الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

زنوبيا.. مخيال التوهج لعنة الجغرافيا المتوارية

زنوبيا.. مخيال التوهج لعنة الجغرافيا المتوارية
29 مارس 2012
هي لمظة بعد غمضة، هي لحظة أشبه بالشهقة الأنثوية حين ينتصب الحجر، متوهجاً، متأججاً، مرتجاً، يسأل عن احتجاجه الكامن، في رحم الهوى والنوى، وما عشقته سابلة وقابلة وقافلة.. هي من رياض وحياض واستنهاض الذين رفعوا الصخرة على الصخرة، وأججوا الجمرة والحجرة، حتى استشاط الجبل العريق في السكرة ثم اغتسل متطهراً، متطيراً، من فعل ما جاشت به المزن وما خبت إبل واحترقت سبل. هي واحة للتمادي، في الجدل، هي ساحة بوادٍ غير ذي زرع، هي المحنة والمنحة والنحنحة في دياجير الدجى، وهي الاحتمالات المفتوحة على الأسئلة الماضية والمقبلة، هي السنبلة التي ترعرعت وتفرعت، ووزعت شيم الذين تفانوا من أجل القيم، هي النعمة والنجمة تماهت والكواكب سطوعاً، وينوعاً، واستدارت عن شفة جبل توسد صحته بعد ضجيج، متكئاً على أنفاس الذين تحسسوا تجاويفه، وتعاريقه، وشعابه، وأسبابه المبهمة، ونواصيه الغامضة المتوهمة. زنوبيا، تجشأ التاريخ وهقَّ، ورق، ودق نواقيس وأشعل فوانيس، كنت وحدك، ترفلين بالثوب العتيق ولا شقيق ولا صديق، وحده الحريق يلتهم وينسجم بالتراب الأزلي، فلم يبن الآن من ذاك الصهيل، سوى جدران متهالكة، غبار غط في السبات، متحدياً إرادة الذين ذبلت عزائمهم، ولم تعد الأمكنة سوى أقداح سكارى تتكسر في ذروة السكر. الجدار المتهدم زنوبيا، يبقى الجدار المتهدم، كالتاريخ المبهم، كالثابت المتحول، المنصرم، كالفرح المنصرم، وأشياء أخرى تبوح بشيء من الادغام والابهام، وانعدام الرؤية، هنا أنت تتهللين بالنشوة العارمة، كقصيدة رائعة لعبد العزيز جاسم، كحلم أزرق، يذرع البحر، ويحصي عدد الأجنحة المتوارية خلف موجات الخليج العربي.. زنوبيا أنت كأي شيء عظيم، ولئيم، دارت حولك الروايات واشتد حمى الأسئلة، ولكن يبقى لذلك الجبل، الشاهق، المتلاحق، بنسيج الأبرياء، وعفوية العشاق، إنه لم يزل يتضمخ برائحة وينسحق بلوعة ذلك الجبل، المكان المتمكن من الزمان، المتزمل برماده، وحصاده، المعتنق دوماً أيديولوجيا الوجود والأبد، أجل إنه الأبد المتبدد في خلايا الناس، المتجدد في النوايا والحواس، المتعدد في الفصول والأصول، والفواصل والمفاصل، المتحدر في الصمود والخلود المتوارد في الحنايا والثنايا والطوايا والسجايا، والنوايا، والرزايا، الواقف على أطراف أصابع توجسه، النازف حُلماً حليماً، وسلاماً، وكلاماً، ما جادت به العربية، لأنك الجبل الذي قد جُبل، ولأنك الحبل المتصل، الواصل المعتدل، الفاصل ما بين تاريخ توهج وآخر تعرّج فاعوج، فانغرس في أتون النهايات البائدة، تاركاً غيّه وغوايته، في وجدان من شحبت أرواحهم، وجداً، ونهبت قلوبهم سهداً، وسلبت معانيهم عمداً، لئلا تصحو الزباء أو زنوبيا ثانية وتعبث في المكان، وتعيد تصفيف الأرواح، وتجفيف الجراح، وتكتيف الحصى الغارب بعيداً كي لا تتعثر جيادها الجامحة، ولا تتكسر فناجين قهوتها في اللحظة المباغتة. زنوبيا، لم تزل تتهجى حروف التاريخ، وتعيد ترتيب وجدان الإنسان لعل وعسى، يغفر الله للناس، عن غفلتهم حين امتشقوا النسيان، مهنداً، واستلوا الذاكرة المثقوبة، مساحة لرابطة المتفرجين فقط. زنوبيا، أثر بعد عين، كسرة خبز، مذرورة عند حافة بائسة، تقف بلا معنى، إذ تحاشت المعاني لغة البروز، وتلاشت متوارية خلف غبار ورقي مشعوذين، دلتهم حاستهم السادسة، على خراب ويباب، فقالوا ذهب التاريخ ولم يعد، اندثرت تلك الجدران، كما هي ثمود وعاد إرم ذات العماد، وبقايا حضارات سادت ثم بادت، ثم مادت عن الوعي، ثم استقطبت جل طاقاتها لأجل عدمية مزرية، ووجود لا وجد لديه ولا وجدان. زنوبيا، القاطنة الآن، عند قمة جبل في رأس الخيمة، تبقى علامة بارزة للهجر، والفتر، والفقر، والوعي، المتفاقم سهواً، تبقى شامة باهتة عند جبين تضاريس لم تزل تبحث عن نهر يذيب الملح، تبحث عن غصن يظلل أعشاش العصافير، تبحث عن سنبلة تبلل ريق حمام