الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بولندا.. أفكار خلف الأسوار

بولندا.. أفكار خلف الأسوار
24 ابريل 2018 19:32
أكثر من فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا، تشكّل بولندا قلب أوروبا الثقافي النابض. ولا نقول ذلك فقط من منطلق موقعها الجغرافي المركزي في هذه القارة، بل أيضاً من منطلق تاريخها الذي وضعها في حالة تفاعُل وتلاقُح دائمين مع كل جيرانها، وإن لم يكن سلوك هؤلاء الجيران دائماً إيجابياً ورقيقاً مع أبنائها. وربما لذلك ـ أي بسبب ما تعرّض له هذا البلد من عنفٍ واحتلال وقمع على مرّ تاريخه، ما زالت آدابه وفنونه غير معروفة كما يجب خارج جغرافيته، على رغم منحه إيانا أسماء أدبية وفنية كثيرة لا تقل أهمية عن تلك الكبرى في دول الجوار. أسماء عرف بعضها شهرةً واسعة في أوروبا، وافتقد بعضٌ آخر لأي شهرة حتى داخل وطنه، لكن كلّ منها وضع أعمالاً مرجعية لن يستطيع الزمن النيل من قيمتها. ولمنح فكرة عن مشهد بولندا الثقافي الحديث، نتوقف هنا عند عدد من أبرز وجوهه، مشيرين فوراً إلى أن هذه الوجوه لا تختصر حيويته وثراءه بالتجارب والإنجازات. نوبليون مبكرون على المستوى السردي والمسرحي، لا يسعنا عدم التذكير أولاً بمنجَز الكاتب هنريك سينكيفيتش (1846 ـ 1916) نظراً إلى وقوعه في دائرة الظل اليوم، على رغم نيله جائزة نوبل عام 1905، أمام تولستوي نفسه. ومن أبرز أعماله: «بالحديد والنار» (1884)، وهي ثلاثية روائية فتنت قرّاءها لدى صدورها بالقوة الدراماتيكية لسرديتها ووصفها الثاقب لبولندا، وتحفته الأدبية «كو فاديس؟» (1896) التي عرفت بسرعة نجاحاً دولياً، وتشكّل سردية تاريخية، ملحمية، تقع أحداثها في روما أثناء مرحلة اضطهاد المسيحيين الأوائل على يد القيصر نيرون. وكما حصل مع سينكيفيتش، لم يحُل نيل مواطنه لاديسلاف رايمونت (1867 ـ 1925) جائزة نوبل عام 1924 دون وقوع اسمه في طيّ النسيان، على رغم وضعه روايات واقعية مرجعية حول التحضّر الهمجي والسريع للقرى والبلدات البولندية، كرواية «أرض الميعاد» (1899) التي يتناول فيها التطوّر السديمي لصناعة النسيج في بلدة لودز، واصفاً بؤس العمّال بأسلوبٍ طبيعي يستحضر أسلوب الفرنسي إميل زولا؛ أو «القرويون» (1904 ـ 1909) وهي جدارية ضخمة رصدها لتصوير الحياة القروية في بلده عند نهاية القرن التاسع عشر، وتشكّل نشيداً للطبيعة والإنسان؛ أو «العصيان» (1922) التي استبق رايمونت في طريقة معالجته موضوعها رواية جورج أورويل «مزرعة الحيوانات». وفي وطنه، يُعتبَر ستيفان زيرومسكي (1864 ـ 1925) ضمير بولندا وذاكرتها نظراً إلى وضعه روايات موثّقة حول ماضيها وحاضرها. ففي رواية «ريح البحر» (1922)، يصف بدقّة فريدة جميع الأحداث التي عرفها تاريخ الأراضي البولندية المحاذية لبحر البلطيق، مستكشفاً الميثات السلافية والاسكندينافية ومبيّناً تداخُل أقدار مناطق أوروبية مختلفة انطلاقاً