الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تادوش روزيفيتش.. شاعر الأفعال

تادوش روزيفيتش.. شاعر الأفعال
24 ابريل 2018 19:34
لم يعرف القراء العرب من الشعر البولندي سوى شاعرين ذاع اسماهما بعد فوزهما بجائزة نوبل، وهما: شيزلو ميلوز وفيسلافا شيمبورسكا. ترجمت مختارات عدة لهذين الشاعر والشاعرة، وكادا يمثلان وحدهما الشعر البولندي المعاصر، علما أن المشهد الشعري البولندي الحديث والمابعد-حديث يضم أسماء مهمة، في مقدمها الشاعر تادوش روزيفيتش، الذي ينتمي إلى الجيل الذي يضم ميلوز وشيمبورسكا وزبينيو هربرت وليوبولد ستاف. هذا الجيل هو الذي جدد الشعر البولندي ومنح صوته إلى شعبه، وواجه قضية «كيفية التعبير» في حقبة الحرب الثانية الشديدة الاضطراب التي برزت فيها «أزمة القيم» التي استمرت طويلا. فما تم التوافق عليه حينذاك بصفته «حضارة» لم يتمكن من حماية الشعب من «الرعب» الذي برز غداة الحرب العالمية الثانية ومع صعود النازية واحتلالها بولندا وارتكابها محرقة أودت بثلاثة ملايين بولندي من الطائفة اليهودية. من المقاومة لم يكن روزيفيتش يهودياً بل كان كاثوليكياً مثله مثل شعراء كثيرين لكنه تأثر جداً بهذه المحرقة التي طالت ربع أهل قريته وتركت في شعره بعداً مأسوياً عميقاً. ومما زاد من حجم هذه المأسوية هو إقدام الغستابو على قتل شقيقه جانيوز الشاعر أيضا العام 1944، وهو كان ينتمي مثله إلى حركة المقاومة البولندية التي نشأت خلال الاحتلال النازي. هكذا بدا السؤال الجوهري في حسبان روزيفيتش: ما معنى الكتابة في مثل هذا الجو من الرعب الداخلي؟ كيف يمكن الشاعر أن يكون مقاوماً في ظل المأساة الشاملة؟ يقول الشاعر: «هل يمكن/‏‏ أن نكتب عن الحب/‏‏ بعدما سمعنا صرخات/‏‏ المقتولين والمهانين/‏‏ هل يمكن/‏‏ أن نكتب عن الموت/‏‏ بينما ننظر إلى وجوه الأطفال؟». عاش روزيفيتش حياة من التنقل أو الهرب، هو الذي ولد العام 1921 في مدينة رادومسكو البولندية الصغيرة، وسط عائلة متواضعة. وعندما انهالت قنابل النازيين على المدينة عام 1939 هجر الشاعر أرض طفولته. وبعدما دمرت القنابل بيت الأسرة اضطر الشاعر إلى العمل طوال الحرب في مهن صغيرة وعادية: مصنع زجاج أو دكان، بائع جوال... هو الذي كان يحلم بأن يتخصص في هندسة المياه والغابات. التحق بحركة المقاومة وناضل عبرها ضد النازيين متنقلاً بين الغابات، وراح يكتب في الصحافة السرية. وبعد انتهاء الحرب وتحرير بولندا من النازيين التحق بجامعة كراكوفيا ليدرس التاريخ والفن. لكن الشاعر الشاب الذي اعتاد حياة الحرية لم يكمل دراسته. ..إلى الظل وكان روزيفيتش منذ فتوته دأب على كتابة الشعر والقراءة. أما شعره فسرعان ما راج بعد الحرب ووجد صداه في الأوساط الأدبية وحقق حينذاك ديواناه «في ملعقة ماء» و«قلق» نجاحاً في البلاد. ولكن منذ أن هيمن الاتحاد السوفييتي على بولندا ناشراً أيديولجيته الشيوعية عاش الشاعر حالاً من العزلة، فقيراً، بعيداً عن حلقات المثقفين الشيوعيين الذين احتلوا المعترك الأدبي والفني. في تلك الفترة لم يكتب إلا القليل من الشعر وانصرف إلى الكتابة المسرحية بعدما دفعه إليها مسرحيون كبار مثل كانتور وغروتوفسكي اللذين تعاون معهما. وبعد سقوط جدار برلين والمعسكر الشيوعي استعاد حريته وواصل الكتابة الشعرية والمسرحية والنثرية. وفي