الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رحيل صانع الأحلام المؤجلة

رحيل صانع الأحلام المؤجلة
24 يوليو 2008 00:23
توقف قلب القاص والروائي كاظم الأحمدي في الأول من تموز 2008 وبذلك أكمل سنته الميلادية السابعة والستين دون زيادة أو نقصان اعتمادا على تاريخ ميلاده المفترض في الأول من تموز عام ،1941 والأول من تموز هو يوم ميلاد معظم العراقيين من مواليد أربعينيات القرن العشرين الذين قدرت الحكومات أعمارهم لمجهولية أيام ميلادهم الحقيقية· لقد رحل هذا الروائي بعد رحلة التعب التي عاشها مدرسا للغة العربية في المدارس الثانوية في البصرة وبائع كتب قديمة أو ساعات يدوية مستعملة على أرصفة شوارع البصرة القديمة بعد الدوام أيام الحصار الطويل· إذا احتكمنا إلى أيام شبابه وبداية تفتح وعيه الأدبي والفكري والسياسي سنلاحظ ان هذا الكاتب نتاج مرحلة ضاجة بالصراعات السياسية الدامية بين الأحزاب والكتل السياسية وحتى الأدبية فهو نتاج مرحلة ستينيات القرن العشرين تلك المرحلة الدامية التي تركت ندوبا عميقة في الذات العراقية ما زالت آثارها بادية إلى الآن· وخلال تلك الفترة ؟ خصوصا منتصف الستينيات ؟ ظهرت مفاهيم الغربة والاغتراب وتضخمت الذات بعد ضياع المثل والمبادئ التي تشظت وضاعت وسط ذاك الصراع المرير ووسط ذلك الجو المشاكس كان على هذا القاص ومجايليه من كتاب القصة القصيرة أن يجد مكانه بين هذا الحشد الصاخب· البدايات نشر الأحمدي بعض قصصه بداية سبعينيات القرن العشرين، بعدها أصدر مجموعته الأولى ''هموم شجرة البمبر'' عن مطبعة الغري في النجف عام ،1975 وفي هذه المجموعة أعلن القاص عن صوته الخاص وسط ضجيج الأصوات المندفعة نحو ساحة الإبداع الأدبي، وفي هذه المجموعة المتميزة في السرد العراقي القصير اتخذ الأحمدي عالم الناس البسطاء عالما أثيرا له يحفر في اخاديده قصصا مؤثرة، إبطالها رجال مهمشون ونساء متلفعات بالسواد أولئك الرجال الذين يعيشون على قارعة الطرق أو قرب الأنهار من الكسبة والفلاحين والعمال والجنود ونساء ارهقتهن الحروب واقتلعت رجالهن أو أولادهن وغيبتهم بعيدا عن الحياة· وفي مجاميعه الأخرى التي صدرت بعد مجموعته الأولى اغتنى هذا العالم بشخوص وأمكنة ومزارات ورموز دينية وحياتية متنوعة اثثث هذا العالم واغتنت بنسغه الحي· الحرب الأحمدي من الكتاب العراقيين القلائل الذين كتبوا قصة حرب في وقت مبكر من تاريخ هذا المصطلح الذي شاع اثناء الحرب العراقية الإيرانية، فقد حفلت مجاميعه القصصية بانعكاسات الحرب على ذوات أبطاله من النساء والآباء المسنين والأمهات والنساء اليافعات وهم يتساءلون عن مصائر أحبائهم الذين غيبتهم الحرب وضيعت آمالهم وأحلامهم الصغيرة· ففي قصة ''فوانيس مريم'' المنشورة في مجموعته الثانية ''طائر الخليج'' يعمد الأب الحزين على ولده الشهيد الى مخاطبة زوجة الشهيد الشابة باتجاه تجديد الحياة حين يعرض عليها الزواج من ابنه الثاني احمد قائلا: ''وأنا لا أرضى أبدا· كيف أتركك يابنتي تعيشين بقية شبابك حزينة· لا يصح· فكرت أن يكون أحمد، أنت تعرفينه زوجا لك إن لم يكن لديك ثمة مانع ما···'' وفي هذه القصة المؤثرة يطور القاص تقنية تشظي الشخصية القصصية في القصة القصيرة عندما يرصد تساؤلات الأخ أحمد وحواراته الداخلية مع شخصية أخيه الشهيد حين يستحضر شخصيته عبر ذاته القلقة بديلا في فراش الزوجية وانعكاس ذلك على روحه القلقة، إضافة إلى احساسات الزوجة التي تعيش وضعا نفسيا معقدا في خيارها بين الصورة المعلقة على جدران الغرفة منذ ثلاث سنوات وبين الواقع الجديد الذي يطلبه الاب· لقد رصد القاص من خلال هذه القصة المتميزة ذلك الصراع الداخلي بين الواجب وناموس الحياة عبر صفحات قليلة ولكنها ضاجة بالأسئلة المحيرة ورغبة استمرار الحياة· وفي قصة ''آخر الغربان'' المنشورة في مجموعته الأخيرة ''تراص الأنا'' يستثمر القاص تقنية المناجاة الذاتية ليكشف من خلالها ثقل الحرب على الذات الواعية لمصيرها وهي ترى الخراب الذي عمقته الحرب وحفرت