الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

درس في السينما

درس في السينما
9 ابريل 2014 20:44
«على آخر نفس» (A bout de Soufflé) وباللغة الإنجليزية (Breathless)، وترجمة العنوان الحرفية للفيلم هو «اللاهث» أو «مقطوع النفس».. هو أول أفلام المخرج الفرنسي الشهير جان لوك غودار في المجال الدرامي الطويل، وكان في التاسعة والعشرين من العمر، ومع ذلك لم يعتبر نفسه وافداً جديداً على السينما. يقول جودار: «أنجزت الفيلم بعد عشر سنوات من الدراسة الجادة والكتابة النقدية لمجلة كاييه دو سينما، وبعد أن حققت خمسة أفلام قصيرة. إذن لم أكن مخرجاً جديداً، كنت كبيراً في السن». أمين صالح في أول أفلامه، نجح غودار في تقديم عمل يمثّل نقطة تحوّل في مسار السينما، واعتبر حدثاً سينمائياً مثيراً على المستوى العالمي، لدى عرضه لأول مرة في عام 1960. إنه الفيلم الذي ساهم في وضع الأساس للحركة السينمائية، المعروفة بالموجة الجديدة، التي هبت على فرنسا ثم العالم بأسره، وتحديد مظاهرها وخصائصها. عن فكرة كتبها المخرج فرانسوا تروفو، واستمدها من قصة واقعية عن لص أطلق النار على شرطي، وأرداه قتيلاً، أثناء قيادته سيارة كان قد سرقها ليزور أمه المريضة، حقق غودار فيلمه الأول هذا، الذي أهداه إلى شركة إنتاج أميركية (Monogram Pictures) تخصصت في تقديم أفلام رعب رخيصة، وأفلام بوليسية، في الأربعينيات من القرن الماضي. حكاية عادية غودار لم يحول القصة أو الفكرة إلى سيناريو كامل وتفصيلي، ربما لأنه أراد أن يحافظ على طزاجة وتلقائية الأداء، لذلك كان كل صباح يكتب المشاهد التي ينوي تصويرها في اليوم، ويزود الممثلين بحواراتهم قبيل تصوير اللقطات. ومن المعروف أن غودار صوّر معظم مشاهد الفيلم من دون استخدام الصوت، وكل الحوارات أعيد تسجيلها في ما بعد. الفيلم عن شاب، ميشيل (جان بول بلموندو) يعود من الهند الصينية وقد فقد إيمانه بقيم المجتمع البورجوازي وتحوّل إلى شخص عدمي، لا منتم، لا مبال، فوضوي. ذات يوم يسرق سيارة من عسكري أميركي بمساعدة صديقته التي سرعان ما يتجنبها ويهجرها. ينتقل من مرسيليا إلى باريس ليستحصل المال المستحق له من زميل له، والذي سيتيح له السفر إلى روما، وليلتقي من جديد بباتريشيا (جين سيبرغ) الطالبة الأميركية التي تدرس في السوربون، والتي تضطرلبيع الصحف في الشانزليزيه من أجل أن تغطي نفقات الدراسة، حالمةً بأن تصبح كاتبة. ميشيل يعثر على مسدس في علبة السيارة المسروقة، وعندما يستوقفه شرطي مرور في الطريق، يطلق عليه النار ثم يهرب. يصل إلى باريس، ويلتقي بباتريشيا. العلاقة بينهما مفككة وقلقة. ثمة تباين أو تعارض حاد بين باتريشيا، ذات السلوك السوي، المهتمة بدراستها وحياتها المهنية ومستقبلها، القادرة على التعبير عن نفسها بوضوح وفصاحة، وميشيل ذي السلوك الفوضوي، الذي يصر على أن يعيش حياته لحظة بلحظة، والذي لا يحسن التعبير عن نفسه، بل يتعثر بالكلام ويكرر كلماته. هذه الفروقات بينهما تساعد الجمهور على فهمهما معاً. إن