من الأحداث التي وقعت على شواطئ البلطيق. وقبل هذا العمل، خطّ رواية ضخمة بعنوان «الرماد» (1904) شكّك فيها بصوابية انخراط الجيش البولندي في جيوش نابليون. وفي الفترة نفسها، مارست مواطنته غابرييلا زابولسكا (1857 ـ 1921) الكتابة الروائية والمسرحية، إلى جانب الإخراج والتمثيل. ممثّلة التيار الطبيعي البولندي، اشتهرت بنصوصها المسرحية الغزيرة (41) ورواياتها (23) وقصصها (177) التي صوّرت فيها الحياة اليومية للناس الفقراء وسخرت من التزمّت الأخلاقي للطبقة البورجوازية، كما في نصّها الأكثر شهرةً «أخلاق السيدة دولسكا» (1904). ابتكار وتجاهل أما العملاق ستانيسلاس فيتكيفيتش (1885 ـ 1939) فعانق بفضوله وإنجازاته جميع الميادين الفكرية والأدبية والفنية، ومثل سائر طلائع عصره، لم يكترث للشهرة، فبقي متجاهَلاً فترةً طويلة قبل أن يتعرّض للانتقاد في بلده من منطلق كتابته نصوصاً مسرحية «عبثية» و»غير مفهومة»، و»سخريته من قرائه»، في حين أنه أعاد ابتكار مفهوم المسرح في هذه النصوص التي تقترب في دراماتورجيتها الجديدة من نصوص البلجيكي مايترلينك والنروجي إيبسِن، وتشكّل خير تمثيل للمسرح الوحيد الممكن في نظره، أي مسرح «الشكل الصافي». وكذلك الأمر بالنسبة إلى النوع الروائي الذي جعله فيتكيفيتش يختبر محدوديته من خلال نصوص انبثقت من شعوره بأزمة ثقافية سببها التحديث العشوائي، فساءل فيها مكان الفن ومعناه في العالم الحديث ونظر إلى اللغة بعينٍ مريبة، كما في «الوداع إلى الخريف» (1927) و»الشراهة» (1930)، وهما روايتان وظّف فيهما التأمّل السيكولوجي والفلسفي لنقد الوضع السياسي والاجتماعي لوطنه وانحرافه القومي والشعوبي آنذاك. وأكثر من أي كاتب بولندي حديث، نشط برونو شولز (1892 ـ 1942) في الظل، ليس فقط كقاص وناقد، بل أيضاً كرسّام. وفي كتاباته، ينتمي هذا العبقري إلى تلك المنطقة التي يتقاطع فيها التيار التعبيري والسورّيالية وعلم التحليل النفسي. في مجموعتيه القصصيتين «محلات القرفة» (1934) و»المصحّ الكئيب» (1937)، وهما كل ما تبقى من منجَزه الكتابي، نظراً إلى ضياع مخطوط روايته الوحيدة «المسيح» بعد مقتله، يستسلم شولز لوصف حياة سكّان بلدة بولندية صغيرة انطلاقاً من عناصر سيرذانية يستثمرها بطريقة حُلُمية، مبلبلاً الحدود بين الواقع والخرافة. وفي هذا السياق، يسافر بنا إلى مملكة الطفولة التي يعتبرها المرحلة الأهم في حياة الإنسان، مصوّراً الزمن مثل عجلة يتحكّم دورانها بالأحداث المسرودة وتتابُعها، ومشخصناً الأشياء والحيوانات، أو محوّلاً البشر إلى حيوانات، كما في المجموعة الأولى التي يتحوّل والد الراوي فيها إلى ذبابة أو سلطعون، تحت أنظار أفراد عائلته، ما يستحضر رواية «الانمساخ» لكافكا الذي ترجم شولز له رواية «المحاكمة» إلى البولندية. أما الجانب السيرذاتي لمجموعتيه، فتُثبته واحدة من الرسائل التي كتبها إلى مواطنه فيتكيفيتش ويقول فيها