عام 2008 فاز روزيفيتش بالجائزة الأوروبية للأدب وهي تعد من الجوائز الكبيرة عالميا. وفي عيد ميلاده التسعين الذي صادف في عام 2011 شهدت بولندا كلها احتفالات تكريمية له ولأعماله ومنح جوائز وطنية عدة. وفي 24 أبريل 2014 رحل روزيفيتش عن 92 عاماً، وقيل إن عالماً رحل معه، كان هو خير شاهد عليه. ترك الشاعر دواوين كثيرة ومسرحيات ونصوصاً نثرية وترجمت أعماله إلى لغات عالمية. ومن دواوينه: أصداء الغابة (1944)، في ملعقة ماء (1946)، قلق (1947)، الكف الأخضر (1948)، خمس قصائد كبيرة (1950)، هوة (1950)، الناجي (1950)، الزمن الآتي (1951)، قصائد وصور (1952)، السهب (1954)، سنبلة الفضة (1955)، ابتسامات (1955)، قصيدة مفتوحة (1956)، أشكال (1958)، الوردة الخضراء (1961)، الوجه (1964)، تعويذة (1977)، رحلت أمي (1999)، المنطقة الخضراء (2002)، المخرج (2004)، لا يهم إن كان هذا في الحلم (2006). لعل الطريق الذي سلكه شاعرنا في حياته كان بحق منعطفاً تاريخياً محفوفاً بالمآسي والدم والرعب. وكان هو شاعر ذلك المنعطف الذي جمع بين حقبتين، حقبة النازية وحقبة الشيوعية اللتين آلت نهايتهما إلى ولادة تاريخ جديد. وأصر روزيفيتش على ترسيخ مفهومه الشعري الخاص في أزمنة القلق والرعب. فالشعر ليس في الحصيلة إلا عملاً فنياً ولكن مدعوماً بقوة داخلية تعينه على مواجهة اليأس والشك وعلى إنقاذ إنسانية الإنسان والجماعة. وكان الشعر في نظره سعياً دائماً لدعم الإنسان في كفاحه المستمر لتحقيق الحياة التي يحلم بها. ويقول في هذا الصدد: «الإبداع الشعري في نظري، لا يكمن فقط في تأليف قصائد جميلة، وإنما في الفعل. ما من قصائد بل أفعال. كان ردي على الأحداث عبر أفعال كنت أخلقها وفق الأنموذج الشعري وليس عبر الشعر. كانت غايتي أن أحوّل الكلام إلى فعل». وعلى رغم ما يحوي شعره من صرخات وعنف وغضب فهو لا يخلو من السخرية الحادة والهتك وأيضا من الرقة والحنين والحب. شعر قادر فعلاً على الجمع بين متناقضات الحياة، بين قسوتها وعذوبتها، بين وضوحها والتباسها، بين ضروراتها وانتشاءاتها. قصائد مختارة من دواوين تادوش روزيفيتش العشب أنبت بين حجارة الجدران هناك حيث الحجارة منصوبة هناك حيث الحجارة مختومة هناك حيث تؤلف قباباً أنزلق بذوراً عمياء تبعثرها الرياح في شقوق الصمت أتكاثر بهدوء أنتظر أن تنهدم الجدران وتعود إلى التراب آنذاك أغطي الوجوه والأسماء. من الشاعر؟ الشاعر هو في آنٍ ذاك الذي يكتب قصائد وذاك الذي لا يكتب قصائد الشاعر هو الذي يهزّ القيود ويتولاها الشاعر هو الذي يؤمن والذي لا يؤمن الشاعر هو الذي كذب والذي كُذب عليه الشاعر هو الذي يأكل بيده والذي يقطع الأيدي الشاعر هو الذي يرحل والذي لا يستطيع أن يرحل. الوجه نفسه وجه الشاعر مشرعٌ ملآنُ صمتاً هو دوما الوجه نفسه ولكن هو آخر تماماً من الجدار قناعٌ ينظر إليّ بعين قاسية وخاوية في منتصف الحياة بعد انتهاء العالم بعد الموت وجدت نفسي في منتصف الحياة خلقت نفسي من جديد تعلمت الحياة ثانية الناس، الحيوانات، المناظر هذه طاولة، قلت على الطاولة خبز وسكين السكين تصلح لتقطيع الخبز الناس يقتاتون من الخبز هذه نافذة قلت نافذة وراءها حديقة هذه الشجرة شجرة تفاح شجرة تفاح تزهر الأزهار تتساقط الثمار تنعقد تنضج أبي يقطف تفاحة الرجل الذي يقطف التفاحة هو أبي