اخاديده العميقة في الذات وصولا الى تخريب العلاقات الحميمة بين الزوج وزوجته· المزارات تحفل مجاميعه القصصية بمزارات وأضرحة الأولياء التي تجسد اعتقادات الناس ونزوعهم نحوها، طلبا للمغفرة والراحة فيقدمون النذور ويوزعون الهدايا من أجل ذلك، غير ان القاص يستثمر هذه المزارات لأغراض جمالية وتربوية لا علاقة لها بالوظيفة الدينية أو باعتقادات الناس، ففي قصة ''الذبيحة'' المنشورة في مجموعته ''طائر الخليج'' يرصد القاص مجموعة من زوار أحد المراقد هم ونساؤهم وأطفالهم وقد جاءوا منذ الصباح، وبنفس الوقت يرصد حركة مجيد مطرود الأعمى وهو يقترب من باب المزار في ظهيرة ذلك اليوم متسائلا عن موعد نحر الذبيحة فيتولد انطباع لدى الرجال من زوار المرقد بحاجة الأعمى الى قليل من اللحم وهو انطباع مألوف، ويفتح القاص أفقا مغايرا للتأويل أساسه التبحر في أعماق الشخصية الإنسانية وكشف الأعماق المجهولة من خلال استثمار شخوص من الواقع المعيش ورفع رتبتها الى شخصية فنية· وفي قصة ''مملكة عز الدين'' المنشورة في مجموعته الأولى ''هموم شجرة البمبر'' يستثمر القاص موقع الضريح قرب بيت من بيوت الدعارة في البصرة القديمة ليطور مفهوما مغايرا لقدسية هذه الأضرحة المنتشرة في طول البلاد وعرضها أساسه نزع هذه القدسية، ويتضح ذلك من الحوارات الداخلية المفترضة بين حارس بيت الغواية والولي عز الدين، وينطلق هذا الحوار من المعاناة الشاقة التي يعيشها هذا الرجل وسط لهيب الشمس الحارقة وهو يراقب الشرطي الذي يجلس متربصا الزبائن الذين يحومون حول هذا البيت· الرواية أصدر الراحل ثلاث روايات تشكل ثلاثية متضامنة في شخصياتها وأمكنتها مع تنوع في أزمنتها ومصائر أبطالها وشخوصها··· وتمثل شخصية عقيل المستوحاة من السيرة الذاتية للكاتب (أبوه كان نجارا في معمل النجارة التابع لمصلحة الموانئ العراقية ويلقب بابي عقيل) الشخصية المركزية في الروايات الثلاث، شابا ورجلا واعيا· كما تشكل منطقة المعقل في البصرة حاضنة نموذجية للبيئة الروائية في هذه الروايات، والمعقل، منذ العهد الملكي· لقد كانت مصلحة الموانئ العراقية (آنذاك وليس الآن) حاضنة حضارية متقدمة لما تمتلكه من رصيد مالي كبير ومستقل عن الخزينة العراقية أتاح لاثنين من مديريها المصلحين انشاء مدينة حديثة ونظيفة، غير أن هذه المدينة لم تكن ملكا الا للموظفين الكبار، أما ما يحيط بها من بيوت متداعية، تتناهبها الأمراض ويعشش فيها الجوع والمرض والأمية، فكانت تشكل قاع المدينة الضاج بكل أسباب البؤس، الذي يحيط بهذا البذخ ولا ينتمي اليه· وفي هذه البيئة كتب الراحل رواياته ومعظم قصصه القصيرة· في روايته الاولى ''أمس كان غدا'' الصادرة عام 1992 يتعرف عقيل المراهق على الآخر الأجنبي متمثلا بمستر فيلمن وزوجته الشابة، من خلال علاقة والده (أبو عقيل) الذي يعمل مع مستر فيلمن الذي كان يعمل بصفة مستشار أو خبير، وتدور معظم أحداث الرواية في منزل الانكليزي، إذ يطلب من عقيل مساعدة مسز فيلمن في أعمال البيت، وخلال ذلك تتطور العلاقة بينهما، ليصبح (عقيل) (اوتلو) من وجهة نظر مسز فيلمن الذي يمتلك طاقة جنسية كبيرة تدربها هذه المرأة وتستثمرها لإطفاء غريزتها، اما الأحداث الباقية في الرواية فتنتهي على أعتاب قيام ثورة 14 تموز عام ،1958 التي تكشف لابي عقيل وابنه الدور الاستخباري لمستر فيلمن، وخلال ذلك تسير الاحداث باتجاه آخر، يتخلص فيها (عقيل) من اسمه الأجنبي (اوتلو) ويعود الى حاضنته الأولى· وفي روايته الثانية ''نجميات الظهيرة'' الصادرة عام 2001 التي تشغل فيها شخصية عقيل مركزا واضحا فهي نتاج احداث ما بعد ثورة 14 تموز ،1958 في حين تستثمر روايته الأخيرة ''تجاه القلب'' التي صدرت قبيل وفاته بأشهر قليلة، والتي بقيت محجوزة في دار الشؤون الثقافية مدة طويلة، امتد من العهد السابق الى العهد الجديد!! فإنها تعايش الأحداث الدامية التي كرستها ردة 8 شباط الدموية وانعكاساتها على الذات العراقية·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©