عن «محلات القرفة»: «أعتبر هذا الكتاب سردية سيرذاتية، ليس فقط لأنه مكتوب بصيغة المتكّلم أو لإمكان العثور فيه على بعض الأحداث المستقاة من حياتي»، ثم يضيف: «إنه سيرة، أو بالأحرى سلالة روحية ترجع بنا إلى الأصول الأكثر عمقاً التي تضيع داخل الهذر الأسطوري. لطالما شعرتُ بأن جذور النفس تضيع في غابةٍ عذراء أسطورية». طابع ثوري وبخلاف شولز، أفلت مواطنه ومعاصره فيتولد غومبروفيتش (1904 ـ 1969) من دائرة الظل ليصبح الاسم الأكبر في المشهد الأدبي البولندي الحديث ويُصنَّف كأحد أهم كتّاب القرن العشرين. نعرفه من نصوصه المسرحية، وأبرزها «إيفون، أميرة من بورغونيا» (1935)، و»الزواج» (1948) و»أوبرا صغيرة» (1966)، لكن الأهم في إنتاجه الكتابي هو نصوصه السردية. فمنذ القصص التي وضعها بين عامَي 1926 و1933 وصدرت بعنوان «يوميات زمن اللانضج»، صوّر خرافات أجسادٍ (بيولوجية وقومية وأدبية) متشابكة وممزّقة، قبل أن تتجلى كل عبقريته وطابعه الثوري في رواياته. وفي ممارسته لهذا النوع الأدبي الذي لم يتردد في اعتباره عقيماً وغير صادق مع الواقع، انطلق من الرواية الكوميدية كما مارسها رابليه وسرفانتيس قبله، لمعالجة مواضيع وجودية بطريقة خفيفة ومضحكة لا تخلو من التحريض. وتتميّز رواياته بالتحليل السيكولوجي العميق وحسّ المفارقة ونبرة عبثية، وذلك منذ نصّه الأول «فيرديدورك» (1937) الذي فضح فيه القناع الذي يرتديه الإنسان أمام الآخرين، وانتقد الواقع الطبقي في المجتمع البولندي، علماً أن «المسحورين» (1939) و»كون» (1964) تبقيان أهم روايتين له لتشريحه فيهما جسد الواقع بعمقٍ وبصيرة يفسّران استشهاد الفيلسوف جيل دولوز به في معظم كتبه. ومثل غومبروفيتش، تمكّن الكاتب والمسرحي والفنان تادووش كانتور (1915 ـ 1990) من بلوغ شهرة عالمية، خصوصاً في مجال المسرح الذي صبغه بمناخ تجريبي فريد عبر إخراجه أولاً نصوصاً لفيتكيفيتش بطريقة تقع عند تقاطع التجارب الدادائية والسورّيالية في هذا المجال، ثم عبر نصوص له تتميّز بنزعة فلسفية تشاؤمية ويظهر فيها تأثّره بفنّي الـ «بوب آرت» والـ «هابينينغ»، مثل «صفّ الموتى» (1975) و»فليَذهب الفنانون إلى الجحيم» (1985). نصوص تردّنا فيها الشخصيات والحالات والأشياء والكلمات والأصوات إلى الدائرة السيرذاتية لصاحبها وإلى تاريخ وطنه، ويختلط الأموات فيها بالأحياء من منطلق عودتهم وتواريهم الثابتين. فضاءُ حِدادٍ مستحيل، يعبّر مسرح كانتور عن الجروح العميقة التي لا تلتئم لمجازر القرن العشرين، وفي الوقت نفسه، عن قوة الفن المخلّصة، ضمن مسعى يتوق إلى إدراج داخل العمل المسرحي أمل إعادة تشييد قوى الفرد في وجه الجماعة. وفي هذا السياق، تحضر الذاكرة كعنصر ملازم للخيال وأيضاً كسبيل وحيد لبلوغ حقيقةٍ عليا. وترتكز هذه الفكرة على قناعة مفادها بأن الماضي لا يحيا فقط مثل الأحداث الواقعية لحياتنا اليومية، بل «يشكّل الواقع الوحيد الذي