كنت جالساً على العتبة هذا ماء قلت كنت ألامس الموجة الناعمة أتحدث إلى الساقية ماء قلت ماء زلال هذا أنا كان الرجل يتحدث إلى الماء يتحدث إلى القمر إلى الأزهار، إلى المطر يتحدث إلى الأرض إلى العصافير إلى السماء صمتت السماء صمتت الأرض إن كان يتناهى إليه صوت من الأرض من الماء من السماء فهو صوت امرئ آخر. الأب هو ذا أبي العجوز يعبر القلب لم يقتصد طوال حياته لم يضف حبة إلى حبة لم يقتنِ بيتاً لم يشترِ ساعة من ذهب بين يديه لم ينِ المال يتبدّد كان يعيش كعصفور كان يغني يوماً تلو يوم ولكن قولوا لي هل يمكن موظفاً أن يعيش هكذا طوال أعوام؟ هو ذا أبي العجوز يعبر القلب بقبعته العتيقة يصفّر أغنية بهيجة ويظن جازماً أنه سيصعد إلى السماء. تبرئة ما بعد الموت يتذكر الموتى لا مبالاتنا يتذكر الموتى صمتنا يتذكر الموتى كلماتنا يبصر الموتى أفواهنا تضحك قرب آذانهم يبصر الموتى أجسادنا يعرك بعضها بعضاً يسمع الموتى ألسنتنا التي تقهقه يقرأ الموتى كتبنا يستمعون إلى خطاباتنا التي ألقيناها منذ زمن بعيد الموتى يتفحصون مداولاتنا ويبغون التقاءنا لينهوا بسرعة محاوراتنا الموتى يبصرون أيدينا توشك أن تصفّق الموتى يبصروننا جميعا على المدرجات نغني الأناشيد بإيقاعاتها كل الأحياء أدركوا أنهم مذنبون كل الصغار الذين أهدوا باقات زهر أدركوا أنهم مذنبون العشاق أدركوا أنهم مذنبون والشعراء أيضا مذنبون هم الذين هربوا والذين لم يهربوا الذين قالوا نعم الذين قالوا لا والذين لم يقولوا لا ولا نعم الموتى يحكمون في شأن الأحياء الموتى لا يريدون تبرئتنا روز روز هي وردة أو اسم فتاة ميتة نضعها في راحة يد دافئة أو ندفنها في التراب الأسود الوردة الحمراء تصرخ الشقراء رحلت بصمت الدم سقط عن البتلة الشاحبة الأناقة هجرت فساتين الفتاة البستاني يعالج الشجيرات الأب الذي ما برح حياً يقتلع شعره على رحليك مضت خمس سنوات يا زهرة الحب التي بلا جذور اليوم أزهرت الوردة في الحديقة ذاكرة الأحياء ماتت وإيمانهم. تطهر ا تكفوا عن ذرف دموعكم لا تكفوا أيها الشعراء ليذهلْكم القمر ضوء القمر الحب العذب وزغردات العندليب لا تخشوا الصعود إلى السماء السابعة ولا التوشّح بالغار ولا تشبيه عيونكم بالنجوم لتُدهشوا أمام زهرات الربيع الفراشة البرتقالية شروق الشمس وغروبها ارموا الحبوب لليمائم الهادئة انظروا مبتسمين إلى الكلاب والأزهار ووحيدي القرن والقاطرات تحدثوا عن مثالاتكم اقرؤوا نشيد الفتوة ثقوا بالعابرين جميعا بصفاء قلوبكم ستؤمنون بالجمال وبالإنسان بدهشتكم لا تكفوا عن ذرف دموعكم لا تكفوا أيها الشعراء القمر يضيء القمر يضيء شارعٌ مقفر القمر يضيء رجلٌ يهرب القمر يضيء الرجل سقط أرضا انطفأ الرجل القمر يضيء القمر يضيء شارع مقفر وجه رجل ميت مستنقع وحل الجدار هذا الجدار الذي بنيناه معاً مضيفين كل يوم كلمةً إلى صمته هذا الجدار الذي يفصل بيننا بلا رحمة لا نستطيع عبوره محاصرين برعايتنا نحن نموت عطشاً نسمع جانباً الآخر يتحرك نسمع الآهات نطلب النجدة حتى الدموع تنحسر في أسفل مآقينا الضحك ظلّ القفص مغلقاً وقتاً طويلاً في القفص المغلق عصفور صمتَ العصفور وقتاً طويلاً فُتح القفص بعدما صدئ في عمق الصمت دام الصمت وقتاً طويلاً انبثق ضحك من وراء القضبان السود
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©