافتها وأوضاعها، عن المهرجان ونشاطاته، عن الجهات والأفراد الذين ساهموا في إنجاح هذا المهرجان واستمراريته ويحرص على الإشادة بهم”. وتتابع خلود: “تراه يعمل مع فريق عمل المهرجان يداً بيد. من يراه يحمل صناديق الكتب معهم لا يظن أبداً أنه مدير المهرجان وشاعر معروف له وزنه في البلاد. يساعد في تنظيم القاعات. يلتقي الضيوف واحداً واحداً يسأل عن أحوالهم ويلبي احتياجاتهم. لم يغب عن ضيوفه يوماً واحداً. وكان أول الحاضرين لأي نشاط. لم يقف على المنصة في الافتتاح. هي مرة واحدة التي ظهر فيها وكانت للتنويه عن نشاط ما. لم يقرأ شعره مع الشعراء الضيوف والمحليين. كان أحياناً واحداً ممن يقرأون الشعر المترجم للشعراء المشاركين. إنسان بسيط وشفاف في تعامله، راقٍ في سلوكهو أفكاره. إنساني في آماله ومدرك لأهمية ما يفعل ليس فقط محلياً وإنما عالمياً. له أصدقاء يحبونه ويؤمنون بأهمية ما يفعل ولهذا فهم يدعمونه بكل ما يستطيعون”. وتضيف خلود: “أغلب فريق العمل -إذا لم يكن كله- هم من الشعراء والطلبة المهتمين بالشعر. كلهم يتسابقون في خدمتك. يحتفون بك. يأسرونك باهتمامهم ومحبتهم. لم أر تقديراً واحتفاء بهذا الشكل الحميم رغم الإمكانات المادية المحدودة للمهرجان.. الحضور وتفاعلهم وشراء كتبك والحرص على الحصول على توقيعك إذا ما لقي شعرك صدى لديهم. الحرص على تأريخ لحظة الإعجاب بالصور والتعبير بمحبة عن إعجابهم عن طريق الرسائل وتبادل التذكارات، وغيرها من التفاصيل الجميلة جعلت من هذه المشاركة تجربة عظيمة ورائعة على كل المستويات الشعرية والثقافية والإنسانية بشكل خاص”. أجمل الغنائم أما أجمل الغنائم، فكانت صدور مختاراتها الشعرية عن مؤسستين عريقتين تنحازان في اختياراتهما للإبداع، وتضمان بين أعطافهما نخبة من القصائد التي نشرتها خلود في مجموعاتها السابقة: “هنا ضيعت الزمن” و”وحدك” و”هاء الغائب” و”ربما هنا”، والتي تضيء على تجربتها الشعرية، وترسم صورة لهمومها وانشغالاتها الإبداعية. وخلافاً لما تقوله خلود في قصيدة بعنوان “شاعرة غير استثنائية” عن كونها لا تشعر بشيء، تشعر أنت القارئ أثناء قراءة القصائد بكل شيء، وتتلمس مذاق كل العواطف البشرية بدءاً بالحب ومروراً بالأمل والألم والشجن والحزن والخوف والأسى و... الخيبة. إنها سيرة القصيدة وسيرة الشاعرة بكل ما تتجرعه من مكابدات الوحدة وتجليات العزلة وبروقها الشعرية الغامضة التي تهوي فجأة فتكنس كل قديم، تحرث أرض الشعر لتمهدها لنمو بذور جديدة. تبوح خلود هذه المرة بالإسبانية، والبوح سمة من سمات الكتابة الشعرية لدى الشاعرة، لكنه البوح المرتهن إلى الوعي، بوح هادئ، راق ورائق، شفيف وفيه الكثير من التصوف أو قل يحيا في باحته الخلفية، وفي خزانتها التي تتكدس فيها القصائد. في بوحها، تلوذ الشاعرة بالصمت الذي تتقنه “أنا شاعرة تطيل الصمت”؛ لأنها في المقابل “لا تجيد الكلام”، لكن القلب الذي يتحدث بحرية ويتدفق، يخرج عن الصمت: “حين أتحدَّثُ بقلبي/ تتدفَّقُ القصائدُ من فمي أجسادا تتـَّقدُ رغبتُها”. هذا النوع من التعبير الشعري، يصل أحياناً إلى منطقة غائمة، تتناثر الأسئلة على طرقاتها الضبابية، أسئلة المعنى والوجود والغاية والرؤية التي تحكم الشاعر والشعر، لتنفتح حيرة لا نهاية لها، وتبدأ الروح بالجرد لتحصي خساراتها.. تطل الحيرة والغربة بداية ثم تتصاعد الغربة لتصبح اغتراباً عن الذات وحتى عن الجسد وهو أكثر ما يعرفه المرء من نفسه. في حالات كهذه، تهوي الذات