الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مكتبة الإسكندرية.. أسطورة الانبعاث

مكتبة الإسكندرية.. أسطورة الانبعاث
29 مارس 2012
خاضت مكتبة الإسكندرية القديمة لعبة الاحتراق والنهوض مرات عديدة، ففي كل مرة كانت تحرق فيها كانت تنتفض من رمادها كطائر الفينيق وتعود إلى الحياة من جديد، في تأكيد شبه أسطوري على أن المعرفة لا تموت. ويختلف المؤرخون على الشخص الذي بنى مكتبة الإسكندرية الملَكية أو المكتبة العظمى أو مكتبة الإسكندرية، فما هي إلا أسماء لها، وعلى السنة التي أنشئت فيها (هناك من يقول إنها أنشئت في عام 330 قبل الميلاد، وهناك من يقول أنه تم إنشائها عام 288 قبل الميلاد)، إلا أنهم يتفقون على أمرين: الأول أنها أعظم مكتبات العالم القديم، والثاني أنها احترقت أكثر من مرة لكن عمرو بن العاص بريء من حرقها براءة الذئب من دم ابن يعقوب. يجمع أغلب الباحثين على أن مكتبة الإسكندرية القديمة احترقت في العام ‏48‏ ق‏.‏ م، وحارقها هو يوليوس قيصر الذي قام بحرق 101 سفينة كانت موجودة على شاطئ البحر المتوسط، فامتدت النيران إلى المكتبة وأحرقتها، ويرى البعض أنها دمرت... كان ذاك حريقها الأول. أما الثاني، فقد أخذ معه كتب مكتبة برغاموس التي نقلتها كليوباترا لتضيفها إلى مكتبة الإسكندرية، لكن الحرب التي اشتعلت أدت إلى تلفها قبل أن تصل إلى المكتبة، ثم امتد الحريق إلى بناية مكتبة المتحف نفسها. عموماً فقد قام أغسطس قيصر نفسه بإعادة إعمار المكتبة سنة 12 ق.م. ويأتي الحريق الثالث على لسان الموسوعة البريطانية التي تذكر أن زنوبيا ملكة تدمر استولت على مصر سنة 269م، وقامت بتدمير المتحف سنة 270م. وكذلك المكتبة. الحريق الرابع حدث سنة 296م على الأغلب، واحدث تدميراً بالمكتبة. أما الحريق الخامس، فكان بأمر من الامبراطور جوفيان (363 ـ 364)م ونتيجة لرغبة ملحة لزوجته في إحراق المعبد والكتب التي فيه، أي في مكتبته. وأما السادس، فجاء على أيدي مسيحيين حطموا مكتبة المعبد الوثني في اضطرابات سنة 391م أي في نهاية القرن الرابع الميلاد في زمن الامبراطور ثيودسيوس الاول الذي أصدر أمراً بالقضاء على الوثنية، فقام بطريارك الاسكندرية ثيوفليوس بجمع غوغاء المسيحيين والهجوم على معبد السيرابيوم ومكتبته ودمروها. وتبقى حكاية حرق عمرو بن العاص رضي الله عنه التي تستند لرواية عبد اللطيف البغدادي المتوفى 629 هجرية، وعلي بن يوسف القفطي المتوفي سنة 646 التي تصدى لها عدد كبير من الباحثين. ويرى مؤرخون كثر أن البغدادي عاش في القرن السابع الهجري، بينما إحراق المسلمين لمكتبة الاسكندرية يفترض به ان يكون قد وقع في الربع الأول من القرن الاول الهجري! فكيف وصلت هذه المعلومة إلى البغدادي دون ان يذكرها احد من مؤرخي المسلمين المعاصرين أو القريبين من الحدث ولا من مؤرخي المسيحيين ولا من مؤرخي اليهود! فتهمة الحرق غابت عن تواريخ الطبري واليعقوبي والبلاذري وسعيد بن بطريق وابن عبد الحكم والكندي وغيرهم. وكذلك حنا النقيوس وافتيكيوس بطريرك الاسكندرية الذي توسع في الكلام عن استيلاء المسلمين على مصر ولم يذكر التهمة المذكورة. يضاف لذلك أن أبو الفرج الملطي عاش في القرن السابع الهجري أي بعد حوالي سبعة قرون من الحادثة فهو لا يستند إلى دليل معتبر في إسناد روايته ولم يذكر أي مصدر يستند عليه في روايته هذه. أما يحيى النحوي فهو نفسه يحيى الغراماطيقي الذي ذكره الملطي والذي توفي قبل الفتح الاسلامي لمصر سنة 642م. ورواية القفطي فيها كذب صريح منسوب ليحيى النحوي، وهو ما ورد فيها، قوله: “وهذه الكتب لم تزل محروسة محفوظة يراعيها كل من يلي الأمر من الملوك وأتباعهم