السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العقد الأدبي.. أممي لم يخترعه أحد

العقد الأدبي.. أممي لم يخترعه أحد
9 ابريل 2014 20:43
لنختصر ونقول إن كل العقود محددة إلا العقد الأدبي، فهو وحده العقد الخالد غير المحدد بمدة زمنية، وهو الوحيد الذي يلتزم به الأدباء، واعين أو غير واعين، من غير أن يطلعوا على بنوده. وحتى اليوم لم تسجل مخالفة واحدة، منذ بداية هذا العقد قبل سبعة آلاف سنة، من أيام إينانا، وحتى آخر أديب من الأدباء الأحياء في عالم اليوم، أما الذين خرجوا عن العقد فلم يعد لهم ذكر. حنا عبود العقود المحددة ولنبدأ من العقود المحددة. فهي عقود توضع بين طرفين، فإن تعددت الأطراف سميت معاهدة. والعقود اليوم متنوعة لا تكاد تحصيها موسوعة بشرية، فهناك العقد السياسي والعقد الاجتماعي والعقد الصناعي والعقد التجاري والعقد الزراعي، وعقد العمل وعقد خدمة وعقد زواج... وهناك عقود تبرم بين التروستات والكارتلات الكبرى، ثم ظهرت الهيمنة العالمية للقوى الكبرى فصارت الرقيب والحسيب. كل هذه العقود لها مدة زمنية، فإذا انتهت المدة لم يعد للعقد مفعول، إلا إذا كان فيه بند ينص على تجديده تلقائياً. وربما يتراءى لنا أن «العقد الاجتماعي» المتمثل بالدساتير والأنظمة ليس من العقود الزمنية، بسبب استمرار المجتمع، حتى بعد الكوارث الطبيعية أو الكوارث التي يوقعها البشر في أنفسهم، وليس هذا صحيحاً، فأين، مثلاً، العقود المبرمة مع الهنود الحمر، بعد أن أنزل الوافدون الجدد فيهم الكوارث؟ معظم العقود حديثة، وأعظم البلدان شهرة بالعقود إيطاليا في عصر النهضة، وبخاصة في القرن الرابع عشر، وأذكر أننا حتى في القرى الصغيرة جداً إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، كنا نقول عن أي اتفاق بين اثنين، بأنه «كونتراتو» إلى درجة أن ثلاثة كانوا يخرجون معاً إلى الصيد، فنقول خرج «الكونتراتو» إلى الصيد، مما يدل أن الكلمة الإيطالية صارت عالمية، وانتشرت في كل زوايا الأرض، ما دامت وصلت إلى القرى النائية جداً في الأرياف المهجورة في ظل الانتداب الفرنسي. وفي القرون التالية لعصر النهضة برز في فلسفة العقود الاجتماعية كل من توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو. واعتقد هؤلاء، وسواهم أيضاً، أن العقد الاجتماعي ضروري لاستمرار المجتمع، وأنه لا مجتمع من دون عقد بين القوة المطلقة المتمثلة بالسلطة وبين الشعب. وانتهوا إلى أن العقد الاجتماعي أبدي كركن للمجتمع لا يمكن الاستغناء عنه. بيد أن الانتفاضات الجماهيرية والتمردات الطبقية والثورات الشعبية أثبتت أن العقود من صنع القوى المهيمنة، فهي وقتية ينقضها من شعروا بالغبن فيها. وما الثورات الأميركية والفرنسية وما تلاها من ثورات في كل أرجاء المعمورة سوى احتجاج على العقود القائمة لتغييرها. هناك زعم، أو وهم، أن كل العقود مستوحاة من العقد المبرم بين «يهوه» وإبراهيم. إلا أن هذا العقد كان محصوراً جداً بناحية واحدة وهي الختان، حتى يعرف شعبه، فهو عقد تعرّف وليس عقد تصرّف، إنه اتفاق على علامة وليس اتفاقاً على علاقات اجتماعية. إن العقود المكتوبة بدأت في عصر النهضة، وبصورة خاصة في إيطاليا. تضخمت العقود في العصور الحديثة، حتى شملت دولاً عديدة، كالاتحاد الأميركي والاتحاد الإنكليزي (الكومنولث) والاتحاد الروسي (الاتحاد السوفيتي سابقاً) والاتحاد الخليجي... الخ. وعندما يشعر شعب، بأغلبيته أن العقد مجحف يسعى للتخلص منه بأي وسيلة، فقد انتقلت شعوب عدة من الاتحاد الروسي إلى الاتحاد الأوروبي، وكان الناس يلقون بأنفسهم من فوق جدار برلين هرباً من ذاك العقد، ولا زال الانتقال قائماً حتى اليوم، كما في جورجيا