الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الهروب من تناظرات المنزل وبيت الشِّعر!

الهروب من تناظرات المنزل وبيت الشِّعر!
29 مارس 2012
“وإذ أنظر الآن إلى الماضي، أحس أنني إنما ثرت على طريقة الشطرين الخليلية، نفوراً من المنزل المتناظر الذي يتطابق جانباه تمام التطابق، كنت أستشعر ضيقا شديدا بنظام البيوت في بغداد.. ولم يخطر على بالي انني إنما دعوت تلك الدعوة الحارة إلى إقامة الشعر على أشطر غير متساوية، تفعيلاتها غير متناسقة في العدد؛ لأنني أنفر من التناظر وأتعطش إلى هدمه والثورة عليه..”. نازك الملائكة ـ قضايا الشعر المعاصر إذا كان الخلاف ممكناً حول أولوية نازك في كتابة الشعر الحر وريادته لتنازعها مع السياب في ذلك، فإن ريادتها للتنظير النقدي لهذا الشعر ليست محل خلاف، فكتابها “قضايا الشعر المعاصر” الصادر عام 1962 تعود كتابة فصوله ونشرها في الصحافة إلى عقد الخمسينيات، فهو أول كتاب نظري نقدي يضع قواعد ومبررات لظهور حركة الشعر الحر، ويبحث في الأسباب الفنية والاجتماعية وراءها، ويناقش أزمة القصيدة الحرة ومزالقها ومزاياها الموسيقية والموضوعية ومشكلات تلقيها. تعديلات لاحقة إن ظهور كتاب مكرس للتنظير لهذا الشكل الجديد من الشعر يعد مبكرا إذا ما عدنا لتاريخ محاولة نازك والسياب في كتابة الشعر والمحددة بعام 1947، وليس في المكتبة النقدية جهد واضح باستثناء دراسات نقدية متفرقة اتسم أغلبها بالروح السجالية التي فرضتها المعارك حول شرعية القصيدة الحرة وانقسام الآراء حولها بحدة وصلت ذروتها في مصر والعراق ولبنان خاصة، ودخلت فيها خطابات التخوين والتهم بالتمرد والتخريب، ولم يعترف بها بعد رسميا في الدراسات والبحوث الأكاديمية والملتقيات الشعرية. وقد عادت الشاعرة بعد اثنتي عشرة سنة من صدور طبعة الكتاب الأولى لتضيف إليه مقدمة جديدة تتصل بعلاقة الشعر الحر بالتراث العربي والبند خاصة، والذي أكدت أنها والسياب لم يطلعا على نماذجه عند كتابة قصائدهما الحرة الأولى رغم ما فيه من مزايا تقترب من الشعر الحر، كالوزنية غير الثابتة في عدد التفعيلات، واستمرار البيت كشطر أو سطر مستمر غير مستقل عما بعده، ونبْذ القافية نبذا تاماً. كما تناولت بدايات الشعر الحر تاريخيا، وذكرت بعض التجارب المتداولة فيه قبل كتابة قصيدتيهما: هي والسياب. ومنها قصيدة لبديع حقي، وأخرى لعراقي وقّع بالأحرف الأولى عام 1921، ونوهت بأسماء شعراء لهم تجارب مماثلة، كأحمد علي باكثير وعرار ومحمد فريد أبو حديد ولويس عوض. لكنها استدركت على هذه التجارب بالقول إنها “مرت مرور ا صامتا. ولم تكن مصحوبة بدعوة رسمية” لذا وصفتْها بأنها “إرهاصات تتنبأ بقرب ظهور حركة الشعر الحر”، بينما تضع شروطا أربعة توحي بانها تنطبق عليها وحدها لا على من ذكرتْ من سابقيها، مثل أن يكون الشاعر واعيا بما يفعل، وأن تصحب تجربته الشعرية دعوة إلى استعمال هذا اللون، وأن تثير دعوته صدى لدى النقاد والقراء، وأن تلقى استجابة واسعة النطاق عربيا. ومما عدلت فيه بعض آرائها الواردة في طبعة الكتاب الاولى ما يتصل بالبحور التي يمكن كتابة الشعر الحر بها؛ فقد قصرتها أولا على البحور الصافية أي ذات التفعيلة الواحدة