البر، تبحث عن وسيلة، تجدل بها عقوص الشعر المتهدل، تبحث عن حيلة، تزيح هذا الظلام المنسدل، تبحث عن معنى في المعنى، تبحث عن مغزل لتاريخ يسكب حروفه في المعاني المتشهية لغزل الندى، ونعومة المطر، ولذة الانسحاق تحت سنابك الليل الدفيئ. زنوبيا في هذا المكان، منذ زمان، تدور الدوائر، وتتكاثر أعشاش الطيور في ثقوب جدرانها، وتعشعش العناكب، وتنخفض المناكب، ولكن شيئاً ما، يبدو في أفق الذاكرة، لم يتغير، هو ذاك الجبل، إنه الفاضح الواضح، المصارح دوماً، يقبض على الأسئلة يضمها، يسكنها في العميق السحيق، يلتقط حبات الفكرة.. فكرة، فكرة، ثم يفتل شاربين عريضين، ويحدث، يرى ما لا يراه الآخرون، يرى الهالة، والحالة، بلا رتوش ولا خدوش، يرى زنوبيا، كأنها جاءت بالأمس، تريد أن تشق قناة بحرية، من لسان في البحر، حتى موطن الجبل، هنا تفرغ السيدة الوقور أحلامها وتضج بكلامها، عن رؤية حامت على رأسها، تشي بأن الحضارة التدمرية تبدأ من ربوع الشام وتنتهي في نجوع رأس الخيمة، فأسست جمهورية أفلاطون على رأس صخرة، وعند خاصرة شجرة، تظللت وتفيأت، ونهلت وانتقلت الهوى، والعزة والكبرياء، مناطق شاسعة غزتها بفحولة أنثوية لا مثيل لها، داهمتها بكل ضراوة حتى أدلهم الليل، وتوارت النجوم خلف غيوم وسقوم، وهموم، وانحسر ذاك الوجدان الوسيع، وانتحر الحلم، على أعتاب حرقت ما كان له أن يصبو لغير الاستعانة.. العزلة الموحشة زنوبيا، تحثو الآن على التاريخ رملاً، وتجثو على ركبتين مترهلتين مرتجفتين، وتنام الجدران المتهاوية بسلام، متلائمة مع هروب التاريخ متسللاً من بين أصابع العرافات، واللائي كن يصنعن “المحو” كعلاج للارتجافة والنحافة، وسخافة الفكرة.. زنوبيا الآن، في العزلة الموحشة، عند قمة الجبل، ترقب وتتصبب عرقاً، تحصي أعداد الذين مروا من هنا ولم يلتفتوا، الذين أشاحوا في وجوم، وذهبوا يبحثون عن ذهب أبي لهب، ويسألون عن اللاتي خضن وخضضن، ورضضن ثم انسكبن في الفراغ غافيات متلاشيات في الغياب الأبدي.. زنوبيا في آخر خطاب لها إلى من يهمه الأمر، تندد وبكل شيء هذا الادعاء بأنها في صحة جيدة.. وفي أحسن حال، وتؤكد للقاصي والداني، إن التاريخ لا يهمله التاريخ كما يُدّعى، بل إن التاريخ وليد أبديته لا تدحضه أمنيات، ولا يضيف إليه الرخاء تأملات، التاريخ يحتاج إلى إرادة القوة التي تستجمع عناصر القوة ثم يبرزها، ثم تدفعها لأن تفعل ما يفعله العقل الخالص.. وتضيف زنوبيا، إنها لم تزل في حال انتظار الاجابة على أسئلتها، ولعل وعسى يكون الجواب، أن المكان سيبدو بعد حين قريب، منارة ثقافية، تضاف إلى رصيد الوطن، وتثري الوجدان الإنساني، بمعان وأمانٍ تزخرف الحياة، وتعيد ترتيب أناتها بحيث يتلاءم مع تطلعات من يعشقون بلا مقابل، ومن يشهدون المقل بريح ورائحة، برغم المحن الفادحة.. زنوبيا، لم تزل تلقي بأسئلتها، وخطاباتها، المفعمة بالحنين إلى زمن المزن، والهطول المطولة، تحن لجدران كانت عالية، وأشجان كانت غالية، وجياد ما عثرتها كبوة، ولا بعثرتها عقبة، وغاف ما عابه صهد ولظى، ولا تشظٍ وشظف.. زنوبيا، رغم كل ذلك التحرق، لا يسع المرء سوى أن يتوقف عن الهدير، وأن يمنح القلب نسمة من أمل، فالجبال الشم لا تزال ترخي بظلالها، على الجغرافيا، ولا تزال التضاريس تتهجى سواحلها، وصحاريها، فإن أفل نجم فنجوم تتلألأ في هذا المكان، ولآلئ تتدفق بأنوار وادوار.. زنوبيا حين تقولين قفوا نبكِ على أثر، فإن لبكائك قصيدة وقلادة، تتساويان، وفخامة الحلم، تتوازيان، ولناموس وقواميس التبجيل، التي جللت مكانتك، ووضعتك موضع الأقمار في السماء.. زنوبيا، رسالة أخيرة تودين أن تبعثي بها إلى كل عاشق على هذه الأرض، تقولين فيها إن السماء تحدث دوماً في هذا الجدار، وذاك الجدار، وتمطر البقايا بحسن النوايا، والله عليم بما تهوى الأنفس وتُخفي الصدور.. زنوبيا، زوبعة في التاريخ زنبقة في الجغرافيا، وهي حلم بداية الوعي، هي رعشة نهاية المطاف، هي الحبر الذي لم يجف بعد، رغم تعدد صفحات التاريخ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©