وأوكرانيا... ويبدو أن من المستحيل استمرار عقد يخل بأدنى مستويات الكرامة الإنسانية. وليست الحاجة المادية عاملاً أوحد، هناك حاجات معنوية كثيرة، كالحريات العامة والخاصة والكرامة البشرية... العقد الأدبي نصل الآن إلى العقد الأدبي، العقد المستبد إلى أبعد حدود الاستبداد، لم يفرضه أحد ولا أشرف على تطبيقه أحد، ومع ذلك يعاقب مخالفه بأقسى عقوبة في التاريخ: بالنسيان، فيشطب من سجل الأدب. بالطبع لا نقصد العقود التي تحدث عنها الأدب، كالعقد بين شايلوك وأنطونيو، أو بين فاوست ومفيستوفيلس... فهناك عقود كثيرة تحدث عنها الأدب، من أمثال العقد بين ملك الجحيم هاديس والموسيقار المشهور أورفيوس عندما أراد استرجاع زوجته من الجحيم، فاشترط هاديس أنه إن التفت إلى الخلف قبل الوصول إلى الأرض عادت زوجته إلى مملكته المظلمة، وهذا ما يذكرنا بالعقد المفروض على أهل سدوم وعمورة، فلما التفتت زوجة نوح إلى الخلف تحولت إلى عمود ملح... نقصد بالعقد الأدبي تلك التقاليد التي صاغتها البشرية في موقفها من الكون والحياة والمجتمع. إنه الموقف الذي عبر ويعبر عنه الأدباء... إنه الموقف الأدبي الذي لا يخالفه - طوعاً- أي أديب في العالم مهما كانت قوميته أو عرقه أو جنسه أو فرديته. ولنوجز بنود هذا العقد الأدبي: 1 - يقسم الكون إلى ثلاثة عوالم: الفوقي والسفلي والأرضي. ولا توجد عوالم أخرى يتعامل معها الأدب، لا من قريب ولا من بعيد. فالخيال البشري لم يضف عالماً ولم يحذف عالماً من هذا الكون. 2- الفوقي موطن المقدسين والمؤلهين فقط، ولا يحق لأحد استيطانها من العالَميْن: الجهنمي أو الأرضي. 3 - السفلي موطن الأشرار والملعونين، ولا يسمح المقدسون لأنفسهم أن يستوطنوها، قد يزورونها كما فعلت إينانا، ولكنهم لن يسكنوا فيها. 4 - الأرضي موطن البشر، وهي العالم الوحيد المباح لكل من سكان العالمين السماوي والجهنمي. وبما أن العالمين المذكورين متحاربان فقد تحوّلت الأرض إلى ميدان صراع بينهما. وليت الحرب اقتصرت على الطرفين، بل راح كل فريق يقنع سكان الأرض بالانضمام إليه، فانضم العظماء والأبطال والنبلاء... إلى العالم الفوقي، وانضم الرعاع والساقطون والخبثاء والنمامون... إلى العالم السفلي. 5 - بحسب ولاء سكان الأرض يكون مستقرهم الأخير، إما إلى العالم السفلي، وإما إلى السهول الإيليزية، أو الجنة المختلف على موقعها في العالم الفوقي... بحسب مفهوم شعب هذه الأمة أو تلك. 6 - يحق للإنسان أن يطمح في السير على درب الألوهية... وهذا يعود إلى إرادته وحده، وبحسب اجتهاده وجدّه يتسع له الطريق. وهو طموح النبلاء وأصحاب الإرادة القوية. هذه أهم بنود العقد، ولو سردنا كل المواد وما يتفرع عنها لاحتاجت إلى الكثير من الجهد في الجمع والترتيب. وهناك من الدقائق والفروع ما لا يستطيع استيعابه أضخم الدساتير الحديثة. لم تؤلف هذا العقد جمعية تأسيسية ولا لجنة قانونية ولا مجلس محافظة ولا مختار قرية... إنه عمل تراكمي استغرق ظهوره مئات السنين. وهو عالمي، بل لا يوجد عقد عالمي مثل هذا العقد، فلا يوجد أدب في أي بقعة على الأرض يخالف هذا العقد. والملاحظ أنه في فترة تاريخية يظهر الالتزام بهذا العقد على المستوى العالمي، فعصر البطولة أو الفروسية واحد في كل أنحاء العالم. وعلى سبيل المثال نجد تقاليد الفروسية القديمة واحدة في كل أرجاء العالم، فلا فرق، في الآثار الأدبية، بين غالاهاد وعنترة... الأنواع الأدبية ظهر هذا العقد في الأنواع الأدبية. ومن هذه الأنواع نقتصر على التالي: ? الملحمة: مجموعات أو مجموعة بشرية بأبطالها وأفرادها تقوم بمغامرة تشترك فيها العوالم الثلاثة في البر (الإلياذة) أو البحر (الأوديسة) أو البحر والبر (الإنياذة) أو