الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

آرثر ميللر: هذا هو «الحلم الأميركي».. الأسود

آرثر ميللر: هذا هو «الحلم الأميركي».. الأسود
24 سبتمبر 2009 02:20
نتحدث عن آخر المدافعين بقوة عن الوظيفة الأخلاقية للفن: الكاتب المسرحي الأميركي الكبير آرثر ميللر، الذي ترجل عن حصان الكلمة عن 98 عاما بعد أن أغنى المسرح طوال نصف قرن بأعمال مسرحية محكمة ومؤثرة هي بمثابة أيقونات المسرح الأميركي الحديث التي حققت له شهرة عالمية كان أهمها على الإطلاق مسرحيته ذائعة الصيت «موت بائع متجول» (1949) التي طرح من خلالها قضايا المجتمع الأميركي وقيمه بجوانبها الأخلاقية والعائلية، كذلك عالج فيها مسائل التضحية والوفاء والنجاح والفشل على نهج مدرسة الكاتب المسرحي النرويجي هنريك ابسن في الرؤية والأسلوب. وتحكي المسرحية قصة رجل حطمته ضغوط الحياة العصرية، وفي عرضها الأول أثرت في الجمهور إلى حدَ بكاء بعضهم وأصبح هذا الكاتب شهيرا بين يوم وليلة. وهذا العمل الكبير هو الذي أسهم في منحه جائزة (بوليتزر)، إلى جانب العديد من الأعمال التي عالج من خلالها قضايا مجتمعية عدة، غالبا ما حفلت بجدل حول القيم الأميركية وصراعات العائلات والمجموعات الإثنية للتأقلم مع هذه القيم، في حين مثلت شخصياته التي تنتمي إلى ما يعرف بثقافة الحلم الأميركي، ومأساتهم جميعا تكمن في الفشل الذريع في التدرج على السلّم الاجتماعي وفي تحقيق أحلامهم، كما حدث لبطليه (جوكيلر) و(ويلي لومان) اللذين يضحيان بالضمير عنوة من أجل عناق حلم أعلى بالثراء والنجاح، ما يثير فينا الشفقة، لان مأساة هؤلاء تطاول الإنسان العادي في عالم قائم على القسوة والعنف والتنافس المادي. رفض جائزة شارون الكاتب الليبرالي الجريء الذي أثار حوله الكثير من الجدل، حينما أعلن رفضه تسلم «جائزة القدس» من رئيس وزراء إسرائيل الأسبق آرييل شارون، حيث اعتبر رفضه للجائزة أكثر من مجرد احتجاج على أوضاع سيئة يعيشها الفلسطينيون تحت الاحتلال، وكان ذلك عام 2003، وقد رحل ميللر دون أن يتسلم الجائزة، معطيا بذلك أروع مثل على دور المثقف إزاء قضايا الشعوب. وقال في مقابلة أجرتها معه صحيفة «يديعوت أحرونوت»: «إن سياستهم لا تستحق أي احترام» وأضاف: «إن لجنة الجائزة أوضحت له أنها جائزة تقديرية من المثقفين ورجال الفكر «الإسرائيليين» المعتدلين، لذلك وافق على الحصول عليها، لكنه يرفض تسلمها من رموز السلطة الحاكمة» وأشار إلى أن إسرائيل بقيادة شارون تفقد تقدير العقلاء في العالم، ما يعرض مكانتها للخطر، معربا عن اشمئزازه من تعامل الاحتلال مع الشعب الفلسطيني، مطالبا بإخلاء المستوطنات، واللجوء إلى خيار السلام العادل والاعتراف بحقوق الفلسطينيين المشروعة في بناء دولتهم المستقلة. وقد أكد ميللر ذلك ضمنيا في سلسلة من مسرحيات الاحتجاج التي أبدعها أثناء حياته. سقوط الحلم الأميركي لقد كان الراحل من أبرز الكتاب المسرحيين الأميركيين في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ولمست أعماله وترا حساسا لدى جيل كامل من مرتادي المسرح في أنحاء العالم بتناولها التأملي في الجانب المظلم من «الحلم الأميركي»، فواقعيته ليست بسيطة أو ساذجة، وبحسب الناقد عابد إسماعيل: إنها نوع من الفن المركب الذي