يستحقّ أن نمثّله في العمل الفني». السخرية والعبث أما مواطن كانتور، سلافومير مروزيك (1930 ـ 2013)، فبعد وضعه نصوصاً قصصية ورسوماً في بداياته يظهر فيها بشكل مبكر ميله إلى السخرية والعبث، وبالتالي حسّه الدعابي القارص، مارس الكتابة المسرحية كفضاء مقاومة للواقع المأساوي السائد في وطنه، فمنحنا نصوصاً مهمة تندرج ضمن «مسرح العبث»، ويستعين فيها بالمحاكاة الساخرة لمحاصرة سلوك الفرد، المكيَّف في نظره بظروف محيطه الاجتماعي، وكشف تناقضاته، مسيِّراً تلميحات سياسية قارصة ومزخِّماً الملموس حتى حدود العبث. ولا يكتمل المشهد الأدبي البولندي الحديث من دون استحضار الكاتب الرؤيوي ستانيسلاف ليم (1921 ـ 2006)، الذي نشط في ميدان الخرافة العلمية فتخيّل يوتوبيات تكنولوجية مذهلة تلتحم الفكاهة فيها بالتأمّل الفلسفي والصوفي وتقارب المشاكل المرتبطة بعالمٍ لا يعود الإنسان فيه بحاجة إلى بذل أي مجهود بفضلّ التقدّم التكنولوجي، كما في «سيبيرياد» (1965) و»القناع» (1976) و»سلام على الأرض» (1987) وخصوصاً «سولاريس» (1961) التي جلبت له شهرةً عالمية وعالج فيها موضوعاً ثابتاً لديه: استحالة التواصل بين البشر والكائنات المفترَضة في عوالم أخرى. فضاءات تشكيلية أما المشهد التشكيلي البولندي الحديث فأكثر ما يميّزه هو غزارة المجموعات والحركات التي نشطت في فضائه على طول القرن العشرين ولعبت دوراً في انبثاق أو إثراء الميول الفنية الحديثة. ومن أبرزها، وفقاً للترتيب الزمني، حركة «بولندا الفتية» (1890 ـ 1918) التي مارس أفرادها جميع الفنون البصرية، إلى جانب الأدب والموسيقى، من دون أن يلتزموا بأسلوب أو جمالية محدَّدة، إذ تبنّى بعضهم التقليد الرومنطيقي وبعضٌ آخر التقليد الرمزي، وبعضٌ أخير أسلوب «الفن الجديد». ويجب انتظار نهاية الحرب العالمية الأولى كي تظهر حركات حداثية بشكلٍ راديكالي، كالحركة الشكلية التي أسّست لأسلوب رسامي هو حصيلة مثيرة للجماليات التكعيبية والتعبيرية والمستقبلية؛ والحركة اللونية المزامنة لها التي أحياها جوزيف بانكيفيتش (1866 ـ 1940) وارتكزت في جماليتها على قيمة التلاعب بالألوان، من منطلق أن اللون في اللوحة أهم من الشكل أو الرسالة المسيَّرة فيها. حركة اعتمد فنانوها طريقة رسم مبسّطة، متجنّبين الالتباس والترميز. وبموازاة هاتين الحركتين، تأسّست حركة «إيقاع» عام 1921 التي تاق أفرادها إلى تشييد موقَّع للوحة، تلتها مجموعة «بلوك» التكعيبية والتشييدية الطلائعية عام 1923 التي دعا رائدها فلاديسلاف ستريمينسكي (1893 ـ 1952) إلى تفريغ اللوحة من أي قيمة غير تشكيلية، وبالتالي إلى تجنّب أي مناخ استحضاري أو انفعالي أو رمزي فيها، كي تبلغ صفاوة كاملة ووحدة عضوية بألوانها وخطوطها. مجموعة انضم إليها هنريك ستازيفسكي (1894 ـ 1988) الذي شارك أيضاً في تأسيس مجموعات فنية دولية، مثل «دائرة ومربّع» و»تجريد وابتكار» الشهيرتين، وقاد