إلى قيعان حادة من القلق الوجودي.. تتفكر في مآلها ومصيرها.. لتجد أنها وجهاً لوجه أمام الوحدة والعزلة التي لا تفلح حتى الكتابة (القصائد) في إخراجها من شرنقتها المحاكة بدقة. ولعل ما يميز هذا البوح كونه لا يغرق في أحزان الأنا وتوجعاتها وتشظياتها الخاصة، بل ينير القارئ حول الذات الشاعرة المتماهية مع الذات الجمعية. ها هنا يتجلى معنى اللاارتواء الذي تحمله المجموعة عنواناً لها، اللاارتواء من قول الشعر ومن البوح الذي يتجدد مع كل شمس تشرق على الشاعرة لكنه العطش السيزيفي الذي يمنحها في كل مرة تصعد فيها إلى جبل الشعر قصيدة جديدة... وما القصائد إلا ميراث الشعراء المقدس. فراديس الذات يتسع البوح في قصائد الشاعرة خلود المعلا ليشي بأحوال الدنيا وناسها، والمرأة وخوافيها، والتجربة المعرفية ومكابداتها، والوعي وشقائه، وفي كل ذلك يتجسد موقف الشاعرة من فراديس الذات وفراديس الإنسانية المفقودة، معلناً كماً هائلاً من المسؤولية المجتمعية التي تستشعرها الشاعرة في تكريس المحبة أو تعميمها بين الناس، وهي رسالة سامية تتعالق مع مقاصد الشعر ونزعته الإنسانية العالية. وهي في استخدامها لضمير الأنا ليعبر عن أفكارها، توظفه كحامل من حوامل رسالتها الشعرية.. وبهذا تتميز هذه “الأنوية” في أنها تحقق انزياحات دلالية متنوعة، بحيث لا تعبر عن ذاتها الفردية بل تتقمص الذات الإنسانية الجمعية بكل عذاباتها وارهاصاتها وتشظياتها النفسية والفكرية. ويبدو أن خلود تدرك في أعماقها أن الذات البشرية محكومة أو مكبلة بقيود يصعب التخلص منها في الواقع، لهذا تلجأ ـ شعورياً أو لا شعورياً ـ إلى الخيال حلاً سحرياً تمارسه في الكثير من قصائدها، تمتطيه كما حصان جامح ليعدو بها إلى تخوم الحلم. وبه تتخلص من عبء القمع والمنع وغيرها من أفعال الحجب لكي تمارس حرية مشتهاة، حرية تتجاوز كل شيء: بشرية البشري وحواجزه المادية والصمت المفرط الذي يتكثف على زجاج الروح، كما الضباب في ليلة ماطرة.. حرية قادرة عبر نافذة صغيرة أن تفتح السماء على اتساعها أمام الروح المحلقة، الباحثة عن أسرار الكون الكبرى: أُمارسُ شَغفي بعرضِ السَّماءِ/ هكذا/ حُرَّةٌ تمامًا/ أنْظرُ مِن نافذِتي الضَّيقةِ/ فأرى الكونَ كامِلا/ تنْجلى أسرارُه الكُبرى”. بيد أن هذا المستوى البوحي لا يلغي البوح الخاص، البوح الفردي المتعلق بتفاصيل الشاعرة الحياتية والذي يقول خريطتها النفسية، ويتجلى كما لو أنه تمارين في الوحدة والعزلة كما في قصائد: “مَحبَّتي دائمةٌ” و”هجرةٌ سَوداء” و”بيضة” و”شتاءُ الجسد” و”البيتُ كما عَهِدناه” و”هكذا افترقنا” و”الوقت وقت” وغيرها، حيث يأتي البوح في شكل مديح لما هو مفتقد أو للذي يغيب ويبقى أثره يسيل في الروح. تحلق خلود المعلا في قصائدها لتعلو روحها في السرمدي، تتقصى فيوضاته وتوهجاته، وفي عزلتها الرائقة، التي تتوهج مثل ماسة.. هناك.. حيث القصيدة تولد وتبكي وتتفجر وتجري... تقطف بروق الكلام وتسافر في جهاتها السبع: “أُفكِّرُ في الوُجوه التي غادَرتني/ أُسافِر في جهاتي السَّبع/ مُتخَلِّيةً عن ذاكرةٍ لا عقاربَ لها/ أُفكُّر في ما وراء الوجود/ في ما ليس بوسعي استيعابه/ أُفكِّر، فيما لا يَقبَلهُ القلب/ أسْتلقي وحيدةً/ عطشَى ينابيعي/ تمنَّيتُ لو أنَّ وابِلاً مِن محبَّةٍ ينهمرُ على أرضي/ تُرى/ كم قصيدةً مازلتُ أنْتظرُ/ أمْ أنني أمامَ رفْرفةٍ خافِتةٍ/ لعُصفورٍ بجناح واحد”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©