يستعير آخر التقنيات التي طوَرها مسرحيون تعبيريون أمثال ماكسويل أندرسون وأوجين يونيل كاستخدام الشعر الحرَ، ونسف الحبكة التقليدية، والتغني المضمَر بهلامية المكان والزمان والتحليل النفسي العميق للشخصيات، ما جعله يبرز كأحد إيقونات الفن الجماهيري في أميركا. وفي جانب القضية الفلسطينية، ما زلنا نتذكر بعض آرائه الاحتجاجية في قوله: «إن قمع الفلسطينيين وإقامة المستوطنات في الضفة الغربية خيانة لمُثل الإنجيل العادلة. إن ما بقي من الحلم بمجتمع تقدمي مسالم في 1948 هو الضَد تماما، مجتمع مسلَح يائس على خلاف مع جيرانه والعالم». ويروي الدكتور الراحل عبد الوهاب المسيري مؤلف أشهر الموسوعات عن الصهيونية عن ميللر في مقالة له في مجلة «التايمز» اللندنية في 3 يوليو 2003: «إنه عند إعلان الدولة الصهيونية عام 1948، تصور ميللر أن ذلك الحدث السياسي يشبه أحداث العهد القديم واهتزت مشاعره بعنف، ولكنه تنبه بعد ذلك إلى أن أبطال هذا الحدث بشر عاديون، تجد من بينهم سائقي الحافلات ورجال الشرطة والكناسين والقضاة ونجمات السينما والنجارين ووزراء الخارجية». سيرة مسرحية ولد آرثر ميللر في مدينة نيويورك في 17 أكتوبر من العام 1915م، وتلقى علومه في جامعة ميتشجان الأميركية، وكان والده يمتلك مصنعا للملابس، لكن أعماله انهارت ماليا بعد الأزمة الاقتصادية الهائلة العام 1929، وقد عمل في عدة وظائف متواضعة ليستطيع دفع تكاليف دراسته الجامعية التي درس فيها الصحافة وظهر أيضا خلالها اختلافه عن المعتاد. وكان أول عمل مسرحي كتبه بعنوان «الرجل الذي كان ينعم بكل الحظ» عام 1944. كما مثلت مسرحيته «جائزة عند الفجر» على مسرح الجامعة ونالت جائزة مهمة. وفي العام التالي فازت مسرحيته «كلهم أبنائي» بجائزة دراما كريتكس سيركل. واعتبره النقاد واحدا من أهم أقطاب المسرح الأميركي والعالمي الحديث. ما يعرف عن ميللر أنه كاتب يساري جريء وصاحب نظرة واعية إلى التناقضات الواضحة في المجتمع الأميركي والتي تدخل في صميم أعماله المأساوية المعاصرة التي باتت من أكثر الأعمال المقروءة والمقتبسة على خشبة المسرح في أنحاء العالم، وبخاصة الفيلم الذي قبسه المخرج جوبر هيوستن عن مسرحيته «المختلون» ولعبت بطولته مارلين مونرو. وفي هذا السياق قال ميللر: «إن فن الكتابة المسرحية يكمن بشكل جوهري في التعامل مع الوقت، يجب أن يكون كل شيء مركزا». تأثر ميللر بكتابات كل من دوستوفيسكي، والسويدي هنريك ابسن بشكل خاص ويذكر في مقدمة إحدى مسرحياته: إنهما منحاه وعيا للعالم الداخلي للإنسان. اشتهرت من أعماله مسرحيات مثل: «ما زال العشب ينمو» العام 1936، و»كلهم أبنائي» 1947، ولعل أجمل وأروع مسرحياته تلك التي حملت عنوان «موت بائع متجول» العام 1949، وأيضا نص «المأساة والإنسان العادي»، وكتابه حول هذه المسرحية وهو بمثابة وثيقة من أهم وثائق المسرح الحديث، لأنه حاول من خلاله طرح نظرة معاصرة وإنسانية في فن المأساة.. في هذا النص يحاول ميللر أن يسقط أجزاء من نظرية آرسطو في المسرح من أجل الإبقاء على فن المأساة ومجاراته لطبيعة العصر. وها هو يجعل من الإنسان العادي قرينا مسرحيا للملوك والنبلاء التقليديين، لأن الإنسان العادي من جهة يمثل أكثر الطبقات اتساعا وقدرة إنتاجية في المجتمعات