إلى وقتنا هذا”، حيث إن مكتبة الاسكندرية أحرقت ودمرت قبل الفتح الاسلامي حوالي ست مرات! ويجمع باحثون على أن السبب وراء إلصاق هذه التهمة بالمسلمين هو الحروب الصليبية، فقد ظهرت هذه الفرية في فترة تحول اتجاه الحروب الصليبية من بيت المقدس الى مصر، فكان ظهورها من باب التعبئة الفكرية للصليبيين داخل مصر وخارجها من اجل اقتحام مصر واحتلالها. وتعلق أستاذة الحضارة الفرنسية أ. د. زينب عبد العزيز على هذه الفرية قائلة: “تقول الوثيقة الوحيدة التى استندوا إليها، وهى بقلم ابن القفطي، فى القرن الثالث عشر الميلادي، فى كتابه: “تأريخ الحكماء”: “إن الخليفة عمر قد أصدر أوامره للقائد عمرو بن العاص قائلا: “فيما يتعلق بالكتب التى ذكرتها، فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنىً، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليها، فتقدم بإعدامها. فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمامات الإسكندرية وإحراقها في مواقدها كوقود لتسخين المياه. وقد استغرق حرقها ستة أشهر كاملة”. وعلى طريقة من فمك أدينك، تبين عبر شهادات مؤرخين وكتاب أجانب كذب هذه التهمة، ففي كتاب بعنوان “شمس الله تشرق على الغرب” تقول الباحثة الألمانية سيجريد هونكه: “وعندما دخل العرب مدينة الإسكندرية عام 640، لم يكن بها أية مكتبة عامة. أما حريق المكتبة الكبرى بالاسكندرية الذي تم إلصاقه بعد خمسة قرون بالقائد عمرو، فالعديد من الأبحاث الدقيقة سمحت بتأكيد أن هذه مجرد فرية، ويا لها من فرية حقيرة.. وكم كانت سعادة من افتروها لاتهام “البرابرة”! والعكس هو الصحيح، ففي مسيرته الفاتحة المنتصرة، قدم فاتح الإسكندرية العديد من النماذج على عظمة التسامح لديه، فقد منع القيام بنهب وهدم المدن، ثم، ويا لعظمة وغرابة ما أقدم عليه: فقد سمح لرعاياه الجدد بممارسة عبادتهم التقليدية”.. أي أن المسلمين لم يقوموا بأي عملية لاقتلاع الآخر وسمحوا للمسيحيين واليهود بممارسة عباداتهم!. ويقول الفونس دان (A. Dain) في كتابه المعنون “المخطوطات”: “يقال عادة أن جنود الخليفة عمر أحرقوا معبد السيرابيوم وما كان يضمه من مكتبة شهيرة في هذه المدينة. وقد صدّقت تلك المقولة أنا شخصيا، إلا أنه يجب علىّ أن أعترف بخطئي، إذ ما أن رحت أتبين الأمر حتى وجدت أن من قام فعلا بحرق مكتبة الإسكندرية هم مسيحيو الأسقف تيوفيلوس. وهنا لا بد من توضيح أنه كان بالإسكندرية مكتبتين: مكتبة البروخيون، وكانت في وسط المدينة، وقد هدمها أورليان سنة 273 حينما استولى على المدينة، ومكتبة السيرابيوم، التي هدمها الأسقف تيوفيلوس عام 391. ويقول القس أوروز، مؤلف “كتب ضد الوثنيين” عام 417، إنه عند مروره بالإسكندرية رأى “دواليب الكتب التي أفرغها رجالنا من محتوياتها” (الكتاب السادس، الفصل الخامس عشر)، وهذه الملاحظة سابقة على الفتح الإسلامي الذي حدث في منتصف القرن السابع” (صفحة 189). وقد أورد المؤرخ إدوارد جيبون: “ان من حرق مكتبة الإسكندرية هو الأسقف تيوفيلوس، العدو اللدود للسلام والفضيلة، ذلك الجريء الشرير ذو الأيادي الملطخة بالدماء والذهب على التوالى، وهادم السيرابيوم “ (قفول وسقوط الإمبراطورية الرومانية، الفصل 28). أما عن ذلك النص العربي المزعوم، فأول ما نبدأ به هو رأي المؤرخ إدوارد جيبون، في مرجعه سابق الذكر نفسه، حيث يقول: “إن قرار الخليفة عمر يتناقض مع المبادئ الأصلية والسلمية لعلماء المسلمين، الذين يرفضون قطعاً حرق أي نصوص دينية يهودية أو مسيحية تم الاستيلاء عليها في المعارك الحربية”.. وهذا مجرد تعليق منطقي واحد، يتمشى مع كل ما يقوله الأمناء من علماء الغرب المسيحي