أبحاثاً شكلية يتحكّم بها هاجس إظهار كيفية تجسيد الأبعاد الثلاثة لأي رؤية في لوحة ببُعدَين، وضرورة مدّ فن الرسم بوظيفة اجتماعية. مدارس وأساليب وبعد «أخوية مار لوقا» التي تأسست عام 1925 واعتمد أفرادها في لوحاتهم الرسم الموضوعي والأسلوب الواقعي، ضمن بحثٍ عن الرابط بين الفن والحياة، نشطت بين عامي 1929 و1936 مجموعة «فنون» التي سعى أفرادها إلى دمج جميع الفنون وأنجزوا أعمالاً يظهر فيها تأثّرهم بالفن الفرنسي، وخصوصاً بأعمال فرنان ليجيه والفنانين السورّياليين. وفي الفترة نفسها، رسمت الفنانة البولندية الشهيرة تامارا ليمبيكا (1898 ـ 1980) أهم لوحاتها بذلك الأسلوب الفاتن الذي يشكّل حصيلة فريدة للأسلوب التصنّعي (عصر النهضة) وأسلوبَي التكعيبية الجديدة والـ «آرت ديكو». لوحات تتميّز بتأطير سينماتوغرافي وألوان حيّة ومصفّاة تحضر على خلفية رمادية أو سوداء وتعزز شهوانية النساء الماثلات فيها. ولا عجب إذاً في تحوّل هذه الأعمال بسرعة إلى أيقونات تستحضر مرحلة «السنوات المجنونة»، فليمبيكا سعت فيها إلى تجسيد إرادة المرأة آنذاك الانعتاق من سلطة الرجل والمجتمع، والتعبير عن رغباتها ونظرتها المختلفة للعالم. ودائماً في الفترة نفسها، أنجز برونو شولز رسوماً لم يكترث فيها للجماليات السائدة آنذاك، بل ابتكر أسلوباً تصويرياً فريداً يقترب من رسم الكاركاتير بهدف تجسيد هواجسه وأهوائه وعُقَده. وفي هذا السياق، يندرج عمله ضمن الخط نفسه الذي اتبعه قبله رسامون كبار مثل ديورر وغرونفالد وهوغارث وغويا ومونش وبيردسلاي، مع اختلافين جوهريين: الأول هو مقاربة شولز في هذه الرسوم شهواتٍ جنسية تتميّز بشراسة وقسوة تصلان إلى حد السادية أو المازوخية، فتحضر المرأة فيها كشخصية متفوّقة تتحكم بمصير الرجل وتعامله ببرودة وتعالٍ، حين لا تستخدم السوط أو العصا معه، بينما يبدو الرجل وكأنه يتمتّع بهذا الإذلال. أما الاختلاف الثاني فيكمن في كون جميع الرجال الماثلين في هذه الأعمال بورتريهات مختلفة لصاحبها. وكما في مجموعتيه القصصيّتين، تبدو النظرة التي يلقيها شولز على العالم طفولية تشهد عليها شخصية الطفل المتواترة والتي تحمل بدورها ملامحه. شخصية تمسك غالباً بيد شولز الراشد وتسير به، ما يعكس توق هذا العملاق في المحافظة على الطفل الذي كان، وعلى نظرته المندهشة كمبدأ حياة، تماماً مثل الشاعر الفرنسي رامبو. تقاليد واختبارات وبعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت مجموعة «4F+R» الطلائعية التي تابعت التقليد التعبيري البولندي وروّجت أيضاً للجمالية السورّيالية والفن التجريدي، تبعتها مجموعة انبثقت من معرضٍ جماعي مجيد في «حلقة الأرسونال» في كراكوفيا عام 1955 حمل عنوان «ضد الحرب، ضد الفاشية» وشكّل منعطفاً في طريقة توظيف أسلوب الواقعية الاشتراكية نظراً إلى مشاركة فنانين مهمين فيه، لعل أبرزهم أندريه روبليفسكي (1928 ـ 1957)، رائد «التصوير الجديد». ولا ننسى مجموعة «زاميك» (قفل) التي تأسست عام 1957 على يد حفنة من الفنانين المادّيين الذين اختبروا أشكالاً جديدة وتجرّأوا على تدوير نُسَخ من كتب لينين وماركس وتحويلها إلى ورق تواليت، مثل فلودزيمير بوروفسكي وجان زييمسكي والمسرحي كانتور. لكن لن تلبث اختبارات «مجموعة كراكوفيا» التجريدية أن تطغى على المشهد التشكيلي البولندي في نهاية الخمسينات ومطلع الستينات. ومن أبرز وجوهها، جيرزي نوفوسيلسكي الذي تتميّز بعض لوحاته بمسطّحات لونية وأشكال مبسّطة تتراوح بين مربّعات ودوائر، وبعضها الآخر بنزعة تصويرية تظهر فيها إما أجساد نسائية عارية بوضعيات جامدة وممدَّدة، وإما طبيعة جامدة تم اختزالها إلى خطوط وألوان. وكردّ فعل على الميول التجريدية الطاغية، انحرف فنانون في الستينات في اتجاه جمالية الـ «بوب آرت»، مثل جيرزي زييلينسكي ولوكيان ميانوفسكي وبينون ليبرسكي، وانبثقت مجموعة «مباشرةً» (Wropst) في نهاية العقد المذكور وتبنّت أسلوب «التصوير الجديد» الذي أسّس له روبليفسكي ورؤيته لفنٍّ يتعذّر فيه الفصل بين عناصره الجمالية وتلك العقائدية. مجموعة انشغل أفرادها بالمسائل الشكلية وبالبحث عن طريقة مباشرة لمقاربة المسائل الاجتماعية والسياسية والوجودية (من هنا اسمها). تجارب مثيرة لكن التجارب الأكثر إثارة، في نظرنا، خلال الخمسينات والستينات، هي تلك التي تتميّز بصورية سورّيالية خيالية وشكّل الملصق ركيزة لأصحابها، مثل رومان سيشليفيتش وهنريك توماسيفسكي وخصوصاً دزيسلاف بيكسينسكي الذي يسكن أعمالَه المعتمة أمواتٌ ـ أحياء بنظرات تائهة وأجساد متحلَّلة، وأيضاً هياكل عظمية ممدَّدة في فضاءات منكوبة تستحضر مناخ نهاية العالم. أعمال لن يلبث بيكسينسكي أن ينجز بعضها على الحاسوب والآلة الناسخة مطلع التسعينات. ومن فترة الثمانينات، لا يسعنا عدم استحضار مجموعة «غروبّا» التي ضمّت فنانين مثل ريشارد غريب وباول كوفاليفسكي وجاروسلاف مودزيليفسكي الذين مارسوا أسلوباً تشكيلياً موحّداً مستوحى من التعبيرية الجديدة، وسعوا في لوحاتهم إلى تصوير ظروف مجتمعهم الصعبة إثر تطبيق قانون الأحكام العرفية عام 1981. وإذ تصعب محاصرة الوجوه والحركات التشكيلية الفاعلة في الساحة الفنية البولندية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، نظراً إلى غزارتها وتنوّعها وراهنيتها، يتعذّر على المتأمّل في هذه الساحة تجنُّب نشاط مجموعتيّ «الذوق» و»الأقزام». الأولى تأسست عام 1996 وعمد أفرادها حتى عام 2001 إلى عرض أعمالهم ضمن حفلات فنية عبثية وصاخبة تستحضر في أجوائها حفلات الحركة الدادائية مطلع القرن الماضي. أعمال تستمدّ مواضيعها من الحياة اليومية والصحف والمجلات والبرامج التلفزيونية، وتشكّل بجماليتها الـ «كيتش» (Kitsch) واستراتيجيتها الساخرة ردّ فعل نقدي على واقع بولندا الرأسمالي بعد 1989. ومن أبرز وجوه هذه المجموعة، ويليام ساسنال