الحديثة ولأنه من جهة أخرى يعاني أزمة الكبت ويخوض صراعا حادا بحثا عن ذاته، وعن تحقيق هويته وقيمه في عالم ضاعت فيه الهوية والقيم الإنسانية النبيلة ونور الحقيقة. من هنا تبرز أهمية هذه الوثيقة التي لم يتخذها ميللر قاعدة نظرية فحسب بل انتقل نحو تطبيقها إبداعيا في مسرحيته الذائعة الصيت «موت بائع متجول» وفي مآسيه الإنسانية المعاصرة. ولعل هذا ما قاده إلى كتابة مسرحيته «زجاج مكسور» (1994) التي تتحدث عن قسوة الإنسان المعاصر، في ردة فعل واضحة على المجازر التي وقعت في يوغسلافيا في الفترة التي سبقت ظهور المسرحية بقليل. فن الاحتجاج لقد كانت مسرحية «موت بائع متجول» واحدة من مسرحيات الاحتجاج التي كتبها ميللر ووصفها النقاد بـ(صائدة الجوائز) كونها صنفت كمعلم من معالم المسرح الأميركي الحديث لتنديدها بجرأة بوحشية الثقافة الرأسمالية، وتناولت قصة حياة بطلها (لومان) الذي دمَرته ضغوط الحياة العصرية إلى شهرة بلغت الآفاق بين عشية وضحاها. كما قصد منها كما صرَح أن يجلو ما يحدث حين لا تكون لدى الإنسان سيطرة على القوى التي تحرَك حياته، وحين لا يكون لديه إحساس بالقيم التي تقوده إلى هذا النوع من السيطرة. وظل يناضل طوال أحداث المسرحية ضد رؤسائه القساة وزوجته العاجزة عن أن تمد له يد العون وأبنائه الذين لا يهتمون بغير ذواتهم، وضعفه الشخصي أمام المغريات، حتى ينتهي به الحال إلى الانتحار، نتيجة تقبله للقيم الزائفة للمجتمع الأميركي المعاصر، قيم التنافس والكسب السريع والولع بالاقتناء. وقد قام ميللر بنفسه بإخراج المسرحية لمصلحة المسرح الصيني وحققت نجاحا مبهرا، وفيها يدمغ البرجوازي بافتقاره إلى الثقافة والى الشجاعة، على غرار مسرحية «أوه أميركا» التي أحدثت ضجة فنية وسياسية كبيرة حين عرضت على مسرح (ألاوديون) بباريس، وهي واحدة من مسرحيات الاحتجاج التي برع ميللر في كتابتها وقدمها المخرج الفرنسي الكبير أنطوان بورسيه بأسلوب المسرح الشامل من حيث الشكل ومسرح التاريخ المعاصر من حيث المضمون والمسرحية بمجملها شاهد إثبات على تصدع المجتمع الأميركي نتيجة للانفصام الحاد بين النظرية والتطبيق أو بين مجتمع الرفاهية الذي يحلم به الإنسان الأمريكي وذلك المجتمع المتفسخ الذي تنسحق تحت عجلاته عواطفه وبشريته. عندما يستثير آرثر ميللر عطفنا على سوء حال الرجل العادي، فنحن عندئذ لا نواجه أثرا فنيا بقدر ما نواجه كتابات سياسية أو لفتات اجتماعية، ويجب أن يكون الحكم على هذه الأعمال واللفتات بالمقاييس النفعية وليس بالمقاييس الأدبية وبالمقابل فان الاحتجاج يأخذ مداه أيضا في المجال الاجتماعي عنده على نحو مسرحيته (كلهم أبنائي) وقد نال عنها جائزة النقاد، من باب أن كونها مسرحية احتجاج اجتماعي مغلفة بإطار سياسي غير واضح. وجدير بالقول إن تنقل ميللر بين هذين الجانبين من الكتابة للمسرح قد أكسبه المزيد من الاهتمام والاحترام الجماهيري، حتى في ظل كتابات مواطنه يوجين أونيل، وقد أصبحت وما زالت مسرحياته تنال من الثناء وثقة النقاد ما يستحقه هذا الكاتب، حيث إن معظم أعماله هي نتاج عقل مفكر يتسق والأدب والحياة، دون أن يكون متحيزا لثقافة أو وجهة نظر سياسية واحدة، وقد نالت إعجاب شديد وحب في بريطانيا وفي عام 1995 وفازت مسرحيته «الزجاج