عن أخلاقيات المسلمين وتصرفاتهم في البلدان التي حكموها. وإذا ما نظرنا فيمن قال هذه المعلومة، وهو جمال الدين أبى الحسن على بن يوسف القفطي (568 هـ /1172م ـ 646هـ /1248م)، لوجدنا في موقع “المكتبة الوطنية لعلم الطب” في مدينة أوكسفورد البريطانية: “أن له 26 مؤلفا، لم يبق منها سوى اثنين ، أحدهما “تأريخ الحكماء” الوارد فيه هذا النص، غير أن هذا الكتاب ليس النص الأصلي وإنما تلخيص له بقلم الزَوْزَني. والكتاب يضم 414 سيرة ذاتية مختصرة لأطباء وفلاسفة وعلماء فلك، إضافة إلى العديد من الاستشهادات المأخوذة عن كتّاب يونانيين لم يحتفظ بها في الكتاب الأصلي”! وتحتفظ المكتبة الوطنية لعلم الطب بنسخة منه تحت رقم (Ms A 72). وقد قام بترجمته إلى الألمانية و طبعه العالم يوليوس ليبّرت في مدينة لايبزيج سنة 1903. ومن الواضح أن النص المزعوم الوارد في كتاب القفطي كان عبارة عن استشهاد من الاستشهادات المنقولة عن أحد اليونانيين المسيحيين، الذين يعنيهم تبرئة بنى جلدتهم من كل ما اقترفوه من حرائق وتدمير واقتلاع لتراث حضارة بأسرها. خاصة أن الفترة التي كان فيها ابن القفطي على قيد الحياة أو حتى السنة التى تم فيها عمل نسخة من ذلك الكتاب بعد وفاته بعام، بقلم الزَوْزَني، فهي تقع في قلب فترة الحروب الصليبية بكل ما واكبها من محاولات للنيل من الإسلام والمسلمين. يقول غوستاف لوبون: “وأما إحراق مكتبة الإسكندرية المزعوم فمن الأعمال الهمجية التي تأباها عادات العرب المسلمين.. ولا شيء أسهل من أن نثبت بما لدينا من الأدلة الواضحة أن النصارى هم الذين أحرقوا كتب المشركين في الإسكندرية قبل الفتح العربي الإسلامي”. بينما اعتبر ريسلر أن “حريق الإسكندرية أسطورة” (حضارة العرب 101 و213). فيما قال المؤرخ الإنجليزي - كما نقل العقاد - إدوراد جيبون: “أما أنا من جانبي، فإنني شديد الميل إلى انكار الحادثة وتوابعها على السواء؛ لأن الحادثة لعجيبة في الحقيقة كما يقول مؤرخوها”. والدكتور الفرد بتلر المؤرخ الإنجليزي الذي أسهب في تاريخ فتح العرب لمصر والإسكندرية يلخص الحكاية وينقضها، ثم يأتي بأدلة قوية وتاريخية في نسف القصة من أصلها!. ومثل كيسلر يراها المستشرق كازانوفا “أسطورة، ويقول إنها نشأت بعد تاريخ الحادثة بستة قرون!”. ويخلص العقاد من كل ما سبق إلى أن “كذب هذه الحكاية أرجح من صدقها، وأنها موضوعة في القرن الذي كتبت فيه ولم تتصل بالأزمنة السابقة بسند صحيح، وربما كانت مدسوسة على الرواية المتأخرين للتشهير بالخليفة المسلم!”. (عبقرية عمر - 207). ومؤخراً، أكد الدكتور يوسف زيدان مدير مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية، أن العرب أبرياء من تهمة إحراق المكتبة القديمة، وقال خلال ندوة عقدها المركز: إن الكاتب الراحل عبدالرحمن بدوي حسم الجدل في هذه القضية منذ أكثر من 50 عاما، موضحا أن الكاتب الراحل كشف عن أن حريق المكتبة القديمة وقع بعد حريق أسطول يوليوس قيصر، الذي امتد إلي المكتبة، كما أن المسؤول عن السيرابيوم ويدعي “ثيوفيلوس” كان يكره الوثنية، فحرق السيرابيوم، كما حدث حريق آخر في “الموسيون” الذي كان يرأسه راهب في ذلك الوقت، وهذه الحوادث الثلاثة كانت السبب الحقيقي وراء حريق مكتبة الإسكندرية، الأمر الذي يبرئ تماما عمرو بن العاص. ولفت زيدان إلى أن كتاب “بدوي” أوضح دون شك أنه لم تكن هناك مكتبة من الأصل وقت دخول العرب إلى مصر، فكيف يتم اتهامهم بحرقها؟! لا تنتهي سلسلة الباحثين والمؤرخين والكتاب الذين تناولوا هذا الموضوع بالتحليل والدراسة، وما أوردناه ليس إلا غيض من فيض.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©