الذي دخل عام 2006 على لائحة أفضل مئة فنان في العالم، ويصف نفسه كفنان واقعي لاستقائه مادّة أعماله، متعدّدة الأساليب والوسائط، من تجربته الخاصة ووسائل الإعلام والصور المتوافرة في الكتب وعلى شبكة الإنترنت. أما مجموعة «الأقزام» فتأسست عام 2008 وينشط أفرادها، المتأثّرون بساسنال، على شبكة الإنترنت من دون كشف أسمائهم، ويعتمدون التحريض في أعمالهم المتنوّعة كسلاح لمواجهة ونقد الوضع الاجتماعي والسياسي الراهن في بلدهم. في السرد والمسرح يحفل المشهد السردي والمسرحي في بولندا، بالكثير من الأسماء التي طارت شهرتها إلى خارج البلاد أو انحصرت داخلها، وهنا بعض الأسماء التي تسلّط عليها هذه الدراسة الأضواء: ـ هنريك سينكيفيتش (1846 ـ 1916) حامل جائزة نوبل عام 1905. ـ لاديسلاف رايمونت (1867 ـ 1925) حامل جائزة نوبل عام 1924. ـ ستيفان زيرومسكي (1864 ـ 1925). ـ غابرييلا زابولسكا (1857 ـ 1921) وهي كاتبة روائية ومسرحية ومخرجة وممثلة. ـ ستانيسلاس فيتكيفيتش (1885 ـ 1939). ـ برونو شولز (1892 ـ 1942) اشتهر كقاص وناقد ورسّام. ـ فيتولد غومبروفيتش (1904 ـ 1969) يعتبر أحد أهم كتّاب القرن العشرين خصوصاً في نصوصه المسرحية. ـ تادووش كانتور (1915 ـ 1990) كاتب ومسرحي. ـ سلافومير مروزيك (1930 ـ 2013)، رسام ساخر مارس الكتابة المسرحية كفضاء مقاومة للواقع وتندرج نصوصه ضمن «مسرح العبث». ـ ستانيسلاف ليم (1921 ـ 2006)، كاتب رؤيوي نشط في ميدان الخرافة العلمية فتخيّل يوتوبيات تكنولوجية مذهلة. أسماء في التشكيل تبرز في المشهد التشكيلي البولندي، أسماء ومدارس كثيرة، تتميز جميعها بمراودة الحداثة في مختلف مراحلها، متأثرة ومؤثرة في محيطها الفني. ومن أبرز الأسماء التي تسلط عليها هذه الدراسة الضوء، كلاً من: ـ جوزيف بانكيفيتش (1866 ـ 1940) مؤسس الحركة الحداثية بعد الحرب العالمية الأولى. ـ فلاديسلاف ستريمينسكي (1893 ـ 1952) رائد مجموعة «بلوك» التكعيبية والتشييدية الطلائعية عام 1923. ـ هنريك ستازيفسكي (1894 ـ 1988) شارك في تأسيس مجموعات فنية دولية، مثل «دائرة ومربّع» و«تجريد وابتكار» الشهيرتين. ـ تامارا ليمبيكا (1898 ـ 1980) أشهر رسامة بولندية تأثرت بالفن الفرنسي، وخصوصاً بأعمال فرنان ليجيه والفنانين السورّياليين. ـ برونو شولز أنجز رسوماً لم يكترث فيها للجماليات السائدة، بل ابتكر أسلوباً تصويرياً فريداً يقترب من رسم الكاركاتير. ـ أندريه روبليفسكي (1928 ـ 1957)، رائد «التصوير الجديد»، بعد الحرب العالمية الثانية. ـ جيرزي نوفوسيلسكي تتميّز بعض لوحاته بمسطّحات لونية وأشكال مبسّطة تتراوح بين مربّعات ودوائر. ـ جيرزي زييلينسكي ولوكيان ميانوفسكي وبينون ليبرسكي، أعضاء مجموعة «مباشرةً» (Wropst) في نهاية عقد الستينات. ـ ويليام ساسنال دخل عام 2006 على لائحة أفضل مئة فنان في العالم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©