المكسور» بجائزة أوليفر البارزة لأفضل مسرحية. ضمير العالم إن ثورة ميللر تركزت في ورطة الإنسان الحديث الذي يعيش في عالم لا يؤمن كثيرا بقوانينه ولا حتى ساسته الذين يقررون عنه الكثير من الأشياء، ومنذ أن كتب مسرحيته الشهيرة «كلهم أبنائي»، وفيها يروي لنا قسوة الإنسان وبحثه عن عالم الماديات، بل واستغراقه في الأنانية وحب الذات، من جانب الأبناء الذين يمثلون الجيل الجديد، وهو يدعو إلى مخلص جديد يبين لنا كيف يمكن أن نتخلص من ذاتنا الأنانية. إن خلاصية ميللر هي مزيج من الكبرياء والذنب، لكنه في ذات الوقت كان ميالا إلى دعوة الأخوة العالمية، فكان أبطاله في الغالب مزيجا من رفض الواقع والبحث عن واقع جديد يبدو في التصالح مع الآخرين أمرا عاديا وجميلا. إن ميللر ضالع إلى حد كبير في العالم الذي يثور عليه، وهو على الدوام يريد مخلَصا لتحريك ضمير هذا العالم، فعن طريق القسوة حاول أن يسكت همهمات المجتمع حيال قضية التفرقة العنصرية، ولعل الحلول الراديكالية التي تقدم بها عبر مسرحياته، أنارت ولو قليلا نفق الحضارة الغربية، ولكن إذا لم تكن الحلول العملية ممكنة حتى الآن، وكنا نحن جميعا سجناء في قدرنا، فإن مخيلاتنا ما زالت طليقة، والثورة المتخيلة تظل أشد الحلول الخلاقة وأبقاها، قد لا نستطيع تغيير قدرنا ولكن يمكن أن يكون قدرنا مثيرا وتلك إحدى وظائف الفن الدرامي، أن يحتفل بإمكانياتنا حتى في الهزيمة أو كما يقول: «أن يجعلنا نبدو كضحايا تحرق.. وتشير بأيديها من خلال اللهب الذي لا يتوقف». لقد تناول المكارثية في مسرحيته الشهيرة «البوتقة» (1953) التي كانت تعبيرا قويا عن الإدانة والرفض، وبعد ذلك بسنوات كتب النص السينمائي للبوتقة وقد قام ببطولة الفيلم زوج ابنته دانيال داي لويس والممثلة وينونا رايدر. والمسرحية تاريخية، تعدَ أقرب أعماله إلى الشعر، إنها أمثولة رمزية عن المكارثية في أميركا الخمسينيات. أما «مشهد من الجسر» فتتناول انشغال الإنسان بالرغبات، وتعالج فكرة الذنب حينما يقع الإنسان فيه. لقد كتب ميللر مسرحيات عديدة من بينها: سماوات الانبعاث، لقاء مع الجستابو، خلق العالم وشؤون أخرى، سقف الأسقف، الساعة الأميركية، مرثية السيدة ونوع من الحب، لا أستطيع أن أتذكر شيئا، البانكي الأخير، إكمال صورة. لقد كان ميللر صاحب مسيرة حافلة بالمشكلات فرغم نجاحاته المستمرة، إلا أنه انقطع فترة طويلة عن العمل في أميركا وقال: إنه يرى أن الكتاب يعاملون كأدوات للتسلية والترفيه وليس باعتبارهم مفكرون ومعلمون للأخلاق، وشن حملة ضد ما وصفه بتجارية برودواي التي تركز فقط على الربح المادي. لقد رحل ميللر وكان واحدا من ثلاثة أصوات عظيمة في المسرح الأميركي إلى جانب أوجين أونيل الذي اهتم بمظاهر المجتمع الأميركي وقشوره، وتينسي وليامز شاعر المسرح الأميركي الذي اهتم كثيرا بسيكولوجية المجتمع. أما آخر أعمال ميللر فكانت قصة بعنوان «حيوان القندس» ونشرت في مجلة «هاربر» في نفس الشهر الذي رحل فيه عن ساحة الثقافة العالمية، فيما استثمرت إسبانيا وجوده حيَا، فمنحته عام 2002 جائزة إسبانيا الكبرى، وهي جائزة السيد الذي لا ينازع للدراما الحديثة. كما حصل على جائزة دكتوراه فخرية من جامعة أكسفورد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©