مظهر باتريشيا يخفي واقع أنها مرتبطة، على نحو وثيق، بالعلاقات الاجتماعية التي يرغب ميشيل في الإفلات منها. ميشيل يسترجع دينه لكن في شكل شيك لا يستطيع صرفه، وهو لا يدرك أن الشرطة تتعقّب أثره. يعود إلى الفندق الذي تقيم فيه باتريشيا، حيث يقضيان الوقت في التحدث ومناقشة مستقبلهما معاً وممارسة الحب، ثم تخبره أنها حبلى. في الصباح التالي يكتشفان نشر الجرائد صور ميشيل والجريمة التي ارتكبها. هي تساعده على الاختباء، وتوافق على الانتقال معه إلى إيطاليا. لكن حين تحقق الشرطة معها، وتهددها بالاعتقال والطرد من البلاد. تعود إلى ميشيل الذي يغادر لجلب الطعام. هي تتصل بالشرطة وتكشف لهم عن مخبئه. وعندما يعود ميشيل، تعترف له بأنها وشت به، يهرب لكنه لا يبتعد كثيراً، إذ يسقط صريعاً برصاصة تستقر في ظهره، ويموت في الشارع بينما هي تنظر من دون انفعال. القصة تبدو عادية ومألوفة ومتكررة في العديد من الأفلام البوليسية المنتجة في سنوات الأربعينيات والخمسينيات، لكن ما جعل هذا الفيلم فذاً واستثنائياً ليس القصة بذاتها، بل الطرائق غير العادية التي بها اختار غودار أن يسرد القصة. يقول غودار: «الفيلم هو من ذلك النوع حيث كل شيء يحدث. كل ما يفعله الناس يمكن أن يندمج في الفيلم. في الواقع، ذلك كان نقطة انطلاقي. ما أردته هو أن أتناول قصة تقليدية، وعلى نحو مختلف، أعيد خلق كل ما فعلته السينما. أردت أيضاً أن أعطي إحساساً بأن تقنيات صنع الفيلم قد تم للتو اكتشافها أو تجربتها للمرة الأولى. تقنيات تصوير معينة تُظهر أن بإمكان المرء العودة إلى منابع أو مصادر السينما». قصة واهية، حبكة مفككة، سرد متشظٍ، أحداث غير مترابطة منطقياً، إيقاع غير مألوف، كاميرا محمولة باليد، خروج عن قواعد المونتاج التقليدية، انتقالات فجائية (jump cuts) حيث الرجّة البصرية الناشئة من انقطاع في الكادرات المتتابعة ضمن الحدث المتواصل (في السابق، كان هذا النوع من القطع يعد من الشوائب، ولا يفعله غير الهواة، وهذه التقنية، التي هي في الأصل حيلة مونتاجية، استخدمها جودار على نحو فعال ولافت للأنظار) يعكس انفصال الشخصيات عن الواقع والفجوة العاطفية بينها، انعدام الاستمرار المكاني الزماني، لقطات طويلة بلا قطع، استخدام إضاءة طبيعية، تصوير في مواقع خارجية (باريس وضواحيها) لأسر إيقاعات الحياة اليومية، مشاهد مرتجلة، حوارات عفوية نابضة، تلاعب بتوقعات الجمهور.. بهذا الفيلم، استطاع غودار أن ينتهك القوانين السائدة في ما يتعلق بالسرد والبناء والمونتاج، وأن يحرر لغة الفيلم من الأعراف والتقاليد الموروثة، وأن يشرك المتفرج في علاقة جديدة مع الشاشة، وأن يقدّم تعريفاً عملياً لما تكونه الموجة الجديدة: حرة من قيود السرد التقليدي، المربوط بإحكام. مدافعة عن حرية التعبير الشخصي، والبحث وحركة الكاميرا. في حديثه عن الفيلم، قال جان لوك غودار: «بوسع أي مخرج أن يستفيد مما يشاهده في الأفلام من أجل القيام بإحالات مقصودة ومدروسة. هذا ينطبق عليّ خصوصاً. وهذا يتصل بمواقف سينمائية