الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التاريخ هاجس الجنوبي

التاريخ هاجس الجنوبي
24 يوليو 2008 00:19
لم يكن أمل دنقل شاعراً سياسياً وفق الوعي السائد لهذا المصطلح· ليس لأنه قال شعراً في الحب والموت والطفولة، فمثل هذا الرسم والتصنيف لا يليق بإنجازه الابداعي· كان التاريخ بالمعنى العميق، هاجساً أساسياً في مساره، تاريخ الفرد المندغم بتاريخ الجماعة اندغام الخاص بالعام، من غير تنظيرات أو فواصل مصطنعة· كان معفّراً بتراب الأرض ووحل التاريخ· أليس الشعر هو التاريخ نفسه بأدوات الخيال والوجدان، أليس الشعر هو تلك السيرة الخاصة للذات وتمزقاتها في مرآة حركة الزمن والتاريخ، كل حسب رؤيته وأسلوبه؟ كان الشعر لدى أمل قراءة للمعيش ونبوءة بالقادم، لكنه من فرط توحّده بنبض المكان والبشر والأشياء، ليست نبوءة المتعالي أو المتعالم· كان أكثر بساطة وصدقاً، كأنما هذا الجنوبي، كائن السلالات الناريّة لا يستقر إلا على القلق والرفض· ''لا تدخلوا معمدانيّة الماء بل معمدانيّة النار كونوا لها الحطب المشتهى والقلوب''· تشرد الشاعر الجنوبي في واقع الحياة اليوميّة بتفاصيلها، كما تشرد في الكتابة وسط زوابع رموزه وأساطيره وأقنعته· من العصر الفرعوني حتى العهود العربيّة اللاحقة، إلى الراهن والطفولة الجنوبيّة التي تهيمن على الشاعر أكثر وهو على عتبات النهاية في ''غرفة رقم ·''8 عبر هذا الترحّل في المكان والزمان الشعريّين، أخضع أمل دنقل تلك الأزمنة بشخوصها وشعائرها لما يرتئيه من معضلات واقعه وزمنه· فكان الواقع العربي معروضاً في الضوء الباهر للتاريخ؛ فيما يشبه الدراما المسرحيّة حيث الماضي والحاضر يتبادلان الأدوار والمواقع، في لعبة أقنعة محبوكة لصنيع الفنّان وقدرته على إدارة المصائر والانقلابات في الذات والتاريخ· لعبة تنزف مفارقة وألماً، وتفيض حناناً، وهو ما يكشف عنه الشاعر حتى في هيجان الغضب والاحباط· ''لو كنتُ ريحاً لاختنقتم حين لا تهب لو كنت نوحاً فوق لجة الطوفان؛ طردتكم من السفينة لو كنت نيرون لطهرّت قلوبكم على ألسنة اللهب لكنني أحبكم···'' تذكرنا هذه العبارة، بعبارة (آخاب) بطل رواية ''موبي ديك'''' ''لو كنت ريحاً لن أهبّ على هذا العالم'' مثل هذه المقاطع والقصائد العنيفة يمتلئ بها المتن الشعري، إن لم تكن لُحمته وسُداه· فهناك المدن التي يتقاذفها القراصنة المخمورون كما يتقاذفون زجاجة الخمر بين أقدامهم· حتى في مواقف الحب، هناك نوع من عنف خبئ ورغبة تدمير· انه الارتطام بالعالم وقيمه وأنماطه· تتبدل الأقنعة والعصور، لكنّ روح النص وهواجسه وأحلامه وانكساراته، تبقى واحدة، في منعرجات هذه الرحلة المرهقة·· البحث عن المعنى في ظلمات العدَم الماثل دائماً· وفي محطات هذا الترحال، تستوي لغة التعبير الشعري وتنضج من محطة إلى أخرى، ليس بالضرورة في خط تصاعدي، لكن ''زرقاء اليمامة'' حيث الشاعر ما زال يختبر أدواته وموهبته الأكيدة، ليست هي (حرب البسوس) ذات البناء الأكثر تركيباً وتعقيداً بالمعنى الفني، مشدودةً إلى عصب الفن الكبير: ''هل تترّنم قيثارة الصمت إلا إذا عادت القوس تذرع أوتارها العصبيّة والصدر حتى متى يتحمّل أن يحبس القلب·· قلبي الذي يشبه الطائر الدمويّ الشريد''
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©