المتكررة كالرمل والهزج والرجز، لكنها توسعت هنا لمناقشة بعض التجارب للسياب خاصة في الكتابة على البحور الممزوجة، وخف تحفظها القديم شيئا ما، وكذلك في شأن تشكيلات التفعيلات غير المتجانسة حيث كانت ترى ضرورة توحّد الأضرب في أبيات القصيدة، لكنها توسعت هنا تاركة احتمال أن يخرج الشاعر على ذلك في بعض الحالات في شيء من الاحتراس! وأكدت تفاؤلها الحذر بمستقبل الشعر الحر. مقاومة الجمهور في فصل عن “الشعر الحر والجمهور” تشخص نازك الملائكة مقاومة الجمهور العربي لحركة الشعر (الحر) عند ظهورها، وعللت رفض الجمهور بأنه لا يتقبل الشعر الجديد و”لا يحاول فهمه”، وراحت تستقصي أسباب هذا الموقف الرافض؛ فوجدت أن جزءا منه سببه (التأخر) في ثقافة الجمهور ووعيه الشعري والأدبي وذوقه قياسا إلى شعراء الشباب. ولكنها لا ترى مبررا في التهجم على الجمهور؛ لأن تأخره يستوجب منا أن نعلّمه، أما مقاومته للشعر الحر فهي ترجعها إلى ثلاثة عوامل: 1 ـ ما يتصل بطبيعة الشعر الحر واختلافها عن طبيعة أسلوب الشطرين. 2 ـ ما ينشأ من ظروف الشعر العربي في الفترة التي ولد فيها الشعر الحر. 3 ـ ما يعود الى اهمال الشعراء وعدم عنايتهم بتهذيب لغتهم وضعف أسماعهم الموسيقية وقلة معرفتهم بالشعر العربي. لكن نازك ظلت على اعتقاد راسخ بالتوصيل الشفاهي للشعر، وطالبت الشعراء بمطالب فنية، ما هي إلا بقايا للذا كرة الشفاهية. كما في رفضها للتدوير في الشعر. فالقصيدة المدورة في رأيها تُتعب السمع وتجعل التنفس صعبا؛ لأن الوقفات معدومة، كما ان تواتر التفعيلات الكثيرة مستحيل برأيها لأنه يتعارض مع التنفس عند الإلقاء، وحتى الشعر الحر يعاني عندها من آفة التدفق الذي ترى أنه يجعل المرء يحس عند القراءة وكأنه يجري في معترك لاهث! وتلك المبررات تعكس وعي نازك بنمط من الشعر يكتبه الشعراء للإلقاء، أو يلبي حاجات الاستماع اليه والتلذذ بجرس كلماته. إن نازك كما حدثتنا عن (جمهور) عام متخيل، سوف تحدثنا عن الأذن العربية وقوانينها بشكل عام أيضا.. فالأذن العربية كما تقول، تنفر بطبعها من أن ترد تشكيلتان في القصيدة الواحدة. وتجزم بأن الشعر الحر ليس خروجا على قوانين الأذن العربية، كما تحدثنا عن (سمع شعري) يكتسبه المرء ليدرك التنافر بين التشكيلات المختلطة. ويمكن أن نرد تعويلها عل التواصل السمعي والإلقاء الشفاهي للشعر إلى كونها اعتبرت الشعر الحر ظاهرة عروضية قبل كل شيء! وصرحت بأن “حركة الشعر الحر لم تصدر عن إهمال للعروض القديم.. فنظرت فيه متأملة.. واستعانت ببعض تفاصيله على إحداث تجديد يساعد الشاعر المعاصر على حرية التعبير وإطالة العبارة، وتقصيرها بحسب مقتضى الحال” وهذا يفسر موقفها من قصيدة النثر التي اعتبرتها نثرا ووصفتها بأنها بدعة غريبة وأنها خواطر ولا يجب كتابتها أشطرا كالشعر الحر! دون الانتباه إلى مبرراتها الإيقاعية والرؤيوية واللغوية. تجديد وتجاوز لقد تقدم منظور نازك النقدي على معاصريها كثيرا حين نبهت صراحة الى ان الموضوع “أتفه عناصر القصيدة” وان الهيكل (الذي تعني به الأسلوب الذي يختاره الشاعر لعرض الموضوع) هو أهم عناصر القصيدة. فالقصيدة عندها “ليست موضوعا وحسب، وإنما هي موضوع مبني في هيكل”. فهي ترى