الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حكاية المدن الغامضة

حكاية المدن الغامضة
24 سبتمبر 2009 02:27
قصة سعد الحبي الرجل المصاب بالصرع الذي يطلق عليه اسم «فراس»، ذلك الصرع الذي يقضي عليه في كل يوم بنوبة مفاجئة دون تحديد للوقت أو المكان وبدون استئذان.. سعد الحبي الذي يحمل في شخصيته رجلاً منفتحاً وواعياً، يقدمه الروائي السعودي عبد الحفيظ الشمري في روايته الجديدة «القانوط». تدور أحداث هذه الرواية في منطقة يطلق عليها الشمري مسمى «المكحول»، وهو المكان المملوء بصراعات الأفكار وتسلط الخطاب المتشدد على مجريات الحياة، ومن خلال شخصية «القانوط» نفسه، حيث ترصد الرواية مواقفه ومقولاته وتناقضاته، وحيث يحمل أفكار رجل الدين في الغالب، لكنه سرعان ما يجيز لنفسه الكثير من المتعة، ومن الوجه الآخر الذي يعبر عنه سعد الحبي بأنه لم يعد يحتمل، كما يقول أيضاً أن سر تميزنا في مدينة المكحول هو مقدار الحزن، والذي يضيف إليه الخطاب المتشدد حزناً آخر. إنها حكاية الأوهام والصراعات الخلفية الغامضة ولعبة الأقطاب والأقوياء والضعفاء، السرد الذي يمتد بنا عبر مسمى الرواية «القانوط»، والذي لم يكن محوراً أساسياً في الرواية بل ليس بطلها حتى، وإنما يضعه الشمري في مقابل وجه آخر مشرق برغم المرض والفقر ورجاء حياة سعيدة ومنفتحة على نوافذ كثيرة.. يضعه اسماً للرواية ليس ليدل عليه فقط، بل لأنه يشير إلى تمركز هذه القوى وطغيانها، وهي الأقرب لكل تناقضات الشخوص، وعوالم المحكول تلك المدينة التي لا يرحل منها أحد ولا يقيم فيها أحد، أيضاً ذلك الوشم الذي يصفه بأنه يستحيل محوه هو مسرح الحدث ومدينة الفقد ويتم الأشياء الجميلة. البطل المتحرك في النص السردي الحديث الذي يكون المكان أحياناً واللغة أحياناً أخرى. لغة الشمري الجميلة والمعتنى بها وكأن الرواية هي ليست مكاناً محدداً ولا شخوص محددين وبلا علة محددة لسعد الحبي (البطل الاستثنائي في الرواية) هذه الرواية هي كذلك؛ لأنه كما يبدو أن الشمري قد اختزلها لأوقات طويلة في داخله واستطاع أن ينفذ إلى فهم الخطاب المتشدد الذي يصفه وجعل الصرع الذي يصيب سعد الحبي تمريراً للكثير مما يود أن ينقله أو يسقطه تحت ذريعة الحالة. يبدأ الشمري روايته برسالة من «العذراء» زوجة سعد الحبي وهي تروي فيها بلغة يائسة تلك المصادرات التي واجهها زوجها إمعاناً في إيذائه، فهو من مات في نهاية الأمر نكداً وحنقاً وألماً، حياته التي كانت مزيجاً من واقع لا يرحم وحلم يغتاله المرض والعوز، هو الذي كافح طغيان «القانوط» أو فرقة «صيانة الفضيلة» التي تحكم قبضتها على المحكول دون حساب وبوصاية وظلم وحجر على كل شيء بدءاً من الناس البسطاء ونهاية بالعقول التي يظللها الشكل والمظهر حيناً. ذهب سعد الحبي نتيجة هذا الصراع الأليم، وهو يحاول إنقاذ أصدقائه الذين داهمتهم «صيانه الفضيلة» في مكانهم الوحيد الذين كانوا يسهرون به ويقشعون عنهم سأم المحكول. يصطاده الصرع فجأة وهو يقود سيارته ويشحن الشمري الموقف ليجعل الصراع الآن بين سعد الحبي وبين الصرع (فراس) وكأنه المرض الذي يقف أيضاً في وجهه إلى جانب كل شيء ضده.. فينتهي باصطدام سيارته ببعض رفاقه وبعض رجال «صيانة الفضيلة»، إذ يفقد السيطرة تماماً على مجرى السيارة، يذهب على إثرها للمستشفى وعندها تدرك زوجته أنه قد رحل؛ لأنها ترى شخصاً آخر تنتابه الأعراض ذاتها التي طالما أوجعت سعد الحبي وخلقت له الموت مراراً أمامه. «القانوط» هي رواية صراع القوى المتشددة مع الآخرين، رواية الموت في سبيل ما لا ندركه تماماً، ولكنه من أجل حياة جميلة كانت في الانتظار، رواية المرض وهو يتحول إلى غول مؤذ لا يقاوم، وحكاية المدن التي ما زالت غامضة رغم ظنوننا أنها واضحة وجلية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©