محضة. هذا يشبه ولعي بالاستشهاد والاقتباس من نصوص الآخرين. إذا كان الناس في الواقع يقتبسون كما يشاؤون وكما يحلو لهم، فلم لا يجوز لنا أن نقتبس كما نشاء؟». فيلم عن السينما من جانب آخر، «على آخر نفس» فيلم عن السينما ذاتها. ولأن السينما تلعب دورا هاماً في حياة غودار الذي يكرّس نفسه كلياً لها، فإنها بالضرورة تلعب الدور الهام نفسه في فيلمه الأول. إنه فيلم مغمور بالسينما، من الإهداء الموجّه إلى شركة إنتاج سينمائية، إلى توجيه تحية حب وتقدير إلى عدد من السينمائيين الكبار، إلى إسناد أدوار ثانوية لعدد من المخرجين الفرنسيين البارزين، إلى الإشارات والإحالات إلى مشاهد معينة من أفلام أخرى. غودار يولي اهتماماً عميقاً بالعلاقة بين الرجل والمرأة، ويصورها بديناميكية متميزة. الفيلم، من بعض النواحي، قصة حب مستحيلة، ضمن تعارضات سياسية وثقافية. في ما بعد، صرّح غودار بأن «على آخر نفس» ليس من أفلامه المفضلة لديه، بل إنه يجده فاشياً، وفاشيته تكمن في رفض الفيلم لواقع العلاقات الاجتماعية، وبث خرافة الوجود خارج تلك العلاقات. إن عدم ارتياحه للفيلم يعود إلى أنه «الفيلم الذي أنجزته من أجل الآخرين. حلم كيف تصنع فيلماً. ربما كان ينبغي للفيلم أن يتخلق، لكن ليس بواسطتي. إنه الفيلم الذي أثار إعجاب النخبة أكثر من الجمهور العادي. أشعر بأنه ليس فيلمي. القليل منه ينتسب إليّ. لهذا السبب أشعر بالقلق تجاهه. وقد احتجت إلى وقت طويل كي أشفى منه. ما أعنيه هو أنك لا تصنع الفيلم، الفيلم هو الذي يصنعك. إنه أشبه بالعمل والحياة.. تحتاج وقتاً لكي تستعيد نفسك، أو على الأقل جزءاً من نفسك». (انظر كتاب كولن مكابي «غودار: صور، أصوات، سياسة»، 1980). ومع ذلك هو من أكثر أفلام الموجة الجديدة ثورية وراديكالية.. ومن بين أكثر الأفلام تأثيراً، على المستوى الفني، في تاريخ السينما.. ومن الأفلام التي تعد نقطة تحوّل في مسار السينما العالمية، أو نقطة انطلاق للسينما الحديثة.. واعتبره عدد من النقاد «درساً في السينما.. السينما الحديثة». لقد حطم أغلب القوانين التقليدية الخاصة بالسرد والأداء وحتى الشكل، حيث الانتقال السريع من موضع إلى آخر، عن طريق المونتاج، لإقصاء ما لا يعد أساسياً للحدث، الذي في أغلبه كان مرتجلاً. إضافة إلى مخاطبة الممثل المباشرة للكاميرا، منتهكاً هذا الفعل الوهم أو الفروقات بين الممثل والشخصية، والعلاقة التقليدية بين الفيلم والجمهور، حيث تصبح هنا علاقة تبادلية، كل طرف يعكس الآخر. إضافة إلى فصل الصوت والصورة وعدم الالتزام بالتزامن بين العنصرين. وهو بكل هذا نجح في إعادة كتابة لغة السينما، مغيّراً القوانين التي بها كانت الأفلام تقدم قصصها إلى الجمهور.. تقنياً وسردياً معاً. وقد سجّل المخرج ألان رينيه انطباعه عن الفيلم، قائلاً: «قدّم الفيلم دليلاً حياً على إمكان استخدام طرائق جديدة في التصوير والمونتاج والحوار وتوظيف الصوت. هذا الفيلم فتح لنا باب المغامرة».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©