بدءا أن عالم القصيدة خاص، منفصل عن عالم الشاعر. وهذا يرتب أن يكون لها كيانها الخاص المنعزل عن المبدع، وعلى مستوى التلقي يوجب قراءةً تفصل بين النص ومبدعه، أو بين عالم القصيدة وعالم الشاعر. وإذا كانت نازك ترفض اجتماعية الأدب كالتزام أو إلزام، وترى أن للأدب كيانا خاصا مستقلا، فانها لا تنكر أهمية التلقي الجمعي للجمهور في تزكية (والحكم على مصداقية) النوع الأدبي عامة، والشكل الشعري خاصة. وباستخدام معيارها الفني استطاعت نازك الملائكة أن تتلمس (الأثر) أي الوقع المتحصل من تغيير أفق تلقي الشعر؛ فدرست في فصل مهم مبكر من كتابها “قضايا الشعر المعاصر” ما أسمته: (الشعر الحر باعتبار أثره) مازجةً بين محوري التوصيل والتلقي، رافضة الأشكال الشعرية المقترحة كقصيدة النثر، والقصيدة المدورة، وطريقة كتابة الشعر المترجم كالشعر العربي في نظامه البيتي. وكذلك مصنفة الأخطاء العروضية للشعراء، وبعضها يدخل في تغيير البنى الإيقاعية كتطوير البيت بتكثير تفعيلاته، أو استثمار الجوازات العروضية وبذلك خلطت ما هو فني بما هو جمالي. واذا كان إقصاء الهوامش والحواشي يتم لإنجاز متعة القراءة كجزء من تقاليدها أو أعرافها، فإن نازك تدعو الى إقصاء أكثر استراتيجية يتصل بموجهات القراءة ذاتها، وهو ما تسميه: المعلومات الخارجية التي لا يحتاجها القارئ لتساعده على فهم القصيدة. وهي تفاصيل سياقية عارضة تتسع لتشمل اللغة والغريب من الصور والصفات وغيرها.. كما تنبه على استبعاد النقد التاريخي الذي يهتم بحياة المؤلف وسيرته دون نصه، بل تحذر نازك من أية إشارة بيئية تعترض تحليل النص وتذوقه. وفي مجال مسؤولية الناقد المواكب للشعر الحر ترى أنه لا بد له من التنبه إلى الأساليب وليس الاكتفاء بالمضامين التي تحملها القصائد، وكذلك التنبيه على الأخطاء اللغوية؛ لأنها تولي الشكل أهمية على حساب المضمون كرد فعل على الدعوات المسيِّسة للأدب وخدمته للأفكار. ولذا نصت على أن الهيكل ـ وتعني به الأسلوب الذي يختاره الشاعر لعرض أفكاره ـ هو أهم عناصر القصيدة وأكثرها تأثيرا فيها ووظيفته هي توحيدها بنائيا. ووضعت للهيكل صفاتٍ أربعا هي: التماسك والصلابة والكفاءة والتعادل. وصنفت ثلاثة أنواع من الهياكل مختلفة الحركة في القصيدة،هي الهيكل المسطح الخالي من الحركة والزمن، والهرمي المستند إلى الحركة والزمن ويتضمن حادثة أو فعلا تتحرك الشخصيات في إطارها، والهيكل الذهني المجرد الذي يقدم الحركة دون اقتران بالزمن، وتورد أمثلة لكل نوع من الهياكل بنماذج من الشعر الحديث. لقد أرادت نازك بكتابها هذا تدشين مشروع نقدي نظري وتطبيقي يواكب التجديد الذي مثّله الشعر الحر، وواصلت ذلك المشروع بكتابها اللاحق والمهم “سايكولوجية الشعر ومقالات أخرى” الذي رأت أنه يكاد أن يكون جزءا ثانيا من قضايا الشعر المعاصر بإضافة مباحث عن الشعر واللغة، وعلاقته بالمأثورات الشعبية والحالة النفسية للشاعر، وغيرها من الموضوعات معززة بتطبيقات تحليلية تنم عن دربة وذوق وحس وهبتها لها تجربتها الشعرية المخلصة في تجديد القصيدة وإنقاذها من التناظر والتماثل والاجترار ولو جزئيا وبحريّة محدودة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©