يقوم فرد بمغامرة خيالية في العوالم الثلاثة (الكوميديا الإلهية)... ? المأساة: تقع مع العظماء والأبطال في العالم الأرضي. كل هبوط من الأعلى إلى الأدنى، من عالم النور إلى عالم الظلام يعني حدوث مأساة. ومنذ القديم ظهر هذا الالتزام، فالمأساة تعني خسارة المكانة والمركز. تعني الخسارة المعنوية وليس الخسارة المادية، وإن كانت المادية مرتبطة بالمعنوية، فعندما يزاح صاحب المركز عن مركزه يواجه الدمار. حاول بعض الكتاب استخدام الأشخاص العاديين من المهمشين والمنبوذين والفقراء في المأساة فلم تنجح محاولتهم. ظلت المأساة سقوطاً للعظماء والأبطال والنبلاء، فليس للبائس ما يفقده. ? الملهاة: تدور في العالم الأرضي، فكل صعود من الأدنى إلى الأعلى يجلب الملهاة والسخرية والتهكم والضحك. فلنتصوّر فلاحاً موجيكاً روسياً في بلاط القيصر، وكيف يثير بحركاته وتصرفاته الضحك لدى المشاهدين. ولكن الملاحظ أن أبناء العالم السفلي، يحرم عليهم الوصول إلى العالم الفوقي، فلا يتخطون العالم الأرضي. وفي القرآن الكريم آية معبرة جداً: [ يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ] (الرحمن: 33) عندما يهبط العظيم تقع المأساة، وعندما يحاول الهزيل الارتقاء نجد أنفسنا أمام ملهاة ساخرة. ? الدراما: خاصة بالعلاقات المتنوعة بين البشر، سكان الأرض، فيختلط الذكاء بالغباء والفطنة بالغفلة والتضحية بالأنانية.... الخ. وتكون الدراما بعيدة عن العالمين الآخرين، فإن لم تفعل سقطت... وماذا عن الارتقاء والهبوط في الدراما؟ يكون هناك ارتقاء وهبوط ولكن في حدود العالم الأرضي، وعندما تتدخل أطراف من العالمين الآخرين فإن الكاتب يجعلها تتدخل عن طريق الاستبطان الذاتي والخيال البشري فقط، من دون أن تؤثر في مسيرة الدراما، وقد برعت الرواية الروسية في هذا المجال. هذا الترتيب كوني، ولكل عالم من هذه العوالم قوانينه المنصوص عنها في العقد، الذي لا يتنكر للمعالم الخاصة ولا حتى لخصوصية الكاتب نفسه... وهذا هو هامش الحرية المتروك للأديب، يلعب فيه بما اكتنز من ثقافة وأسلحة أخرى تغني العقد ولا تنقضه. الأدب والأيديولوجيا ماذا عن الأيديولوجيات التي يخترعها البشر، وما موقف الأدب منها؟ الأدب لا تهمه الأيديولوجيا، ولا ينصاع لمبادئها. له مبادئه، أو إذا تحدثنا بلسان تروتسكي قلنا إن له قوانينه الذاتية الخاصة. وقيل إن لكل كاتب أيديولوجيته، التي قد تكون مشتركة بينه وبين طبقة أو مجموعة... وقد تكون مجرد أيديولوجيا فردية... كل هذا غير هام في الأدب. فالأديب حرّ في كل شيء إلا في مخالفة العقد الأدبي. ومن هنا يتمايز أديب من أديب في التأتي والمعالجة، فقد ينجح في المصالحة بين أيديولوجيته والعقد الأدبي، وقد يفشل. والحكم على أدبه يؤخذ من موقفه الأدبي، ومدى التزامه بالعقد الذي يعمل من دون أطراف مشرفه على عمله. النقد الأدبي وحده ملتزم بالحكم في هذه القضايا، وليس الأيديولوجيا ولا السياسة ولا العقائد الواقعية وغير الواقعية ولا الجبروت ولا الكهنوت ولا أي شيء خارج القوانين المذكورة. ومن هذا الباب نعتبر المدارس الأدبية أيديولوجيات، ولكن من نوع خاص، من نوع فني صرف، لا تضر بالعمل الأدبي، بل قد تزيد من بريقه، ومن هنا لا توجد مخالفة للعقد لا من قبل الكلاسيكية ولا الرومانسية ولا التعبيرية ولا الانطباعية ولا الرمزية ولا الواقعية... الخ. الحكم في النهاية يرجع إلى بنود العقد التي يجب أن يعيها النقد الأدبي ويتقنها بمرونة فائقة. اعتذار هذه باقة من معالم العقد الأدبي، لم نتحدث فيها إلا عن القمم البارزة جداً، مهملين الخلجان والجزر والهضاب والتضاريس الأخرى لضيق المتاح.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©